محمد غفير
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 09:32
المحور:
العلاقات الجنسية والاسرية
مقدمة: انهيار القيم في زمن الرأسمالية المتوحشة
لم يعد الحديث عن "هدم الأسرة" و"تفكيك المجتمع" مجرد أطروحة يروجها أنصار نظرية المؤامرة أو دعاة الرجعية كما كان يُقال في العقود الماضية، بل أصبح واقعًا معاشًا يلمسه كل من ينظر بعمق في تفاصيل حياتنا اليومية.
فها نحن نشهد في مجتمعاتنا العربية والإسلامية انحدارًا واضحًا في قدرة الشباب على تكوين أسر مستقرة، وتفاقمًا في نسب الطلاق، وتحول محاكم الأسرة إلى ساحات صراع لا تنتهي، كل ذلك في ظل ضغوط اقتصادية خانقة وثقافة استهلاكية جارفة، جعلت من الإنسان مجرد ترس صغير في ماكينة ضخمة تحركها "الرأسمالية المتوحشة".
لقد حذر العديد من المفكرين منذ عقود من هذا المصير. يقول جورج أورويل في روايته 1984:
"السلطة الحقيقية ليست في الحفاظ على الناس، بل في تدميرهم وإعادة تشكيلهم كما نريد."
وهذا بالضبط ما نراه اليوم: إعادة تشكيل الوعي الجمعي للأفراد، بحيث يُفقد الإنسان إحساسه بالانتماء للأسرة والمجتمع، ويصبح ولاؤه الأوحد للمادة والاستهلاك.
---
أولًا: من تفكيك الأسرة إلى تفكيك الإنسان
الأسرة هي الخلية الأولى في جسد المجتمع، فإذا انهارت، انهار البناء كله. كان ابن خلدون يرى في مقدمته أن "الإنسان مدني بطبعه"، أي لا يكتمل وجوده إلا داخل منظومة اجتماعية متماسكة، تبدأ بالأسرة ثم تتسع إلى القبيلة والمجتمع والدولة.
لكن مع تصاعد موجات العولمة الرأسمالية، لم يعد الهدف هو بناء مجتمع متماسك، بل خلق سوق مفتوح لا يعرف قيدًا أخلاقيًا أو عاطفيًا.
لقد أصبحت الأسرة عبئًا على "النظام الاقتصادي الجديد" لأنها تعيق الفرد عن أن يكون مستهلكًا حرًا بالكامل، بل تمنحه روابط ومسؤوليات تحدّ من شهواته ورغباته. ومن هنا، بدأ مشروع التفكيك الممنهج:
تشويه صورة الزواج في الإعلام باعتباره قيدًا أو سجنًا.
تقديس الفردية على حساب الجماعة.
تسليع العلاقة بين الرجل والمرأة بحيث تتحول إلى صفقة مادية أو متعة مؤقتة بلا التزام.
يقول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار في كتابه مجتمع الاستهلاك:
"لم يعد الإنسان يستهلك الحاجات، بل الرموز. وكل شيء حوله يتحول إلى سلعة، حتى الحب."
---
ثانيًا: الواقع العربي... فشل المؤسسة الأسرية من الجذور
في مجتمعاتنا العربية، نعيش اليوم مشهدًا مأساويًا. فالشاب العشريني الذي كان في الماضي يملك طموحًا واضحًا لبناء بيت وأسرة، أصبح اليوم عاجزًا أمام شروط الزواج التعجيزية:
مهر مرتفع يفوق قدرته.
تكاليف شقة وأثاث وأسرة لا تقل عن مئات الآلاف.
طلبات أسرية لا تنتهي تحت شعار "نريد لبنتنا حياة كريمة".
لكن كيف تُبنى "حياة كريمة" على أساس مادي هش؟
كيف نطالب شبابًا بالكفاح من أجل الزواج، بينما نغلق أمامه كل أبواب الأمل؟
إن النتيجة الطبيعية لهذه المعادلة الظالمة كانت عزوف الشباب عن الزواج وارتفاع نسب الطلاق بصورة غير مسبوقة.
وفقًا لإحصاءات محاكم الأسرة في مصر والدول العربية خلال السنوات الأخيرة، فقد تجاوزت نسب الطلاق في بعض المدن الكبرى 40% من حالات الزواج خلال أول خمس سنوات فقط.
وهذا ليس مجرد رقم؛ إنه مؤشر على انهيار بنية المجتمع من الداخل، وعلى أزمة قيمية لا تقل خطرًا عن الأزمات الاقتصادية والسياسية.
---
ثالثًا: محاكم الأسرة... مسرح الدراما الاجتماعية الكبرى
لم تعد محاكم الأسرة أماكن لتطبيق العدالة فحسب، بل أصبحت مرآة تعكس مأساة المجتمع.
هناك، تُروى قصص الخيانة، العنف، الكراهية، النفور، والندم.
هناك يُمزق ما تبقى من الروابط بين الزوجين، وتُسحق براءة الأطفال تحت أقدام الصراع.
