أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيد كاظم القريشي - بين العابر و السراج المطفأ















المزيد.....

بين العابر و السراج المطفأ


سيد كاظم القريشي

الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 13:42
المحور: الادب والفن
    


*بين العابر والسراج المطفأ*
(قراءة وجيزة في قصيدة الشاعر عبود الجابري)

بقلم: سيد كاظم القريشي

نص القصيدة:
سيّان عند العابر سراجٌ مطفأٌ
وقلبٌ يسدلُ ستائره قبيلَ اشتعال النبض
فما عليهِ سوى أن يحثّ الخطى إلى وجهتِهِ
بعيدةً كانت أم قريبةً
مادام ظلّه قرينَ خطواته
وما دام الآخرون منشغلين بترتيبِ صحو ستائرهم
فليسَ العابرُ سوى عينيه
وهُما مستودع الضوء الكابي
ليسَ سوى قلبِه، وهو حمارُ الأسفارِ المتعب
بينما تشغلُ يداه وظائفَ
ليس لها تسميةٌ في قاموس الأسفار
غيرَ أنّهُ يريحهما تحت خدّه، عندما يريدُ أن يخادعَ الأرق
ويمسحَ بهما زجاجَ الوجوه رأفةً بالغبار
و قد يومئُ بهما إلى المراكبِ البعيدةِ لعلّها تراه
هوَ رهينُ يديه إذن!
لا يمنحُهما أجراً على مشقّة الارتجافِ
ولا يرجو منهما نوالاً كلّما أصابهما خدَرٌ
يحثُّ الخطى صوبَ السراب
يقرأُ عن ظهر الغيبِ
ما يحفظ من أدعيةٍ هجرَها الآخرون
و يغنّي اذا ما ترامتْ عتمتُه فاتّخذَها ملاذاً.

*****
لماذا سوّرتمُ الحديقةَ بالأباطيل
ولماذا زرعتمْ تماثيلَ القتلة
في أركانِها؟
نريدُ أن ندخلَ من بابِها الواسع
لنقرأ الفاتحةَ
على أرواحِ أمّهاتِنا
نريدُ أنْ نخلعَ جذورهنّ
ونمضي بهنَّ إلى أرضٍ أكثر رفقاً
ونستظلَّ بهنَّ
حينما يورقْنَ في بواكي الشجر
نريدُ أن ندخلَ من الباب
دونَ أن نفكّر بتسلّقِ الأسوار
عندما نريدُ الخروج

*****
أما كانَ يمكنُكِ أن تفكّري برجلٍ سواي؟
أخبرتُكِ أنّني لا أصلحُ للحبّ
وأنّني قابلٌ للكسرِ
عند كلّ منعطفٍ تميل به عربة الحياة
أخبرتكِ كذلك أنّ صورتي التي في حقيبتكِ قديمةٌ جداً
وملامحي فيها من صنعِ مصوّرٍ
أوهمني بهيئتي المرسومةِ على الورق الصقيل
أنتِ ترتكبين خطأً فادحاً عندما تعودين إلى الصورة
بينما أتقادمُ كل يوم
مثلَ فانوسٍ معلَّقٍ في زاويةِ البيت.

*****

لم أفكّر بكِ هذا الصباح
كنت أجترُّ البلاد كما لو أنّها عَلَفٌ قديم
ونسيتُكِ في محفظةِ الأشياء الجميلة
تلكَ التي لمْ أعُد أحملُها معي
تبرّعتُ باسمكِ للركنِ المضيء من ذاكرتي
ورميتُ به لأوّلِ عصفورٍ في الشرفة
لكنّني أتفرّعُ كشارعٍ تائهٍ
حين أقرأ اسمك في لافتات العصافير
أتوارى في الزوايا المعتمة
وأسألكِ ثانيةً
أما كانَ يمكنُكِ أن تفكّري برجُلٍ سواي؟

