محمد غفير
كاتب و مدون
(Mohamed Gafir)
الحوار المتمدن-العدد: 8497 - 2025 / 10 / 16 - 10:05
المحور:
حقوق الانسان
تمهيد: ظلّ رجلٍ فوق الرؤوس
في مساءٍ من أيّام مايو (مايو 2011 تحديدًا)، احتفل العالم بوفاة أكثر المطلوبين —حسب ما أعلنه البيت الأبيض— وهو أسامة بن لادن، زعيم تنظيم القاعدة. ومنذ اللحظة الأولى، ثار جدل عاصف: هل فعلاً تم تصفيته؟ ولماذا لم تُنشر صور تثبت موته؟ وأين صُرِف جثته؟ وما الأدلة التي يقدمها المشكّكون؟ وما ردّ الولايات المتحدة على تلك الشكوك؟ هذا المقال يحاول الإجابة على هذه الأسئلة بأسلوب عاطفي، لكن مدعوم بتحليل عقلاني، استنادًا إلى المصادر المعلنة والشكوك المطروحة.
قال المفكّر الفرنسي رولان بارت: «الشكّ ليس موتًا، بل تنفس الفكر» — ومن باب الشكّ ننطلق لنسبر أعماق هذه القضية.
---
أولًا: تسلسل الرواية الرسمية لاغتيال بن لادن
قبل أن ندخل في الشكوك، لا بدّ من سرد النسخة الرسمية التي تُروّجها الولايات المتحدة، باعتبارها الأرض التي يُقاس عليها النقد:
1. العملية
نفّذت القوات الخاصة الأمريكية هجومًا ليليًا على مجمعٍ في مدينة أبوت أباد في باكستان في الثاني من مايو 2011.
استغرقت العملية نحو 40 دقيقة.
كما شاركت فيها وحدات “سيل – SEAL Team Six” بالتنسيق مع وكالة الاستخبارات الأمريكية (CIA).
2. مقابلة الجثة والتحقيق
بعد مقتل بن لادن، أوضحت الولايات المتحدة أنها أجرت فحصات الحمض النووي (DNA) وصور الوجه (facial recognition) للتأكد من هويته.
كما ذُكر أن زوجته قد عرفت الجثة أثناء العملية.
بعض التصريحات أشارت إلى أن وكالة الاستخبارات استخدمت عينات من أقاربه للمطابقة.
3. دفن الجثة في البحر
أعلنت الولايات المتحدة أن الجثة نُقلت إلى السفينة USS Carl Vinson في البحر العربي، وأُديت مراسم دينية إسلامية ثم دُفنت في عرض البحر خلال 24 ساعة من الوفاة.
وردّ السبب أن «لا دولة تقبل الجثة»، وكذلك أن دفن الجثة في مكان ثابت قد يُحوّل إلى مزار.
كما زُعم أن الدفن في عرض البحر يتوافق مع الشريعة الإسلامية إذا لم يكن بالإمكان دفن الجثة في أرض مقبولة شرعًا.
4. قرار عدم نشر الصور
بعد إعلان موته، ترددت مطالبات بنشر صور الجثة لإثبات المصداقية. إلا أن الإدارة الأمريكية رفضت، مبرّرة ذلك بأن الصور ستكون «مروّعة» وقد تُستغَل للتجنيد أو التحريض.
كما أشار البيت الأبيض إلى أن نشر الصور قد يعرّض القوات الأمريكية للخطر.
واقترحت بعض الأوساط أن الصور قد لا تُنشر أيضًا لكونها قد تثير الغضب أو الذعر.
بهذه الرواية، تُقدَّم العملية كإنجاز استخباراتي وعسكري محكوم، لكن ثمة شروخ بدأت تظهر من فوره، فهنا يبدأ اللغز.
---
ثانيًا: أبرز الشكوك والمُعارضات في مصداقية الرواية
منذ اللحظة الأولى لاغتيال بن لادن، ظهر صوت المشكّكين: أولئك الذين لا يقبلون الرواية الرسمية كما هي. إليك أبرز الأدلة التي يستندون إليها:
1. غياب الصور والدلائل البصرية
غياب الصور الرسمية: لم تُنشر سوى صور قليلة أو مزعومة (بعضها يجري التشكيك في صحتها) لجثة بن لادن.
رفض الإدارة نشر الصور: أعادت الإدارة تأكيد أن الصور ليست ملائمة للنشر، خشية استخدامها في الدعاية أو التحريض.
تحذير من استخدامها كأداة دعائية: في مقال PBS ذُكر أن الرئيس أوباما رفض نشر الصور خشية أن تستخدم كـ «غنيمة دعائية».
غياب الفيديوهات: خلال العملية، يُذكر أن الكاميرات المركَّبة على خوذ الجنود قطعت أو توقفت خلال 25 دقيقة من العملية — فترة سوداء لم تُفسَّر بشكل مقنع.
