أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيد كاظم القريشي - معشوقة على ضفاف الوهم: حكاية صدرية صفراء (قصة قصيرة)














المزيد.....

معشوقة على ضفاف الوهم: حكاية صدرية صفراء (قصة قصيرة)


سيد كاظم القريشي

الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 01:28
المحور: الادب والفن
    


*معشوقة على ضفاف الوهم: حكاية صدرية صفراء*
(قصة قصيرة)

✍🏻 سيد كاظم القريشي

إلى خورخي لويس بورخس،
الذي علّمنا أن نقرأ ما بين الكلمات، وأن نتوه في متاهات الذاكرة أكثر مما نتوه في المدن.

ليست هذه القصة عن حقيبة ممزقة أو عن لصوص يفرغون جيوب النساء ثم يرمون متاعهن في الخلاء. إنها عن الأثر الذي يبقى بعد أن يختفي الحدث، عن البقايا التي تتحول في المخيلة إلى أسطورة صغيرة. في فضاءٍ كان يومًا بساتينَ عنبٍ ونخيل، ثم غزته الأشواك والملاعب الترابية، ينشأ عشق بورخسي غريب: رجل يفتتن بامرأة لم يرها قط، امرأة لا وجود لها إلا في قطعة قماش علِقت بشجيرة خرنوب.

إنها قصة عن غرام يولد من الغياب، عن معشوقة لم تُرَ قط، لكنها صارت في وعي الراوي أكثر حضورًا من الوجوه الماثلة. ولعلها أيضًا تأمل في كيفية صمود الأشياء الصغيرة — صدرية صفراء، شال أحمر، حقيبة ممزقة — أمام النسيان، وكيف تتحول إلى مرايا نرى فيها ما فقدناه نحن، لا ما فقده الآخرون.

بهذا المعنى، فـ"حكاية الصدرية" ليست سوى استعارة لشيء أبعد: أن نحبّ ما لا نملك، وأن نهيم بما لا يمكن أن يعود.

كان الرجل يقطع كل صباح ذلك الفراغ الواسع الذي كان فيما مضى بساتينَ عنبٍ ونخيلٍ مزدهرة، أرضاً كانت تُزرع بالکرنب والملفوف، لكنها تحولت مع مرور الأعوام إلى فضاء مهمل، غزته الأشواك والأحراش، وتسلل إليه بعض الشبان ليحوّلوه إلى ملاعب ترابية لكرة القدم. بدا المكان خليطاً غريباً: نصفه أرض يابسة تتناثر فيها أحذية قديمة وقطع زجاج، ونصفه الآخر شباب يركضون خلف كرة مطموسة الملامح.

كان يمر من هناك مثل طيفٍ لا يراه أحد، متوجهاً إلى عمله البعيد. في البداية لم يكن يكترث لما يلمحه على الطريق، لكن ذات صباح وقعت عيناه على بقايا حقيبة ممزقة، قربها محفظة ممزقة أيضاً، متناثرة وسط الحشائش. مرّ دون توقف، لكن صورة الحقيبة التصقت بذاكرته، وأيقظت فيه شعوراً غامضاً بأن هذا الخلاء يخفي أسراراً لم تُقل.

في اليوم التالي لمح حقيبة أخرى، ثم ثالثة. بدت له القصة واضحة: لصوص الدراجات، الذين يشدّون الحقائب من أكتاف النساء، ثم يفرغونها من النقود والحلي، ويقذفونها هنا حيث لا عيون ترصد. كان يراها آثارَ معركة غير متكافئة بين الخوف والطمع، بين الصرخة والفرار.

لكن ذات صباح، وقف مشدوهاً أمام مشهد مختلف. حقيبة جديدة، ممزقة كأنها ذُبحت بسكين حاد. حولها تي شيرت أخضر داكن، شال أحمر، تذاكر قطار تحمل تاريخ اليوم السابق، وصدريّة صفراء تتشبث بها نبتة خرنوب عنيدة. كان النسيم يحرك القماش كأنه يريد أن يروي حكاية لم يكتمل سردها. شعر أن المشهد ليس نهباً عادياً هذه المرة، بل بقايا حياة مسروقة.

منذ ذلك اليوم، بدأ الرجل يمر بالمكان ليس ليختصر الطريق، بل ليتحقق. صار يعدّ الحقائب كما يعدّ المصلون تسابيحهم. كل حقيبة ممزقة كانت أشبه برسالة غامضة، وكل محفظة فارغة تحمل أثراً لوجه لم يره. لكن الحقيبة الخضراء وما حولها ظلت تستحوذ على خياله: من هي صاحبتها؟ هل كانت تصرخ عبثاً في شارع مزدحم؟ هل ركض خلفها أحد لينقذها؟ أم أنها سقطت في عزلة الليل ولم يسمعها أحد؟

بعد أيام، اختفى الشال والتي شيرت. بقيت الصدرية وحدها، تتدلى كراية منسية على شجيرة الخرّوب. اقترب الرجل منها للمرة الأولى، مد يده ليحررها من الأشواك، لكن الأشواك أدمت أصابعه. تراجع مذعوراً، كأن النبتة تحرس سراً لا يخصه.

