محمد غفير
الحوار المتمدن-العدد: 8490 - 2025 / 10 / 9 - 19:10
المحور:
حقوق الانسان
مقدمة
منذ نشأة منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، كان الأمل يحدو الشعوب بأن يكون هذا الكيان الدولي مظلةً للعدالة، ودرعًا يحمي الضعفاء من بطش الأقوياء. لكن السنوات والعقود التي تلت التأسيس أثبتت أن القانون الدولي ليس إلا أداة بيد القوى الكبرى، تُفعّل مواده حين يخدم مصالحها، وتُعطّل حين تمسّ هيمنة نفوذها.
لقد تحوّل ما يُسمّى بـ"المجتمع الدولي" إلى مسرح مزدوج الوجوه، يرفع شعارات الحرية وحقوق الإنسان في وجه دول العالم الثالث، بينما يغضّ الطرف عن الجرائم والانتهاكات التي ترتكبها الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني في حق الإنسانية. وكأن العدالة أصبحت «امتيازًا سياديًا» يُمنح للأقوياء ويُحرم منه المستضعفون.
---
القانون الدولي... سيف على رقاب الضعفاء فقط
إن المتتبع لآليات تطبيق القانون الدولي يجد نفسه أمام مفارقة صارخة؛ فحين يتعلق الأمر بدولة إفريقية أو عربية أو آسيوية، تُفرض العقوبات الاقتصادية فورًا، وتُفعّل قرارات مجلس الأمن بصرامة مذهلة، وكأن العدالة استيقظت فجأة. أما حين تكون الدولة المتهمة هي أمريكا أو إسرائيل، تتبدّل لغة الخطاب من «الإدانة» إلى «القلق العميق»، ومن «العقوبة» إلى «الدعوة إلى ضبط النفس».
ولعلّ أبرز مثال على هذه الازدواجية ما شهدناه في الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حين تجاوزت الولايات المتحدة قرارات مجلس الأمن وغزت دولة ذات سيادة دون أي تفويض دولي. لم يُحاسب أحد، ولم يُقدّم أي مسؤول أمريكي للمحاكمة. بل على العكس، وُصف العدوان بأنه «تحرير» من الطغيان. وهنا يحضر قول الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر حين قال:
"حين يرتكب الضعيف جريمة تُسمّى إرهابًا، وحين يرتكبها القوي تُسمّى دفاعًا عن النفس."
---
أمريكا... التاريخ الملطخ بالدماء
من يظن أن جرائم أمريكا ضد الإنسانية بدأت في هذا القرن، فهو لم يقرأ التاريخ جيدًا. فالولايات المتحدة قامت أصلًا على جثث الهنود الحمر، السكان الأصليين للقارة. إبادة جماعية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تمت تحت شعارات «التحضر» و«التوسع المقدس».
كتب المؤرخ الأمريكي هوارد زن في كتابه الشهير تاريخ الشعب الأمريكي:
"لم تكن أمريكا أرض الأحلام كما صُورت، بل كانت أرضًا غُمرت بدماء الأبرياء، من الهنود إلى العبيد، باسم الحرية التي لم يعرفوها أبدًا."
منذ ذلك الحين، استمرّ هذا النهج الاستعماري بأشكال جديدة: من دعم الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية، إلى إشعال الحروب في الشرق الأوسط، إلى فرض الحصار على الشعوب باسم الديمقراطية.
---
إسرائيل... الدولة المدللة لدى القانون الدولي
حين نأتي إلى الكيان الصهيوني، تتجلى أقصى صور الازدواجية. فكل جريمة تُرتكب ضد الشعب الفلسطيني تمرّ دون عقاب، بل بتواطؤ وصمت دولي. تُقصف المدارس والمستشفيات، ويُقتل الأطفال، ويُهدم البيت فوق ساكنيه، ثم يخرج المتحدث باسم البيت الأبيض ليقول: «لإسرائيل حق الدفاع عن النفس».
أي دفاع هذا؟ وأي قانون دولي يبرر القتل الجماعي؟
لقد قال الكاتب والمفكر الأمريكي نعوم تشومسكي:
"إسرائيل لا تخاف من القانون الدولي، لأنها تعرف أن واشنطن هي من يكتبه ويعدله."
هذه العبارة تختصر مأساة العدالة المعطّلة. فحين تتواطأ القوة الأعظم في العالم مع دولة الاحتلال، يصبح الحديث عن حقوق الإنسان ضربًا من السخرية.
---
الأمم المتحدة... منظمة العجز والانتقائية
حين أُسست الأمم المتحدة، وُضعت في ميثاقها أهداف نبيلة: حفظ السلم والأمن الدوليين، احترام حقوق الإنسان، وتحقيق العدالة. لكن ما يحدث على أرض الواقع يكشف أن هذه المبادئ أصبحت شعارات للاستهلاك الإعلامي فقط.