هذا الغياب الفاضح للصور والفيديو جعل كثيرين يقولون: “إن لم ترَ الجثة، فكيف تأكدت من موت الرجل؟”
2. الاعتراض على دفن الجثة في البحر
انتهاك الطقوس الجنائزية الإسلامية؟
وفق المعتقدات الإسلامية الشائعة، تُدفن الجثة في الأرض ما أمكن. لكن الولايات المتحدة قالت إنها دفنت بن لادن في البحر، مبرّرة ذلك بعدم وجود دولة تستقبله أو خشية أن يصبح ضريحًا.
بعض العلماء وانتقادات من الأوساط الإسلامية وصفوا العملية بـ “سريعة جدًّا وغير مبررة”.
السرعة المفرطة في الدفن
إحدى الانتقادات تقول: إذا كان الهدف إثباتًا علنيًّا للموت، لماذا دفنتم بسرعة وبعيدًا عن الأعين؟ الأسئلة هنا كثيرة.
تقارير متناقضة بشأن عدد الطلقات
وردت تقارير تقول إن بن لادن تعرض لأكثر من مئة طلقة داخل المجمع، وهو أمر يُثير تساؤلات حول ما إذا كانت هناك مقاومة حقيقية أو تصفية منظمة.
3. روايات بديلة....
أسر أو اعتقال ثم تصفية لاحقة
الصحفي الشهير Seymour Hersh نشر مقالًا في عام 2015 يقول فيه إن الرواية الرسمية «كذبة كبيرة». زعم أن بن لادن كان معتقلًا من قبل الاستخبارات الباكستانية منذ 2006، وأن الولايات المتحدة قاتلته خارج المجمع مع تنسيق مسبق مع باكستان.
في هذه الرواية، لا تتم المواجهة في المجمع كما أُعلن، بل تم نقله وقتلُه لاحقًا، وأن بعض أجزاء جسده قُذفت في رحلة عودة إلى أفغانستان.
لكن هذه الرواية قوبلت بانتقادات عدة، باعتبار أن مصادر Hersh غير معلنة دومًا أو مشكوك في دقتها.
نقل الجثة إلى الولايات المتحدة
وفق تسريبات من وايكيليكس، أشارت بعض المراسلات إلى أن الجثة قد تُرسل إلى مطار دوفير (ديرفر، ديلاوير) لفحص طبي مفصّل قبل دفنها في البحر، وليس دفنها على الفور في البحار.
لكن هذه المراسلات لم تُعترف رسميًا، وتُعدّ من قبيل النظريات غير المؤكَّدة.
4. التناقضات في التصريحات الرسمية
تغيُّر نسخ الرواية
بعض المراقبين لاحظوا أن قصّة العملية تغيّرت في بعض التفاصيل (عدد الطلقات، ما حدث في المجمع، توقيت الدخول والخروج).
غياب السجلات أو نفي وجودها
في استجابة لطلب حرية المعلومات، قالت وزارة الدفاع إنها لا تستطيع العثور على ملفات فحص الحمض النووي (DNA) أو الصور والفيديوهات المتعلقة بعملية الاغتيال.
هذا التنصل من وجود السجلات أثار تساؤلات: إذا أُجريت الفحوصات، فأين الوثائق التي تثبت ذلك؟
نسبة الثقة المعلنة
في تصريح رسمي ورد أن مختصي الـ CIA قارنوا الصور القديمة مع صور الجثة وادعوا ثقة بنسبة 95٪ أنها بن لادن.
لكن 95٪ ليست مئة في المئة، وتبقى هناك هامش للشك، خصوصًا في سياق غياب الأدلة المرئية المطروحة للعامة.
5. الشكّ العام وانعدام الثقة
في مدينة أبوت أباد نفسها، أفاد مراسلون أن الكثير من السكان لا يصدقون أن بن لادن كان يعيش بينهم، أو تم اغتياله هناك.
يردد البعض أن القصة برمتها مفبركة، وأن الحملة الإعلامية كانت أقوى من الحقيقة الفعلية.
كما أن في الأبحاث النفسية حول نظريات المؤامرة، يُشير البعض إلى أن مثل هذه القضايا تُشكّل أرضًا خصبة لنمو الشكوك، لأن الناس ترفض أن تُروى لهم قصة بلا أدلة بصرية.
كما قال المفكر المصري عباس محمود العقاد: «ما لا يُرى، قد لا يُصدَّق»، وهو القول الذي تجلّى في هذا اللغز الكبير.
---
ثالثًا: كيف ترد الولايات المتحدة على الشكوك؟ وما الأدلة التي تقدّمها؟
لم تكتفِ الولايات المتحدة بالإعلان فحسب، بل حاولت الردّ على الانتقادات وتقديم الأدلة التي تدعم روايتها. إليك أبرز ما ورد:
أ. الأدلة التي تُقدّمها الولايات المتحدة
1. مطابقة الحمض النووي (DNA Matching)
الإدارة تقول إنها أجرت تحليل الحمض النووي للجثة وقارنتها بعينات من أفراد عائلته، ووجدت تطابقًا «تقريبًا بنسبة 100٪».
كما أن بعض المصادر الصحفية – بعد تسريبات – أفادت أن المختبر العسكري في أفغانستان قام بتحليل الحمض النووي للجثة.
