أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد غفير - حتي يصبح الدين رسالة حب وعدل لا منظومة هيمنة وسلطة















المزيد.....

حتي يصبح الدين رسالة حب وعدل لا منظومة هيمنة وسلطة


محمد غفير
كاتب و مدون

(Mohamed Gafir)


الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 10:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مقدمة: من جوهر الوعي إلى سجن الطقوس

الدين، في جوهره الأول، لم يهبط على الإنسان ليكبل عقله أو يقيد روحه، بل جاء ليحرره من الخوف والظلم والجهل. كانت الرسالات الأولى — كما قال الأستاذ الأمام محمد عبده — "ثورة على الجهل والجمود، قبل أن تتحول إلى مؤسسة تكرّس ما جاءت لتحاربه".
ومن هنا يبدأ السؤال المؤلم: كيف تحوّل الدين من رسالة وعي وعدل إلى أداة سلطة وهيمنة؟
سؤال يستحق أن يُطرح بعين المثقف الحر، لا بعقل الفقيه الذي يخشى الخروج عن النص.

لقد بدأ الدين نداءً للحب الإلهي، دعوةً لتزكية النفس، ومشروعًا لبناء الإنسان الحرّ القادر على الإبداع. لكنه بمرور الزمن، وقع فريسة "المؤسسة"، التي حوّلته من تجربة روحية إلى منظومة رقابة. من طاقة تحرر إلى سلاح قمع. ومن حوار حيّ مع الله إلى سلطة تتحدث باسمه.


---

أولًا: الدين بوصفه وعيًا لا طقسًا

حين نقرأ في تاريخ الأنبياء نجد أن رسالاتهم لم تكن تهدف إلى بناء معابد أو فرض طقوس شكلية بقدر ما كانت تهدف إلى إيقاظ وعي الإنسان بذاته وبالعالم.
يقول جلال الدين الرومي:

"الدين ليس في الكلمة أو الصورة، بل في القلب الذي يدرك النور الإلهي."



هذه الجملة البسيطة تختصر مأساة ما نحن فيه اليوم؛ إذ أصبح الدين في وعينا الجمعي مرادفًا للطقس، لا للفهم. أصبح حضور الإنسان في المسجد أهم من حضوره في الضمير، وأداء الشعائر غاية في ذاته، بدل أن يكون وسيلة إلى التحول الداخلي.

لقد حذّر المفكر الألماني إيمانويل كانط من هذا الانزلاق حين قال:

"كل دين يصبح فارغًا عندما ينفصل عن الأخلاق."



ولعلّ أخطر ما أصاب الخطاب الديني المعاصر أنه فقد تلك الصلة الجوهرية بين الإيمان والأخلاق، وبين العبادة والإنسانية. فصار الحديث عن "الستر" و"اللباس" أعلى صوتًا من الحديث عن "العدل" و"الرحمة".


---

ثانيًا: السلطة حين تلبس عباءة المقدس

منذ أن تحالفت المؤسسة الدينية مع السلطة السياسية، تحوّل الدين من رسالة تحرر إلى أداة ضبط.
لقد فهم الحكام مبكرًا أن الدين هو الطريق الأقصر إلى قلب الجماهير، وأن السيطرة عليه تعني السيطرة على وعي الناس. وهكذا، أصبحت "الفتوى" بديلًا عن "العقل"، و"الطاعة" بديلاً عن "المسؤولية".

يقول الفيلسوف الفرنسي فولتير ساخرًا:

"من يجعل الناس يصدقون الخرافات، يجعلهم يرتكبون الجرائم باسمها."



فالدين حين يُحتكر في يد نخبة أو مؤسسة يصبح خطرًا على الحرية، لأنه يتحول إلى أداة لتبرير الاستبداد.
وفي التاريخ الإسلامي شواهد كثيرة على هذا التحالف بين السلطان والفقهاء، حيث كانت بعض الفتاوى تُفصَّل على مقاس الحاكم، بينما يُسكَت صوت المفكر والمصلح باسم "الفتنة" أو "الخروج على الجماعة".

وهنا يظهر ما يمكن تسميته بـ"الخطاب الديني السلطوي"، الذي يتحدث عن الخوف أكثر مما يتحدث عن الحب، وعن الطاعة أكثر مما يتحدث عن الوعي.
إنه الخطاب الذي يجعل الإنسان تابعًا لا متسائلًا، خائفًا لا متأملًا، عبدًا للموروث لا للمعنى.


