محمد غفير
كاتب و مدون
(Mohamed Gafir)
الحوار المتمدن-العدد: 8498 - 2025 / 10 / 17 - 10:24
المحور:
سيرة ذاتية
مقدمة: حين يولد السيف من رحم الفوضى
في زمنٍ تاه فيه الناس بين الفتن والدماء، وارتجّت الأرض بصراخ الطامعين في السلطة، واهتزّ عرش الخلافة على وقع ثورات لا تهدأ، خرج من ثقيف رجلٌ واحدٌ غيّر وجه التاريخ، رجلٌ كانت كلماته تُرعب الجموع أكثر مما تفعل السيوف، وكانت نظرته وحدها كافية لتخمد تمرّد جيشٍ بأكمله.
إنه الحجاج بن يوسف الثقفي، الرجل الذي قال عنه المؤرخون:
"كان سيف عبد الملك المسلول، ولسان بني أمية الذي لا يعرف التردد."
لم يكن الحجاج مجرد والٍ أو قائد عسكري؛ كان ظاهرة إنسانية متناقضة — عبقرية سياسية لا تُنكر، وطغيانٌ لا يُغتفر. كان المزيج النادر بين الحزم والرعب، بين العدالة القاسية والرغبة الجامحة في السيطرة.
---
النشأة: من الطائف إلى عرش الدم
وُلد الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي في مدينة الطائف عام 40 هـ، في بيئةٍ عربيةٍ مشبعة بالفخر والأنفة. تربّى على حب اللغة والقرآن، فكان في صغره معلّمًا للقرآن، حتى قال بعض المؤرخين:
“لو لم يكن الحجاج أميرًا لكان نحويًا عظيمًا.”
لكن القدر كان يعدّ له دورًا أعظم — وأخطر.
حين انهارت هيبة الدولة الأموية وتتابعت الفتن، رأى الحجاج في نفسه المنقذ الذي سيعيد الانضباط إلى الأمة، ولو بالسيف والنار.
كان عبد الملك بن مروان بحاجة إلى رجلٍ لا يعرف الرحمة في مواجهة خصومه، فوجد في هذا الشاب الثقفي ما يبحث عنه.
---
صعود الحجاج: السيف الذي لا يرتجف
في عام 73 هـ، أرسله الخليفة عبد الملك بن مروان لقيادة جيشٍ صغير قوامه ستة آلاف رجل فقط لمواجهة عبد الله بن الزبير في مكة.
لم يكن أحدٌ يظن أن هذا المعلّم النحيل سيهزم الرجل الذي سيطر على الحجاز والعراق، ولكن الحجاج فعلها.
قصف الكعبة بالمنجنيق — حدثٌ هزّ ضمير الأمة الإسلامية — لكنه أنهى به فتنةً كادت تعصف بالخلافة.
ومنذ تلك اللحظة، صار اسم الحجاج مرادفًا للرهبة، وصار الناس يقولون:
“من دخل العراق فهو بين سيف الحجاج ولسانه.”
---
الحجاج في العراق: حين يحكم الرعب
حين عيّنه عبد الملك واليًا على العراق، كان يعرف أنه يضع أكثر الأقاليم اضطرابًا تحت يد أكثر الرجال بطشًا.
دخل الحجاج الكوفة فخاطب الناس بخطبةٍ خلدها التاريخ، بدأها بجملةٍ صارت مثلًا على القسوة السياسية:
“إني أرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها!”
كان يعرف أن العراق لا يُحكم باللين.
فرض النظام، وأعاد الطاعة للخلافة، وأوقف ثورات الخوارج والشيعة والقبائل العربية المتناحرة.
لكن ثمن هذا النظام كان باهظًا: آلاف من الرؤوس سقطت، ومئات من السجون امتلأت، والناس بين خائفٍ وصامت.
قال المؤرخ المسعودي في كتابه مروج الذهب:
“ما رأى الناس بعد معاوية أيامًا أشد من أيام الحجاج.”
