محمد غفير
كاتب و مدون
(Mohamed Gafir)
الحوار المتمدن-العدد: 8495 - 2025 / 10 / 14 - 07:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أفكار العنف وعنف الأفكار
بين النص المقدس والانفعال البشري
في خضم الصراع بين الفكر والدين، وبين النص المقدس والتأويل البشري، يبرز سؤال بالغ الحساسية والخطورة:
هل يمكن أن تُولَد أفكار العنف من رحم الدين، أم أنها نتاج عنف الأفكار حين تُفسّر النصوص خارج سياقها الإنساني والتاريخي؟
هذا السؤال ليس فلسفيًا مجردًا، بل هو سؤال التاريخ الإسلامي الحديث، الذي ما زال يئن من آثار فكرٍ تبلور في ظروف المعاناة والقهر والاحتلال، فخرج يحمل في داخله نية المقاومة، لكنه انقلب – من حيث لا يدري أصحابه – إلى مشروعٍ لإنتاج العنف المقدس.
---
جذور الإسلام السياسي: من الفكرة إلى التنظيم
يكاد الباحثون في حركات الإسلام السياسي يجمعون على أن جماعة الإخوان المسلمين كانت «الشجرة الأم» التي تفرعت عنها أغلب الجماعات الإسلامية الحديثة، سواء الدعوية أو الجهادية أو التكفيرية.
فمن رحم الإخوان وُلدت تنظيمات تحمل نفس البذور الفكرية، لكنها نمت في تربة مختلفة، فأنبتت ثمارًا مرة، لا تشبه البذرة الأولى إلا في الاسم والشعار.
لقد كانت المدرسة الفكرية التي تأسست على يد الإمام أحمد بن تيمية هي المنبع الأول لما يمكن أن نسميه "الصرامة الدينية المقاتلة". ثم جاء بعده ابن القيم الجوزية، فطور رؤيته العقائدية، ثم محمد بن عبد الوهاب الذي صاغ تلك المفاهيم في قالب «الوهابية» القائمة على تنقية التوحيد من «الشرك» والبدع كما رآها.
ومن هذا المسار تفرعت لاحقًا مدرسة أخرى: ابن تيمية – المودودي – سيد قطب – الإخوان.
هكذا تشكلت السلسلة الفكرية التي ستغذي لاحقًا خطاب «القطيعة مع المجتمع» و«تكفير الأنظمة» و«إقامة الدولة الإسلامية بالقوة».
---
أفكار خرجت من رحم المعاناة
من المهم أن نقرّ أن هؤلاء المفكرين الكبار لم يكونوا دعاة للعنف بمعناه الدموي، بل كانوا أبناء بيئة قاسية، رأوا فيها الظلم والاستبداد والاحتلال والتعذيب.
لكن المأساة الكبرى كانت أن تجربة الألم تحولت لديهم إلى نظرية في الحكم على الناس.
سيد قطب: الشاعر الذي صاغ مرثية الدم
كان سيد قطب قبل السجن أديبًا رقيق الحس، كاتبًا للحب والجمال، مؤمنًا بقوة الكلمة على التغيير. غير أن تجربة السجن، وحادثة «ليمان طرة الدموية» التي شهد فيها أقسى أنواع التعذيب، و المذبحة التي حدثت لرفاقه من النزلاء في السجن بدّلت معالم الرجل من الداخل.
خرجت كتاباته – ولا سيما في معالم في الطريق – مشبعة بنزعة استعلاء إيماني، تقوم على مفهوم الجاهلية المعاصرة وضرورة المفاصلة الشعورية بين المسلم والمجتمع الذي «لا يحكم بما أنزل الله».
هكذا تحولت الفكرة من دعوة للإصلاح إلى دعوة للتكفير، ومن الحلم ببناء الفرد المسلم إلى بناء الطليعة المؤمنة التي تحطم "الجاهلية" بالسيف.
قال سيد قطب في إحدى عباراته الشهيرة:
"لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء الإسلام، وها نحن اليوم نعيش في جاهلية كالجاهلية التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وسلم."
بهذا المنطق وُلدت فكرة «القطيعة» مع المجتمع، ومعها وُلدت جماعات العنف الفكري والسياسي التي تبنت لاحقًا منهج التكفير.
---
أبو الأعلى المودودي: التمرّد على الاستعمار والواقع
أما أبو الأعلى المودودي، فقد عاش تجربة مختلفة لكنها متشابهة في الجوهر.
في ظل الاحتلال البريطاني للهند، واضطهاد الهندوس للمسلمين، كتب المودودي نظريته الشهيرة عن الحاكمية لله، معتبرًا أن كل نظام بشري لا يقوم على «الشرع الإلهي» هو نظام كافر.
كانت فكرته ردّ فعل على الاستبداد والتمييز، لكنها حملت في طياتها بذرة نفي الآخر وإقصائه من دائرة الإيمان.
ومن هنا بدأت الخطوط الفكرية التي ستلتقي لاحقًا مع سيد قطب في تأصيل السلطة الدينية المطلقة، وتحويلها إلى «مشروع سياسي» باسم الإسلام.