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

في قصيدته «سيّان عند العابر سراج مطفأ»، يكتب عبود الجابري من تخومٍ تتقاطع فيها التجربة الوجودية مع الحلم الشعري، حيث يختلط النور بالعتمة، والذاكرة بالوقت، كأن الكلمات تمشي على حافة الجرح لتختبر صبر الضوء. منذ العنوان، يضعنا الشاعر أمام مفارقة حادّة: ما جدوى الضوء إذا كان العابر لا يراه؟ وما جدوى السراج إن أُطفئ في قلب صاحبه قبل أن يُشعل الطريق للآخرين؟

يبدأ الجابري قصيدته بصوتٍ يهمس لا يصرخ، لكنه يمضي عميقاً في صميم المعنى الإنساني. فالعابر عنده ليس شخصاً بعينه، بل كائنٌ رمزيٌّ يسير في الحياة بين نسيانٍ وتكرار، بين انطفاءٍ وبحثٍ عن ضوءٍ لن يأتي. يقول:

«القلب يسدل ستائره قبيل اشتعال النبض
فما عليه سوى أن يحثّ الخطى إلى وجهته
بعيدة كانت أم قريبة...»

هنا، ينكمش الوجود إلى داخله كما لو أنه يخاف الفيض. القلب ينسحب من العالم، والنبض يتردّد قبل أن يشتعل. الصورة هنا لا تُقرأ وصفاً لحالة فردية بقدر ما هي مرآة لإنسانٍ معاصرٍ فقد صلته بحرارة الأشياء، وأصبح يعيش في ظلّ ذاته أكثر مما يعيش في حقيقتها.
يتصاعد النصّ متجهاً إلى مشهد رمزي يختلط فيه الوجع الأخلاقي بالحنين الوجودي. يقول الشاعر:

«لماذا سوّرتم الحديقة بالأباطيل
ولماذا زرعتم تماثيل القتلة في أركانها؟
نريد أن ندخل من بابها الواسع
لنقرأ الفاتحة على أرواح أمهاتنا...»

الحديقة، هنا، ليست مكاناً بعينه، بل رمز الطفولة الأولى، رمز الذاكرة النقيّة التي شوّهتها الأباطيل. حين يُسوّر العالم بالكذب، لا يبقى للإنسان سوى الحنين إلى بابٍ مفتوح، إلى نقاءٍ ضاع بين الأسوار. هذا المقطع يحمل بعداً احتجاجياً هادئاً، لا يتوسّل الغضب بل يلوّح به من وراء الستار. الباب الواسع هو باب الروح، باب المصالحة مع الماضي، باب العودة إلى البراءة التي أفسدها التمثال والادّعاء.

في المقطع الأخير، يعود الشاعر إلى دائرة الذات، إلى الحميميّ من التجربة، حيث يتقاطع الحبّ مع الانكسار الإنساني:

«أما كان يمكنكِ أن تفكّري برجلٍ سواي؟
أخبرتُكِ أنني لا أصلح للحب
وأنني قابلٌ للكسر...»

يتحوّل الخطاب من الجمعي إلى الفردي، من الأسئلة الكونية إلى جرحٍ عاطفيّ خاصّ. لكنّ هذا الجرح لا يُقرأ في حدود العلاقة، بل بوصفه صورة أخرى للوحدة التي يعيشها الإنسان أمام مرايا الآخرين. فالحبيب الذي يتقادم في ذاكرة من أحبّ يشبه فانوساً مُعلّقاً في زاوية البيت: ما زال هناك، لكن لا أحد ينتبه لضيائه الخافت.

لغة عبود الجابري في هذه القصيدة نقيّة ومقتصدة، لا تلهث وراء الزخرفة، ولا ترفع الصوت لتُقنع، بل تُومئ وتترك الصمت يكمّل ما لا تقوله الكلمات. في قوله:

«هو رهينُ يديه إذن! لا يمنحُهما أجراً على مشقّة الارتجاف...»

نلمح فلسفة شعرية كاملة عن الجسد والروح والعبور. اليدان، رمز الفعل، تتحوّلان إلى قيدٍ ناعمٍ، والارتجاف يصبح شكلاً من أشكال الحياة الصامتة التي لا تُكافأ. كلّ شيء في النصّ يتحرّك ببطءٍ محسوب، كأن القصيدة نفسها تتنفّس بحذر كي لا تضيّع الضوء القليل المتبقّي.