تقول إحدى السيدات في اعتراف نقلته صحيفة عربية:
"لم أعد أحتمل العيش مع رجل يقيس كل شيء بالمال، حتى الحب."
ويرد رجل آخر في جلسة أخرى:
"الزواج اليوم صفقة خاسرة، تدفع فيها كل شيء مقابل لا شيء."
تلك الأصوات ليست فردية، بل تعكس روحًا جماعية فقدت الثقة في فكرة الزواج نفسها.
---
رابعًا: النموذج الغربي... الطريق الذي نسير عليه
حين نحذر من تقليد الغرب في منظومته الأسرية، فليس ذلك رفضًا للتقدم، بل رفضًا لتفكك الإنسان نفسه.
لقد بدأ الغرب منذ منتصف القرن العشرين بتفكيك الأسرة التقليدية عبر:
تشجيع العلاقات الحرة دون زواج.
إضفاء الشرعية على الزواج المثلي.
نشر ثقافة "استقلال المرأة عن الرجل" حتى لو كان الثمن هو الوحدة والعزلة.
كانت النتيجة أن أصبحت نسب الزواج في أوروبا وأمريكا في أدنى مستوياتها، بينما ترتفع نسب الاكتئاب والعزلة والانتحار بشكل مخيف.
يقول الفيلسوف إريك فروم في كتابه فن الحب:
"لقد تحوّل الإنسان الحديث إلى سلعة، يسوّق نفسه في سوق العلاقات كما تُسوّق البضائع. الحب لم يعد التقاء روحين، بل صفقة مؤقتة قابلة للاستبدال."
والأدهى أننا في العالم العربي نسير على الخطى ذاتها، نكرر التجربة نفسها، دون أن نتعلم من أخطاء الآخرين.
---
خامسًا: الإعلام... الأداة الأخطر في عملية التفكيك
في عالم اليوم، لم تعد الجيوش وحدها قادرة على إسقاط الأمم، بل يكفي أن تتحكم في وعيها الجمعي عبر وسائل الإعلام.
لقد لعبت الدراما العربية والأجنبية دورًا خطيرًا في ترسيخ مفاهيم جديدة حول العلاقات الأسرية:
الزوجة الذكية هي التي تتمرد.
الرجل القوي هو المتعدد غير الملتزم.
الزواج مملّ، بينما الحب خارج الزواج مغامر وجميل.
هذا ما يسميه الفيلسوف الإيطالي أنطونيو غرامشي بـ الهيمنة الثقافية، أي السيطرة على العقول دون استخدام القوة.
فما حاجة الأنظمة الرأسمالية إلى قهر الناس بالسلاح، إذا كانت قادرة على تحويلهم إلى عبيد طوعيين يلهثون وراء الماركات والأجساد والمظاهر؟
---
سادسًا: الحل... استعادة الوعي قبل فوات الأوان
لا يمكن لأي مشروع نهضوي أن يقوم دون إعادة بناء "الأسرة".
فهي الحاضنة الأولى للقيم، والمدرسة الأولى للمواطنة، والمصنع الحقيقي للإنسان الحر.
يجب أن نبدأ من إعادة تعريف مفهوم الزواج بوصفه شراكة روحية وإنسانية قبل أن يكون مشروعًا ماديًا.
ويجب أن نعيد النظر في ثقافة المغالاة في المهور والشكليات الاجتماعية التي حوّلت الزواج إلى سباق طبقي لا يقدر عليه الشباب.
كما علينا أن نُصلح الإعلام والتعليم، ونغرس في الأجيال الجديدة قيم التعاون، والمسؤولية، والعفاف، والاحترام المتبادل.
يقول المفكر مالك بن نبي:
"المجتمع لا يُبنى بالعمارات والطرق، بل بالإنسان الصالح الفاعل في محيطه."
وإذا أردنا إنقاذ مجتمعاتنا من مصير التفكك، فلا بد أن نبدأ من إصلاح الإنسان داخل بيته، لا خارجه.
---
خاتمة: من المؤامرة إلى المسؤولية
قد يقول قائل: "كل ما يحدث ليس مؤامرة، بل تطور طبيعي للحياة."
لكن الحقيقة أن التطور لا يعني الهدم دون بديل، ولا يعني الحرية دون مسؤولية.
إننا نعيش لحظة مفصلية في تاريخنا الاجتماعي، فإما أن نعيد للأسرة مكانتها، وإما أن نصحو يومًا فنجد أنفسنا أيتامًا في عالم بلا جذور.
ولعل كلمات الأديب الروسي دوستويفسكي في روايته الإخوة كارامازوف تصلح أن تكون مسك الختام:
"إذا لم يكن في الأسرة حب، فليس في العالم خلاص."
إنها ليست رجعية ولا نظرية مؤامرة؛ إنها الحقيقة المرة: من يهدم الأسرة يهدم الأمة، ومن يبيع القيم تحت شعار الحرية، يبيع مستقبله دون أن يدري.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