محمد غفير
الحوار المتمدن-العدد: 8492 - 2025 / 10 / 11 - 10:48
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في ذكرى مرور عامين على «طوفان الأقصى» — في 7 أكتوبر 2023 — يبرز سؤالٌ سياسيٌّ مؤلم: كيف تغيرت موازين السيطرة والحياة داخل غزة بين ذاك اليوم واليوم، عند لحظة الهدنة المعلنة؟ هذا المقال أحاول أن اقدم قراءة فاحصة تحليلية، بمزج بين الأرقام والتاريخ والقصص الإنسانية، مع محاولة للتأمّل في مستقبل القطاع.
---
تمهيد سياقي: غزة قبل 7 أكتوبر 2023
قبل اندلاع معركة «طوفان الأقصى»، كان قطاع غزة يعيش وضعًا هشًّا، لكن ليس في حالة تدمير شامل كما اليوم. رغم الحصار الإسرائيلي المتكرر، فقد كان هناك مساحات من الحياة المدنية التي تتسع — اقتصاد ضعيف وبنية تحتية متهالكة، لكن شبكة خدمات أساسية لا تزال تعمل جزئيًا، وحركة معابر محدودة. في الأوساط السياسية الفلسطينية والدولية، كانت القضية الفلسطينية تتراجع تدريجيًا من واجهة التحشيد العربي والدولي. كما أن هذه الفترات شهدت تفاوتًا كبيرًا في قدرة حماس على إدارة القطاع على المستوى المدني مقابل العبء العسكري والمقاوم.
كما أن الحصار كان ممارسة دائمة: في 9 أكتوبر 2023، أعلنت إسرائيل حصارًا شاملًا على غزة، مع منع دخول الغذاء والماء والوقود والكهرباء والدواء، كجزء من استجابة مباشرة لبدء العمليات العسكرية على القطاع.
وبحسب المصادر، فقد سُجلت قبل أكتوبر 2023 ضغوط اقتصادية شديدة، معدلات فقر مرتفعة، وانخراط كبير من المنظمات الدولية في المساعدات، لكن غزة لم تكن في حالة دمار كامل مثل ما هي عليه الآن.
---
تحوّل المواجهة: من المعركة إلى الهدنة — عناصر التحول
بداية المواجهة وسياسات التدمير
في صباح 7 أكتوبر 2023، شنت حركة حماس مع فصائل المقاومة هجومًا واسعًا على مواقع حدودية ومستعمرات إسرائيلية، مستعملة إطلاق آلاف الصواريخ والتسلل البري، ضمن ما أُطلق عليه «طوفان الأقصى».
ردت إسرائيل بشن هجوم عسكري شامل على القطاع، ترافق مع فرض حصار صارم منذ 9 أكتوبر 2023.
الدمار في البنية التحتية عمرانياً كان هائلًا. دراسة باستخدام بيانات الأقمار الصناعية تُشير إلى أن حوالي 191,263 مبنى تعرضت للتدمير أو الأضرار حتى منتصف مدة النزاع.
كما أن أعداد القتلى والمصابين تراوحت في الأرقام التي تفوق ما كانت تُسجّله أي نزاع سابق في غزة خلال فترات قصيرة. على سبيل المثال، تقارير Reuters أفادت بأن عدد القتلى في غزة منذ بدء النزاع تجاوز 67 ألف فلسطيني، بينهم أطفال، بحسب وزارة الصحة في غزة.
الضغط على المدنيين كان متزايدًا: عمليات النزوح الداخلي كانت واسعة، وقدرت الأمم المتحدة أن نحو 417 ألف حالة نزوح من شمال القطاع إلى الجنوب تمّ تسجيلها.
كما أن منظمات دولية تحدثت عن تفشي المجاعة؛ فحسب أداة التصنيف المرحلي للأمن الغذائي فإن حوالي 514 ألف شخص يعانون من الجوع الشديد.
---
السيطرة الإسرائيلية على القطاع: ما تغيّر؟
إلى جانب القصف والتدمير، السيطرة الميدانية والاستراتيجية هي إحدى عناصر المعادلة التي تكشّفت على مدى العامين.
إسرائيل أعلنت انسحاب قواتها إلى «الخط الأصفر» في لحظة الهدنة، أي أن بعض القوات لا تزال تحتفظ بمواضع خلفية داخل القطاع.
مع سريان وقف إطلاق النار، تمّ السماح بعودة نحو 200 ألف مدني تقريبًا إلى شمال القطاع، وهو مؤشر ضمني على أن أجزاءً من القطاع ليست تحت السيطرة العسكرية المكثفة الآن.
رغم ذلك، أعلن الجيش الإسرائيلي أن بعض المناطق «لا تزال خطيرة للغاية» بالنسبة لعودة المدنيين، ما يعكس أن السيطرة الكاملة الميدانية لم تستعد بعد.
واحدة من نقاط الصراع الجوهرية كانت المعابر والتحكم في الحدود: حتى مع الهدنة، فإن إسرائيل لا تزال تتحكّم في المعابر البرّية والهواء والبحر، وهو ما يؤكّد أن السيطرة الأمنية والسياسية الفعلية لم تُنهَ بالكامل.
باختصار، إسرائيل فقدت في كثير من القطاعات السيطرة العملية المباشرة في الشوارع بعد الهدنة، لكن ما تزال تسيطر على البنى الحيوية الأمنية واللوجستية.
---
وضع المدنيين: بين الدمار والعودة والمعاناة
إذا كانت السيطرة العسكرية قضية، فإن المعادلة الحقيقية تُقاس بمعاناة السكان المدنيين:
الأعداد والتكاليف الإنسانية
القتلى: كما سبق، تقارير تفيد بأن عدد القتلى في غزة تجاوز 67 ألف شخص منذ 7 أكتوبر 2023 حتى الآن.