إلا أن الإنصاف التاريخي يفرض علينا أن نذكر أن الحجاج بن يوسف لم يكن مجرد جلادٍ، بل كان أيضًا رجل دولة من الطراز الأول.
نظّم الخراج، وأعاد بناء المدن، وشقّ الطرق، وأشرف على تعريب الدواوين، وأمر بتنقيط المصحف الشريف، حتى يُقرأ دون لبس أو خطأ.
---
بين الحزم والدماء: وجهان لعملةٍ واحدة
إن الحديث عن الحجاج يشبه الوقوف أمام مرآةٍ مزدوجة:
من جهة ترى المصلح الصارم الذي أعاد هيبة الدولة بعد أن كادت تذوب،
ومن الجهة الأخرى ترى الطاغية الجبار الذي قتل خصومه بغير رحمة،
وكأن الرجل جمع في قلبه النقيضين: العبقرية والوحشية.
قال عنه ابن كثير:
“كان شديدًا على الظلمة، عادلًا في رعيته، وإن بالغ في العقوبة.”
وقال الجاحظ في البيان والتبيين:
“كان الحجاج أبلغ العرب بعد زياد، وكان أهيبهم في القلوب، وأشدهم سلطانًا في الكلمة.”
لقد كان يعرف أثر الكلمة مثلما يعرف أثر السيف، لذلك كان لسانه كالرعد، وخطبه تهزّ المدن قبل أن يهزّها جيشه.
---
الحجاج والإنسان: بين الطغيان والعذاب الداخلي
ورغم جبروته، كان الحجاج يعيش في داخله صراعًا إنسانيًا مريرًا.
كان يرى نفسه رسولَ النظام في عالمٍ من الفوضى، لكنه كان يبرّر قسوته بأنها “ضرورة سياسية”.
يُروى أنه قال يومًا:
“ما أكره القتل إلا أنه صلاح للرعية.”
وفي لحظة صدق نادرة قال لأحد خاصّته:
“وددت لو خرجت من الدنيا كفافًا، لا لي ولا عليّ.”
لكن التاريخ لا يرحم من لوّث يديه بالدماء.
لم تُمحَ من ذاكرة العرب صور النساء اللواتي بكين أبناءهن في سجون الكوفة، ولا نسي الناس مصعب بن الزبير الذي قتله الحجاج بأمر الخليفة، ولا سعيد بن جبير العالم الزاهد الذي صرخ في وجهه قبل موته قائلًا:
“إنك لن تميتني ميتةً واحدة، ولكن الله سيقتص منك سبعين مرة.”
وبالفعل، بعد مقتله بأيام، أصيب الحجاج بمرضٍ غريبٍ في جسده، فكان يقول في سكرات الموت:
“ما لي ولسعيد بن جبير؟! ما لي ولسعيد؟!”
---
النهاية المأساوية: موت الجبار على فراشٍ من النار
في عام 95 هـ، أصيب الحجاج بمرضٍ عضال قيل إنه داء في الأمعاء جعله يتلوّى من الألم ليلًا ونهارًا.
وقد وصفه المؤرخون بأنه كان يرى في منامه كوابيسَ لا تنتهي، ويفيق فزعًا كأنه يرى وجوه من قتلهم تحيط به.
قال ابن الأثير في الكامل في التاريخ:
“مات الحجاج وفي صدره وجعٌ ما فارقه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة، وكان يردد: اللهم اغفر لي، فإن الناس يزعمون أنك لا تغفر لي.”
مات الحجاج عن عمرٍ يقارب الخمسين عامًا، بعد أن ترك خلفه إرثًا ضخمًا من الإصلاح والدماء، من العدل والقسوة، من النهضة والخوف.
مات الرجل الذي جعل العراق يخشاه أكثر مما يخشى الخليفة، والذي قال يومًا في كبرياءٍ أعمى:
“لو أمرتُ أهل العراق أن يخرجوا من ديارهم ما تخلّف منهم رجلٌ واحد.”
