محمد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 22:43
المحور:
الادب والفن
حسن بريسم... آخر أنينٍ قبل أن يصمت الوجود
محمد رسن.
المدينة أرهقته بالفقدانات، والخذلانات التي تتكرر كما الجروح القديمة.
وطن خان ثقته، ولحظات صفوه أكثر إيلاماً من لحظات السكر.
وجعه ينخر جسده، لم يبق فيه ركن إلا وقد أصابه الكرب،
وحشة المكان، الوجوه التي بطشت بها اللاجدوى، والعدمية التي أرهقته، والاغتراب الذي حرقه من الداخل.
هو طائر بوهيمي، لا يعرف القوانين، لا ينحني أمام سلطة، ولا يركع إلا أمام الحقيقة.
يخمد ويشعل حشرجة الأنين في رئة الأرواح، يشعل القلب حين تنطفئ النجوم،
ويداوي جروح العاشقين الذين ضاع خاتم حبهم.
بحة صوته العود يغص بها، وأنينه يجعل كل الأوتار مفلولة.
آهاته تشبه شعلة تتوهج في فراغ الوجود، محاولة إيقاظ الحياة من موتها البطيء.
في فوضى مأساته، وضريبة نقائه، ينتحر رويداً رويداً.
ضريبة الحناجر غير المدفوعة الثمن، التي تكفر بالحناجر الدخيلة،
ليصلب فوضى الأغاني الهابطة، والوجود غير المجدي، والحياة التي بلا حياء بصوته الملائكي.
لا يسمع لحسن بريسم إلا من وثق أن الإنسانية مفردة هلامية.
القمر الحزين لا يخلد للنوم إلا إذا استمع لصوته، محاولة لإنصاف حزنه.
حزنه، يتيم السعادة، يتلوى حد شيخوخة المبدأ، حد الرمق الأخير، حد الهتاف الأخير.
حين يغنّي البريسم، يفتح للعدم باب المواجهة، يصرخ في وجه العبث كمن يحاكم الفراغ باسم المعنى.
صوته ليس نغماً، بل احتجاجٌ على خواء العالم، ومرافعة ضدّ موت الحسّ في أرواح البشر.
كل ارتجافةٍ في نبرته إعلانُ حربٍ على اللامبالاة، وكل شجنٍ فيه وثيقةُ إدانةٍ لزمنٍ بلا روح.
يغنّي ليُذكّر الوجود أن له قلباً، وأن الحقيقة وإن غابت، ما زال في الحنجرة منارةٌ تقاوم الليل.
فحين يصدح حسن بريسم، تهتز جدران العدم، كأن الصوت آخر صلاةٍ تُقال في معبد الإنسان.
في الليل، حين تتثاءب النجوم، يوقظها بصوته كمن يسكب الحنين في فم العتمة.
يخيط من سواد الليل وشاحاً من النور، يلفّ به الأرواح المتعبة.
وحين يصمت كل شيء، يظل صوته نداءً سرّياً بين الله والقلب.
وحين يطلّ النهار بثقله ورتابته، يسكب حسن في بياضه نكهةً من جنونٍ جميل، فيتحول الملل إلى غناء.
يرشّ على وجه الصباح ظلال نغمٍ يجعل الشمس تتلعثم من الدهشة.
يبدّد سكون الضوء بأنينٍ يوقظ الحجر، ويُلبس العاديّ ثوب الأسطورة.
فما إن يعلو صوته، حتى يصبح النهار مُرقّطاً بالأمل، كسماءٍ امتلأت بندى الروح.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