فمجلس الأمن — الهيئة الأهم في المنظمة — يخضع لهيمنة خمس دول دائمة العضوية تمتلك حق النقض (الفيتو)، وهو السلاح الذي يُستخدم لإجهاض أي قرار يهدد مصالحها. بهذا الشكل، تُعطل العدالة بلمسة زرّ واحدة.
وقد وصف الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل هذا الوضع بدقة حين قال:
"ما يسمى بالقانون الدولي هو في جوهره قانون الأقوياء، يُطبّق حين يريدون ويُلغى حين يشاؤون."
---
ازدواجية المعايير... الوجه الآخر للهيمنة
لا يمكن الحديث عن القانون الدولي دون التطرق إلى ازدواجية المعايير التي أصبحت السمة الأبرز في النظام العالمي. فعندما تمتلك روسيا أو الصين نفوذًا سياسيًا أو عسكريًا، تُتّهم بالاستبداد، أما إذا فعلت أمريكا الشيء نفسه، يُقال إنها «تحمي الديمقراطية».
في أزمة أوكرانيا، فُرضت العقوبات على روسيا باسم «القانون الدولي». لكن أين كانت هذه العقوبات حين غزت أمريكا العراق، أو حين دمّرت ليبيا، أو حين أبادت إسرائيل غزة؟
هذا السؤال لا يجد له إجابة إلا في ميزان القوة والمصلحة، لا في ميزان العدالة والقانون.
---
انهيار الثقة في المنظومة الدولية
لقد بدأت الشعوب تدرك أن الحديث عن «النظام الدولي العادل» ليس إلا وهمًا. فالعالم اليوم يعيش تحت حكم إمبراطورية خفية، تحركها المصالح الاقتصادية والعسكرية.
فالعقوبات تُفرض حين تتضرر الشركات الغربية، والحروب تُشنّ حين تهدَّد موارد الطاقة، والمساعدات تُقطع حين ترفع دولة ما رأسها في وجه الهيمنة.
وهكذا، أصبح القانون الدولي سلاحًا سياسيًا يُشهر في وجه من يعارض الغرب، بينما يُخفّف على من يخدم مصالحه.
قال الكاتب المصري جمال حمدان:
"العالم الغربي لا يريد العدل بقدر ما يريد النظام، والنظام في عرفه هو ما يضمن تفوقه وبقاءه على القمة."
---
العالم الثالث... ضحية العدالة الانتقائية
دول العالم الثالث — من إفريقيا إلى الشرق الأوسط — تعيش في دوامة التبعية. تُفرض عليها العقوبات بحجة انتهاك حقوق الإنسان، بينما يُغضّ الطرف عن الأنظمة الحليفة لأمريكا مهما بلغت جرائمها.
وهنا تكمن المفارقة الكبرى: فالقانون الدولي لا يُطبّق وفق معيار الأخلاق، بل وفق ميزان الولاء والعداء.
في ليبيا مثلاً، تدخل الغرب عسكريًا وأسقط النظام بحجة حماية المدنيين، ليترك البلاد غارقة في الفوضى.
وفي اليمن وسوريا والسودان، تتنافس القوى الكبرى على النفوذ لا على السلام.
أما في فلسطين، فالاحتلال قائم منذ أكثر من سبعين عامًا، ولا تزال الأمم المتحدة تكتفي بالشجب والتنديد.
---
الخلاصة: لا عدالة بلا توازن قوة
لقد آن الأوان لإعادة تعريف القانون الدولي، وإصلاح منظومة الأمم المتحدة التي تحولت إلى واجهة سياسية تخدم الأقوياء.
فما لم يكن هناك توازن حقيقي في القوة، سيظل القانون الدولي مجرد حبر على ورق.
العالم بحاجة إلى نظام دولي جديد، أكثر عدالة وإنصافًا، يساوي بين الدول لا وفق قوتها العسكرية، بل وفق إنسانيتها.
ولعلنا نختم بقول المفكر الفرنسي ألبير كامو:
"العدالة بلا قوة عاجزة، والقوة بلا عدالة طغيان."
تلك هي المعضلة التي يعيشها العالم اليوم: قوة بلا عدالة، وعدالة بلا قوة.
---
خاتمة المقال
لقد سقط القناع عن النظام الدولي، وكُشف وجهه الحقيقي حين استُبيحت شعوبٌ كاملة باسم الديمقراطية. لم يعد هناك مبرر لوجود منظومة تزعم حماية الإنسان وهي أول من يدهسه.
وحين نعود إلى كلمات الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش حين قال:
"إذا تعلق الأمر بأمن الولايات المتحدة، فلا تحدثني عن حقوق الإنسان."
ندرك أن العالم لا تحكمه القوانين بل المصالح، وأن الإنسانية التي يُتاجر بها في المؤتمرات ليست سوى ورقة ضغط سياسية.
#محمد_غفير (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