لكنه مات وحيدًا، خائفًا، مطرودًا من الرحمة، لا يزوره أحد، ولا يترحم عليه إلا قليل.
---
إرث الحجاج: بين اللعنة والإنصاف
يبقى السؤال الكبير:
هل كان الحجاج بن يوسف الثقفي طاغيةً دمويًا أم قائدًا ضروريًا لمرحلةٍ مضطربة؟
يرى بعض المؤرخين، مثل ابن خلدون، أن ما فعله الحجاج كان “ضرورة لتثبيت الدولة بعد الفوضى”، بينما رأى آخرون أنه “أساء إلى روح الإسلام بتغليب السيف على العدل”.
يقول طه حسين في كتابه على هامش السيرة:
“إن الحجاج لو وُلد في زمانٍ آخر لكان من بناة الحضارة، ولكن قسوته جعلت منه رمزًا للرعب بدل أن يكون رمزًا للنظام.”
لقد عاش الحجاج بين سطور التاريخ كالسيف: بريقه يبهر، وحدّه يجرح.
ولم يكن غريبًا أن يبقى اسمه حيًّا بعد أكثر من ألف عام، يُستشهد به حين نتحدث عن السلطة المطلقة، أو حين نصف حاكمًا لا يعرف الرحمة.
---
خاتمة: حين تنكسر الأسطورة أمام الحقيقة
تاريخ الحجاج بن يوسف الثقفي هو مرآةٌ لكل زعيمٍ اعتقد أن القوة وحدها تكفي لبناء المجد.
لقد صنع المجد بالفعل، لكن بدماءٍ كثيرة، وبثمنٍ لم تحتمله ذاكرة الناس.
إنه تذكيرٌ دائم بأن العدل بلا رحمة قسوة، والرحمة بلا عدل ضعف، وأن الحاكم الذي يحكم بالخوف يزرع حوله الصمت لا الولاء.
قال الفيلسوف مونتسكيو:
“السلطة المطلقة تُفسد مطلقًا.”
وهكذا كان الحجاج — عبقريًا في القيادة، مأساويًا في المصير.
رحل، لكنه ترك وراءه سؤالًا خالدًا يتردّد في ضمائر التاريخ:
هل يمكن أن نصنع النظام دون أن نصنع الألم؟
ــــــــــــــــــــــــــــ
_ المراجع والمصادر :
1. ابن الأثير، عز الدين علي بن محمد.
الكامل في التاريخ. دار الكتب العلمية، بيروت، ط.2، 1995م.
2. الطبري، محمد بن جرير.
تاريخ الرسل والملوك (تاريخ الطبري). دار المعارف، القاهرة، 1967م.
3. المسعودي، علي بن الحسين.
مروج الذهب ومعادن الجوهر. دار المعرفة، بيروت، 1989م.
4. ابن كثير، إسماعيل بن عمر.
البداية والنهاية. دار الفكر، بيروت، 1990م.
5. الجاحظ، عمرو بن بحر.
البيان والتبيين. دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1998م.
6. ابن خلدون، عبد الرحمن.
العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر. دار الفكر، بيروت، 2000م.
7. طه حسين.
على هامش السيرة. دار المعارف، القاهرة، 2003م.
8. شوقي ضيف.
العصر الأموي. دار المعارف، القاهرة، 1982م.
9. العقاد، عباس محمود.
عبقرية الحجاج. مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1953م.
10. الذهبي، شمس الدين محمد بن أحمد.
سير أعلام النبلاء. مؤسسة الرسالة، بيروت، 1985م.
11. الأصفهاني، أبو الفرج.
الأغاني. دار الفكر، بيروت، 1986م.
12. ابن عبد ربه، أحمد.
العقد الفريد. دار الكتب العلمية، بيروت، 1983م.
13. المبرد، محمد بن يزيد.
الكامل في اللغة والأدب. دار الفكر العربي، القاهرة، 1994م.
#محمد_غفير (هاشتاغ)
Mohamed_Gafir#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