---
ابن تيمية: الفقيه المقاتل
أما ابن تيمية، فهو شخصية علمية ضخمة، لا يمكن حصرها في إطار العنف أو الصدام، لكنه بلا شك تأثر بالظروف العصيبة التي عاشها: غزو التتار، وهجمات الصليبيين، والانقسام السياسي في العالم الإسلامي.
في مثل تلك الفوضى، كان من الطبيعي أن يتخذ موقفًا حادًا تجاه من رأى أنهم "خانوا الدين" أو "تحالفوا مع الأعداء".
لكن المشكلة ليست في نصوصه، بل في القراءة الانتقائية لها، حين تُقتطع من سياقها لتصبح وقودًا لجماعات العنف الحديثة.
قال ابن تيمية:
"من اعتقد أن أحدًا يسوغ له الخروج عن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو كافر يجب قتله."
لكن هذا النص كان في سياق الدفاع عن الدولة الإسلامية في وجه التتار، لا في مواجهة المجتمعات المسلمة ذاتها كما يفعل المتطرفون اليوم.
---
من الفكر إلى الفعل: كيف تُصنع الجماعات العنيفة؟
حين تتحول الفكرة إلى رد فعل نفسي بدل أن تكون نتيجة تأمل عقلي، فإنها تفقد موضوعيتها، وتتحول إلى أداة انتقام.
وهذا ما حدث مع تلك التيارات الفكرية التي خرجت من رحم الألم: فبدل أن تبني مشروعًا للإصلاح، بنت مشروعًا للانتقام.
فالمفكر حين يُنتج أفكاره في لحظة انفعال، لا يكون بصدد «نظرية»، بل «حالة نفسية» تعبّر عن صدمة، لا عن وعي.
من هنا، ظهرت جماعات مثل الجهاد، التكفير والهجرة، داعش، والقاعدة، كلها وجدت في تلك الكتابات تبريرًا دينيًا لقتل الآخر.
فقد وفّرت لهم أفكار المودودي وقطب الغطاء الشرعي للعنف، بينما زودتهم نصوص ابن تيمية بالمشروعية الفقهية.
---
نقد الفكرة لا يعني الطعن في الشخص
من الخطأ أن نخلط بين احترام العلماء وبين تقديس أفكارهم.
العقل الإسلامي الرشيد هو الذي يفرّق بين النص الثابت والإنسان المتغير، بين الوحي الإلهي والاجتهاد البشري.
فكما قال ابن رشد:
"من ضيّق على نفسه النظر ضيّق على الناس سبيل الفهم."
لقد عاش ابن رشد عصرًا مليئًا بالتعصب، حُرقت كتبه، واتُهم بالزندقة، لكنه لم يرد بالعنف، بل بالبرهان والعقل والمنهج العلمي.
وكذلك الإمام أحمد بن حنبل حين عُذّب في محنة خلق القرآن، لم يُكفّر خصومه، بل دعا لهم.
وكذلك ابن جرير الطبري الذي مات محاصرًا في بيته بسبب الخلاف الفقهي، لكنه ظل متمسكًا بالعلم والحجة، لا بالسيف ولا باللعن.
---
العنف لا يخرج من الدين، بل من تأويل الإنسان
الإسلام دين رحمة وعدل، لا دين دماء وانتقام.
لكن حين يُختزل الدين في شعارات سياسية ونظريات سلطوية، يتحول إلى أداة قمع باسم الإيمان.
وهنا تكمن المأساة: فالأفكار التي أراد أصحابها الدفاع عن الإسلام، أصبحت ذريعة لتشويه الإسلام ذاته.
كما قال المفكر علي شريعتي:
"أسوأ ما يمكن أن يحدث للدين هو أن يتحول إلى أداة في يد السلطة."
---
نحو قراءة جديدة للتراث
نحن لا نحتاج إلى محاكم تفتيش فكرية، بل إلى قراءة نقدية منصفة لتراثنا الديني.
قراءة لا تبرئ، ولا تتهم، بل تحلل وتفكك وتفهم.
فالتراث ليس صنمًا يُعبد، ولا تركة نلقيها في البحر، بل هو ذاكرة حضارية يجب أن تُفهم في سياقها.
إن «تجديد الخطاب الديني» لا يعني هدم القديم، بل إعادة بنائه على أسس عقلانية وإنسانية، تضع الإنسان في قلب الفكرة، لا ضحيةً لها.
---
الخاتمة: حين يصبح الفكر سلاحًا
إن أخطر ما يواجه الأمة اليوم ليس «العنف بالسلاح»، بل العنف بالفكر، حين تتحول الكلمة إلى رصاصة، والنص إلى مبرر للقتل.
وحين يُترك التأويل في يد الغاضبين والمأزومين، تصبح الفتوى قنبلة موقوتة تنتظر من يشعلها.
لذلك، فإن مسؤولية المفكرين والمصلحين اليوم هي تحرير الدين من براثن الانفعال، وإعادته إلى جوهره النقي: الرحمة، والعدل، والحرية.
وكما قال جبران خليل جبران:
"ويل لأمة تلبس مما لا تنسج، وتأكل مما لا تزرع، وتشرب من دماء أبنائها."
إنها دعوة لنعيد النظر في أفكار العنف قبل أن تفرض علينا عنف الأفكار.
#محمد_غفير (هاشتاغ)
Mohamed_Gafir#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