---

ثالثًا: بين الله والمؤسسة – من الحوار إلى الوساطة

في لحظة الوعي الأولى، كان الإنسان يقف أمام الله بلا وسيط.
لكن المؤسسة الدينية بنت جدارًا سميكًا بين الخالق والمخلوق، واحتكرت حق التفسير والفتوى والحديث باسم السماء.
لقد تحولت العلاقة الروحية إلى منظومة تراتبية، يُفرض فيها على الناس كيف يفكرون ويؤمنون ويحبون ويكرهون.

يقول الفيلسوف فريدريك نيتشه في عبارته الشهيرة:

"المشكلة ليست في الله، بل في من يتحدثون باسمه."



هذه الجملة تصلح عنوانًا لمأساة الخطاب الديني في كثير من المجتمعات. فبدل أن يكون الدين رحلة ذاتية للبحث عن المعنى، صار مجموعة أوامر تُلقى من المنابر، تُطاع بلا تفكير.
لقد انتقلت القداسة من "القيم" إلى "الأشخاص"، ومن "الروح" إلى "النصوص"، ومن "الوعي" إلى "التلقين".


---

رابعًا: الدين كطاقة حب وعدل

حين نعيد قراءة النصوص الدينية بعيدًا عن سطوة التفسير الموروث، سنكتشف أن جوهر الرسالة هو الرحمة والعدل والحب.
قال الله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين."
ولم يقل "سيفًا"، أو "وصيًا على العقول".

لقد كان المسيح يقول: "أحبوا أعداءكم."
وكان النبي محمد ﷺ يقول: "الراحمون يرحمهم الرحمن."

كل الأديان العظيمة — في أصلها — نادت بالحب، لكن أتباعها صنعوا منها حدودًا للجفاء.
فمن مفارقات التاريخ أن يتحول الدين الذي بدأ بنداء المحبة إلى مبرر للكراهية، وأن تُرفع شعارات "نصرة الله" بالسيف لا بالرحمة.
وقد صدق المفكر السوري محمد شحرور حين قال:

"الله لا يحتاج من يدافع عنه، بل يحتاج من يفهمه."




---

خامسًا: إصلاح الخطاب الديني – من التلقين إلى التفكير

لا يمكن إصلاح الخطاب الديني من داخل المؤسسة فقط، بل من وعي المجتمع المثقف الذي يجرؤ على السؤال.
فالإصلاح يبدأ عندما نتحرر من الخوف من التفكير.
حين نفهم أن الإيمان لا يتعارض مع العقل، وأن الشك ليس كفرًا، بل هو بداية المعرفة.

كما قال الإمام أبو حامد الغزالي في كتابه المنقذ من الضلال:

"من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال."



إننا بحاجة إلى خطاب ديني جديد لا يقوم على الترهيب بل على الفهم، لا على الغيبيات بل على الأخلاق، لا على الخضوع بل على الحرية.
خطاب يعيد الإنسان إلى مركز التجربة الروحية، ويجعل من الدين تجربة شخصية تُثري الوعي لا تسجنه.


---

سادسًا: المثقف في مواجهة المؤسسة

المثقف الحقيقي — كما وصفه المفكر إدوارد سعيد — هو "من يقف في وجه السلطة دفاعًا عن الحقيقة، لا من يتملقها باسم الدين أو الوطن".
وهنا تقع مسؤولية المثقف العربي في تحرير الدين من أيديولوجيا الهيمنة.
فهو لا يسعى إلى هدم الإيمان، بل إلى إنقاذه من التشويه.
ولا إلى إلغاء المؤسسة، بل إلى مساءلتها.

إن أخطر ما في صراعنا اليوم ليس بين الإيمان والإلحاد، بل بين الإيمان الحيّ والإيمان الميت. بين من يرى في الدين طاقة حب ووعي، ومن يراه سلاحًا أيديولوجيًا لتبرير سلطته.


---

خاتمة: الدين كرسالة وعي لا كمنظومة خوف

حين نعود إلى جوهر الدين، نكتشف أن الرسالة كانت وما زالت تحررية في أصلها.
لقد جاء الدين ليوقظ الوعي لا ليغلقه، ليُعلّم الإنسان كيف يحب لا كيف يخاف.
وما أكثر الذين اتخذوا من "الخوف من الله" وسيلة لإخافة الناس!
لكن الله — كما قال الحلاج — "أوسع من أن يُختصر في فتوى أو مذهب."

فلنعد إلى الدين كحالة حبّ، كرحلة داخلية نحو النور، لا كمؤسسة تُدير الجحيم على الأرض.
ولنُدرك أن الله لا يُعبَد بالخضوع للسلطة، بل بتحرير العقل والضمير.
فالإيمان الحقيقي ليس ما نُلقَّنه، بل ما نُدركه في أعماقنا حين نصغي لصوت الحقّ في داخلنا.