2. مقارنة صور الوجه
استخدم خبراء التعرف على الوجوه صورًا لبن لادن واقعيًا وقارنوا مع صور الجثة، وادعوا أنها تطابق بنسبة كبيرة.
هذا الأسلوب يُستخدم في كثير من القضايا الجنائية لمعرفة الهوية.
3. شهادة زوجته
في التصريحات الرسمية ذُكر أن زوجة بن لادن تعرفت على الجثة أثناء تواجدها في المجمع، ما قد يُعزّز المصداقية.
إن صحت هذه الشهادة، فهي دليل فردي لكنه مقبول في بعض الحالات.
4. التصريحات الإعلامية للأعداء (القَبول الرسمي بموته من قِبَل القاعدة)
بعد بضعة أيام من الإعدام، نشرت مواقع القاعدة إعلانات تؤكد مقتل بن لادن، وهو ما يُعدّ مؤشرًا ضمنيًّا بأن الجماعة اعترفت بوفاته.
أيضاً، بعض الفصائل التي كانت تنتمي إلى شبكات القاعدة أكّدت الخبر.
5. غياب اعتراض رسمي من باكستان أو رفض للنتائج
رغم أن باكستان تُعد الدولة التي وقعت فيها العملية، لم تصدر باكستان اعتراضًا واضحًا جريئًا ينفي المقتل، بل إن تقرير لجنة “أبوت أباد” قدّم بعض الانتقادات، لكنه لم ينفي المقتل بشكل قاطع.
التقرير الذي قدّمه “لجنة أبت أباد” بقي مصنَّفًا في باكستان ولم يُعلَن بالكامل للعامة، مما أزعج كثيرين.
ب. كيف تردّ على ادّعاءات المشككين؟
عدم نشر الصور حفاظًا على الأمن
الإدارة تقول إن نشر الصور قد يُستخدم للتجنيد أو التحريض، وقد يُعرض الجنود أو المصالح الأمريكية للخطر.
الاعتبار بأن الجثة دُفنت في البحر لأنّ لا دولة تقبلها
حسب الرواية، أُجريت المراسم بسرعة إذ لا يمكن الاحتفاظ بالجثة فترة طويلة، ولا يجوز تأخير الدفن.
أن بعض التفاصيل قد تختلف لكن الجوهر ثابت
التناقضات الطفيفة في الروايات قد تحدث في حرب استخباراتية، لكن الجوهر — أن بن لادن قُتل — لا جدال فيه وفق الرواية الرسمية.
---
رابعًا: هل فعلاً تم تصفية بن لادن؟ — تفسير شخصي تحليلي
لكلّ رواية سلبياتها وإيجابياتها، وفي هذه المسألة ظهور الجدل هو السائد. إليك تحليلي الشخصي بناء على الأدلة والشكوك:
من الصعوبة أن تُنفذ عملية بهذا البُعد العسكري والاستخباراتي — مع مراقبة عالمية مركزة — وتكون “مسرحية” بالكامل.
من جهة أخرى، غياب الصور والفيديوهات هو ثغرة كبيرة تُسقط مصداقية الرواية في أذهان كثيرين، خصوصًا في عصر الإعلام الرقمي والفضائح المصوّرة.
كما أن دفن الجثة في البحر بسرعة وبطريقة غير واضحة يُعطي متسعًا للشك أن الهدف ليس فقط تصفية، بل ربما ضبط الرأي العام أو إدارة سردية ترويجية.
إنني أرى أن الأرجح — مع أنني لا أستطيع الجزم — هو أن بن لادن قد قُتل بالفعل في تلك العملية، لكن تفاصيل الوفاة والموقع الدقيق للجثة قد تمّ التعتيم عليها لأسباب سياسية وأمنية. الرواية الرسمية تحمل أدلة من نوع علمي وتقنيات حديثة (DNA، التعرف على الوجه)، وهي ليست بالكذب الصريح بالضرورة، بل ربما تحوّلّت إلى قصة «مقولبة» تُروّجها واشنطن بعناية.
كما أن من حقّ الجمهور أن يطلب الشفافية: إن كانت الصور موجودة، فلم تُنشر؟ إن كانت فحوصات DNA أجريت، فلماذا لا وثائق رسمية؟ إن كان من الضروري دفن الجثة بسرعة، فلماذا لا إفصاح واضح؟ المطلوب ليس إنكارًا أو تأييدًا مطلقًا، بل مواصلة البحث والتدقيق، كما قال توماس مور: «الحقيقة تنجو بالبحث لا بالمناورة».
---
خاتمة: لغز باقٍ بين الحقيقة والظلال
في نهاية هذا المقال، نقف أمام حقيقة واضحة: لم تُكتب الرواية الكاملة بعد. الشكوك قائمة، لكن الأدلة المعلنة تضع أساسًا لاتجاه واحد. إن الجمهور، خاصة الباحثون والمثقفون، لا بدّ أن يستمرّوا في طرح الأسئلة ومطالبة الحكومات بالشفافية.
#محمد_غفير (هاشتاغ)
Mohamed_Gafir#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