في تلك الليلة، حلم بالفتاة: رآها تسير حافية على الأرض التي كانت بساتين، شعرها طويل يغطّي وجهها، تحمل حقيبة ممزقة وتبحث بين الأعشاب عن شيء. كانت تلتفت إليه وتقول: "لقد أخذوا ما ينفعهم، لكنهم تركوا أثري هنا. كل ما يضيع من النساء لا يُسترد". استيقظ مذعوراً، وعرق بارد يغطي جبينه.

توالت الأيام، وكلما مرّ من المكان، كان يسمع صدى حقيبتها يفتح ويغلق، كأن الهواء صار ينقل أنينها. بدأ يتهامس مع نفسه: هل هي فتاة حقيقية تعرضت للسرقة؟ أم أن المكان يبتدع له وهماً ليحفظ ذاكرته من الفراغ؟

وذات صباح، لم يجد شيئاً في الأرض. لا صدرية، ولا شال، ولا حقيبة. الأرض بدت نظيفة على نحو مريب، كأنها لم تشهد شيئاً قط. عندها شعر الرجل أن الحكاية لم تنتهِ، بل بدأت تتناسخ في داخله: كل فتاة تمرّ قربه في الطريق كان يظن أنها هي. كل حقيبة على كتفٍ أنثوي كانت تذكّره بالحقيبة الخضراء. صار يعيش بين حقيقتين متوازيتين: الأولى رجل يذهب إلى عمله كأي موظف عادي، والثانية رجل يلاحق أثراً سقط بين الأشواك، أثر قد يكون حكاية سرقة عابرة، وقد يكون بداية أسطورة لم تُكتب بعد.

ومن فرط ما انشغل بها، تحولت الصدرية في ذهنه إلى معادل لجسدٍ لم يره، وروحٍ لم يعرفها، وصاحبةٍ مجهولة صارت له معشوقة. لم يكن يتخيلها ضحية باكية فحسب، بل امرأة تسكن الخفاء، تتجلى في أشواك الخروب، وتتنفس من خلال الرياح التي تحرك الأقمشة. كل ليلة كان يراها في الحلم تجلس على صخرة، تتأمل السماء وتبتسم له ابتسامة سرية. وكل صباح كان يستيقظ وفي قلبه ولع غامض بها، كأنه أحبّها قبل أن يراها، أو كأن الأرض نفسها دسّت له هذا العشق بين حطام الحقائب.

وهكذا لم يعد الطريق إلى العمل مجرد معبر، بل طقس عبورٍ إلى عشقٍ غريب. صار الرجل يهيم بصاحبة الصدرية كما يهيم شاعر بصورة امرأة محفورة على جدار قديم: عشق بلا لقاء، غرام بلا جسد، حبّ يولد من أثرٍ مُمزق ويعيش في مخيلة لا تشبع.

وهكذا أدرك أن تلك الأرض المهملة لم تكن مجرد طريق عابر، بل مرآة تعكس ما يتبقى من البشر بعد أن ينهبهم الزمن: حقائب ممزقة، صرخات مبعثرة، وأشواك تحفظ ما لا يجرؤ أحد على تذكره. وفي قلبه، ظلّت صاحبة الصدرية الصفراء بورودها الصغيرة الحمراء تسكنه، كأنها قدره الذي لا يزول.

🔸🔸🔸



#سيد_كاظم_القريشي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين تتدحرج اللحظات من الحلم
- *ظلّ الجسر* (قصة قصيرة)
- حين تصبح الصورة نمطًا: الأهواز بين الكاميرا والواقع الغائب
- المسرح بين الجوائز والوعي الجمعي: أي مسرح يُنبت شعباً مثقفاً ...
- النقد الأدبي والفني في الأهواز: سؤال الغياب وجدلية التراكم و ...
- أغنية الطين الأخيرة (قصة قصيرة)
- حين ابتسمت المراثي (قصة قصيرة)
- طائر الشقراق ( قصة قصيرة)
- منفى الأساطير (قصة قصيرة)
- انت
- لم يحن دورنا بعد!
- لا يسكب ضوءه القمر على الخيّين
- قصيدة نثرية
- لا تشرق الشمس علي ضريح سيد زكي (قصة قصيرة)
- شعر (صور فتوغرافية لحياة مابعد الحداثة)
- يأتي يوم الأحد بعد الثلاثاء (شعر)
- عبید الماء


المزيد.....




- صناعة النفاق الثقافي في فكر ماركس وروسو
- بين شبرا والمطار
- العجيلي... الكاتب الذي جعل من الحياة كتاباً
- في مهرجان سياسي لنجم سينمائي.. تدافع في الهند يخلف عشرات الض ...
- ماكي صال يُحيّي ذكرى بن عيسى -رجل الدولة- و-خادم الثقافة بل ...
- الأمير بندر بن سلطان عن بن عيسى: كان خير العضيد ونعم الرفيق ...
- -للقصة بقية- يحقق أول ترشّح لقناة الجزيرة الإخبارية في جوائز ...
- الكاتبة السورية الكردية مها حسن تعيد -آن فرانك- إلى الحياة
- إصفهان، رائعة الفن والثقافة الزاخرة
- سينمائيون إسبان يوقعون بيانًا لدعم فلسطين ويتظاهرون تنديدا ب ...


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سيد كاظم القريشي - معشوقة على ضفاف الوهم: حكاية صدرية صفراء (قصة قصيرة)