كما قال جبران خليل جبران:
"الله يسكن في قلبك، لا في الكتب القديمة."





---

ــــــــــــ المراجع والمصادر :

1. محمد عبده. الإسلام بين العلم والمدنية. دار الهلال، القاهرة، 1902.
2. جلال الدين الرومي. المثنوي المعنوي. ترجمة عبد الرحمن بدوي، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1998.
3. إيمانويل كانط. الدين في حدود مجرد العقل. ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، دار التنوير، بيروت، 1981.
4. فولتير. رسائل فلسفية. ترجمة عادل زعيتر، دار المعارف، القاهرة، 1956.
5. فريدريك نيتشه. هكذا تكلم زرادشت. ترجمة فليكس فارس، دار الجيل، بيروت، 1980.
6. محمد شحرور. الكتاب والقرآن: قراءة معاصرة. دار الأهالي، دمشق، 1990 .
7. أبو حامد الغزالي. المنقذ من الضلال. تحقيق جميل صليبا وكامل عياد، دار الفكر، بيروت، 1986.
8. إدوارد سعيد. صور المثقف. ترجمة ثائر ديب، دار الآداب، بيروت، 1996.
9. الحلاج. الطواسين. تحقيق لويس ماسينيون، دار المشرق، بيروت، 1973.
10. جبران خليل جبران. النبي. ترجمة أنطوان البستاني، دار صادر، بيروت، 1968.



#محمد_غفير (هاشتاغ)       Mohamed_Gafir#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحجاج بن يوسف الثقفي: سيف الدولة وخصم الحرية — عبقرية القوة ...
- لغز اغتيال اسامة بن لادن
- تجديد الخطاب الديني بين المؤسسة والأفراد: معركة الوعي والتنو ...
- أبو حامد الغزالي: من الشك إلى اليقين...
- القضية الفلسطينية... من رمزٍ للنضال إلى سلعةٍ في أسواق السيا ...
- أفكار صنعت سيوفًا : من ابن تيميه الي سيد قطب
- غزة بعد عامين من الجحيم: مخاوف إسرائيلية من كشف الدمار الشام ...
- قراءة التاريخ الإسلامي بين القداسة والعقلانية: نحو وعيٍ جديد ...
- مستقبل نتنياهو بعد صفقة ترامب: هل يبقى اليمين المتطرف في قلب ...
- -صفقة ترامب تشعل إسرائيل: انقسام حاد وتهديدات بإسقاط حكومة ن ...
- الأزهر – بين منارة الدين وميدان السياسة
- كيف تغيرت موازين السيطرة والحياة داخل غزة في الذكرى الثانية ...
- الأديب الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي
- التدين السطحي في العالم العربي: حين يتحول الإيمان إلى مظهر و ...
- ازدواجية المعايير في القانون الدولي: حين يسقط القناع عن الإن ...
- هدم الأسرة وصناعة الإنسان المستهلك: من المؤامرة إلى الواقع
- سيغموند فرويد: الأب الروحي للتحليل النفسي ومؤسس مدرسة علم ال ...


المزيد.....




- -لا تنتقد اليهود-.. حرية التعبير في أوروبا موجهة ضد المسلمين ...
- النحات ميثم العبدال يحوّل آلام الجد الفلسطيني إلى منحوتة بعن ...
- اسلامي: تقنية الإشعاع تسهم مباشرة في رفع جودة المنتجات الزرا ...
- بالفيديو.. السيدة مريم العذراء في الجمهورية الاسلامية الايرا ...
- مستعمرون وجيش الاحتلال يهاجمون قاطفي الزيتون في رام الله ونا ...
- باستراتيجية -الهيكل المُعقد-.. ما حجم تواجد الإخوان بأوروبا؟ ...
- قوات الاحتلال تعتقل أربعة مواطنين من سلفيت وتغلق مدخل المدين ...
- ما بعد الرؤية الترمبية .. القضية الفلسطينية برعاية عربية إسل ...
- وسط صمت بريطاني مريب.. تحذيرات من تغلغل الإخوان في أوروبا
- هل تغض لندن الطرف عن أنشطة الإخوان رغم التحذيرات الأوروبية؟ ...


المزيد.....

- نشوء الظاهرة الإسلاموية / فارس إيغو
- كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان / تاج السر عثمان
- القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق ... / مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد غفير - حتي يصبح الدين رسالة حب وعدل لا منظومة هيمنة وسلطة