الجرحى والمصابين: يُقدَّر عدد الجرحى والمصابين في غزة بنحو 170 ألفًا، بمن فيهم حالات بتر واحتياج إلى علاج طويل الأمد في الخارج.
المباني المدمّرة أو المتضررة بشدة وصلت إلى مئات الآلاف — وفق تقارير مختلفة، نحو 193 ألف مبنى دُمّر أو تعرض لأضرار كبيرة.
من المستشفيات والمرافق الصحية، تقول تقارير إن عدد المنشآت المتضررة كبير للغاية، مع خروج معظم المستشفيات عن العمل الكامل، وهو ما يزيد الكلفة الصحية على المدنيين.
المدارس والمؤسسات التعليمية تعرضت أيضًا لدمار واسع.
النزوح والعودة: آلاف العائلات التي نزحت خلال الحرب باتت تُجرّب العودة الآن. مع سريان وقف إطلاق النار، عاد نحو 200 ألف شخص تقريبًا إلى مناطق شمال القطاع.
التحديات المستمرة والآفاق الصعبة
العودة إلى الديار لا تعني عودة الحياة: المنازل مدمرة أو غير صالحة للسكن، البنى التحتية الأساسية (الكهرباء، المياه، الصرف الصحي) في حالة شبه انهيار.
الكثير من العائدين لا يملكون ما يكفي من الموارد لإعادة البناء، ولا توجد خطط فورية لإعادة الإعمار الكامل.
الخدمات الصحية متضررة بشدة، والكثير من المصابين بحاجة إلى علاج في الخارج أو إلى تأهيل طويل.
رغم العودة، تظل المخاطر قائمة في بعض المناطق التي أعلن الجيش الإسرائيلي أنها «خطيرة»، مما يجعل العودة الكثيفة محفوفة بالمخاطر.
---
تقييم سياسي: ماذا يعني هذا التحول؟
إن ما نراه اليوم في غزة بعد عامين ليس مجرد قِصة حرب مرّت وهدنة دخلت حيّز التنفيذ، بل تحول جذري في دورة الصراع:
1. فشل النموذج العسكري الكامل
إسرائيل دخلت إلى غزة بقوة عسكرية غير مسبوقة، لكنها لم تحتفظ بالسيطرة الكاملة على الشوارع بعد التقدم الميداني، بل انسحبت جزئيًا إلى مواقع خلفية، مفسحة المجال للعودة المدنية أو المقاومة المتجددة. الأداء العسكري الصارم لم يحقّق كامل الأهداف التي رسمتها إسرائيل في البداية.
2. الهيمنة الأمنية ـ اللوجستية تبقى بيد إسرائيل
رغم تراجع السيطرة الميدانية، فإن السيطرة على المعابر، التحكم في الحركة، وما تبقى من القدرة على التأثير في البنى الحيوية (الكهرباء، القطاعات الحدودية، الإمدادات) ما زالت أدوات إسرائيلية. هذا يضع القطاع في حالة تبعية جزئية حتى في مرحلة الهدنة.
3. معادلة المقاومة واللحظة الرمزية
المقاومة في غزة — رغم الأضرار الشديدة — نجحت في استثمار الحدث الرمزي لـ 7 أكتوبر لفتح ملف غزة من جديد أمام المجتمع الدولي، وفرض وجودها في الحسابات السياسية. كثير من الدول والجماهير أُجبرت على إعادة التجاذب مع القضية الفلسطينية بعد أن كانت في مرحلة تراجع.
4. إشكالية إعادة البناء والتعافي
حتى إن استمرت الهدنة، فإن إعادة البناء تحتاج إلى تمويل ضخم، إلى تسهيلات دولية، إلى ضمانات أمنية، وإلى مشاركة فعالة من دوائر القرار الدولية والعربية. إذا فشلت هذه الجهود، قد تعود غزة إلى دورة من الانهيار المستمر.
5. مقاربة الحقوق والقانون الدولي
قضية السيطرة على القطاع لا تُفهم فقط من منظور عسكري، بل من منظور قانوني وسياسي: هل يُعد القطاع اليوم واقعًا تحت احتلال فعلي، أم أن السيطرة الإسرائيلية المتواصلة على المعابر والهواء تعني أن الاحتلال مستمر؟ هذا السؤال سيظل مطروحًا في أي مفاوضات سلام أو محكمة دولية.
---
خاتمة: بين الذكرى والرهان المستقبلي
في الذكرى الثانية لطوفان الأقصى، لا يُحتفى بانتصار كامل ولا يُعلن هزيمة مطلقة، بل يقف سكان غزة أمام واقع جديد من التحدي. الأرقام التي جُمعت ليست مجرد إحصائيات جامدة، بل شواهد على مأساة بشرية هائلة، وعلى صراع متجدد بين سيطرة ميدانية متلاشية وتحكم أمني لوجستي مستمر، بين رغبة جماعية في العودة وبيروقراطية الهيمنة، بين إرادة شعبية في العيش الكريم وأطراف دولية تُحرك المفاتيح خلف الستار.
إن درس العامين هو أن قوة السلاح وحدها لا تكفي لإنهاء الصراع، وأن معادلة السيطرة الإنسانية والسياسية تحسم إلى جانب الميدان أيضًا. المستقبل في غزة الآن رهين بمدى قدرة الفصائل الفلسطينية، والمجتمع الدولي، والمحاور الإقليمية، على بناء مشهد يعترف بحق العودة، والاستقرار، والكرامة، وليس مجرد هدنة مؤقتة.
#محمد_غفير (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