إنّ «السراج المطفأ» عند عبود الجابري ليس مجرّد استعارة عن العتمة، بل هو علامة على ضوءٍ آخر، داخليٍّ هذه المرّة، لا يُرى إلا من القلب. العابر الذي لا يرى النور هو الإنسان الذي يمشي في حياته بعينين مفتوحتين وجسدٍ مطفأ. القصيدة لا تبكي النور الغائب، بل تحتفي بقدرة الشاعر على إشعال ما تبقّى من وهجٍ في الظلمة.

عبود الجابري في هذا النصّ لا يكرّر نفسه، بل يفتح باباً جديداً في تجربته الشعرية؛ نصٌّ قائم على البساطة العميقة، على السهل الممتنع الذي يذكّرنا بشعراء الحداثة الأمريكية الذين ترجم بعض أعمالهم إلى العربية وتأثر بطرائقهم ربما، في بناء الصورة عبر الاختزال والفراغ. إنّه شاعر يرى الشعر تمريناً على الرؤية لا على البلاغة، ويدعونا نحن القرّاء إلى إعادة النظر في الأشياء التي اعتدناها حتى صارت بلا معنى.

«سيّان عند العابر سراج مطفأ» ليست قصيدة عن الحزن فقط، بل عن وعيٍ متقدٍ في مواجهة التكرار، وعن قدرة الشعر على إعادة خلق العلاقة بين الإنسان والعالم. قصيدة تضع يدها على نبض الحياة كما هو، لا كما ينبغي أن يكون، وتذكّرنا أن السراج وإن انطفأ، يبقى أثرُه يلمع في الذاكرة، وأن العابر الحقيقي هو من يرى النور في الظلمة، لا الظلمة في النور.

🔹🔹🔹



#سيد_كاظم_القريشي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تكلم النسيان (قصة قصيرة)
- معشوقة على ضفاف الوهم: حكاية صدرية صفراء (قصة قصيرة)
- حين تتدحرج اللحظات من الحلم
- *ظلّ الجسر* (قصة قصيرة)
- حين تصبح الصورة نمطًا: الأهواز بين الكاميرا والواقع الغائب
- المسرح بين الجوائز والوعي الجمعي: أي مسرح يُنبت شعباً مثقفاً ...
- النقد الأدبي والفني في الأهواز: سؤال الغياب وجدلية التراكم و ...
- أغنية الطين الأخيرة (قصة قصيرة)
- حين ابتسمت المراثي (قصة قصيرة)
- طائر الشقراق ( قصة قصيرة)
- منفى الأساطير (قصة قصيرة)
- انت
- لم يحن دورنا بعد!
- لا يسكب ضوءه القمر على الخيّين
- قصيدة نثرية
- لا تشرق الشمس علي ضريح سيد زكي (قصة قصيرة)
- شعر (صور فتوغرافية لحياة مابعد الحداثة)
- يأتي يوم الأحد بعد الثلاثاء (شعر)
- عبید الماء


المزيد.....




- نظْم -الغزوات- للبدوي.. وثنائية الإبداع الأدبي والوصف الملحم ...
- خالد الحلّي : أَحْلَامٌ دَاخِلَ حُلْمٍ
- النجمات العربيات يتألقن على السجادة الحمراء في حفل افتتاح مه ...
- كتارا تكرّم الفائزين بجوائز الرواية العربية في دورتها الـ11 ...
- انطلاق الدورة الثامنة من مهرجان الجونة السينمائي وسط رسائل إ ...
- منة شلبي تتعرض لموقف محرج خلال تكريمها في -الجونة السينمائي- ...
- معرض الرياض للكتاب يكشف ملامح التحوّل الثقافي السعودي
- كتارا تطلق مسابقة جديدة لتحويل الروايات إلى أفلام باستخدام ا ...
- منظمة العالم الإسلامي للتربية والعلوم والثقافة تحتفي بأسبوع ...
- اختيار أفضل كلمة في اللغة السويدية


المزيد.....

- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيد كاظم القريشي - بين العابر و السراج المطفأ