محمد رسن
الحوار المتمدن-العدد: 8413 - 2025 / 7 / 24 - 15:26
المحور:
قضايا ثقافية
كثيراً ما أجد نفسي، على حين غرة، في مجالس تزدحم بأولئك الذين ظنّوا أن تضخّم أرصدتهم يمنحهم امتلاءً إنسانياً ومعرفياً يعلو بهم فوق الخلق. يتحدّثون بثقة صاخبة عن تجاربهم العظيمة ومشاريعهم الأسطورية، وكأنهم قد سبروا أغوار الاقتصاد والفلسفة والأدب معاً، فتخال أدونيس ينساب من ألسنتهم، أو فوكو يلوّح بأفكاره من بين كلماتهم، أو رامبو يشعل فتيل الشعر في حديثهم، بينما الحقيقة أنهم لا يملكون سوى قشورٍ براقة تخفي وراءها خواءً لا يُطاق.
كنتُ فيما مضى ألوذ بالفرار من هذه المجالس الموبوءة بالثرثرة والادعاء، مجالس لا يزدهر فيها سوى الضجيج والغبار، ولا يحضر فيها من الفكر إلا ما تردّد كصدى جوفاء. لكن الأيام علّمتني أن البقاء أحياناً أجدى من الهروب، وأن التوغّل في هذا المستنقع يهبك فرصة كشف المستور. صرت أجلس إليهم طويلاً، أتقمّص دور المأخوذ بسحرهم، أُظهر التصديق والقبول، وأتواطأ معهم في ترديد الشعارات الجوفاء، كمن يراقب حلبة سيرك تعبث فيها الدمى بخيوطها، وأصغي إليهم يروون أحلامهم التي لا تتحقق إلا بالفساد والاحتكار وتزوير الحقائق.
لم أسمع في حديثهم مرةً عن شرف المنافسة أو عن صفاء النية أو عن عيش كريم يحفظ للآخرين أقواتهم وكراماتهم. إنهم لا يعرفون للحب طعماً ولا للحياة معنى سوى المزيد من التكديس. أرواحهم أضحت كصحارى متصدعة، تحرقها الريح، وتترك في وجوههم نوبات جمود توحي بأن الحياة تتوقف بين أضلاعهم.
ويا للعجب! تجد بينهم من يبرّر كل ذلك الجشع المقيت بمنطق سخيف لا يقدر على إقناع طفل، إذ يصوّر لك اقتناص لقمة الآخرين وكأنه شطارة أو حنكة، بينما هو سقوط أخلاقي لا قاع له.
وقد يسائلني سائل: ما الذي جنيته من مخالطة هؤلاء؟ فأقول:
أولاً: إن صمتي بينهم كان كنزاً لا يقدّر بثمن؛ فقد أدخلني إلى دهاليزهم المظلمة، وكشف لي كيف تُحاك المؤامرات في غرف صامتة، وكيف يبيتون خططهم لالتهام الآخرين. وهذا الصمت نفسه أغنى ذهني بمادة حيّة صالحة للكتابة، وأخرجني من قوقعة الانطواء التي كنت أظنها ملاذاً آمناً.
ثانياً: اكتشفتُ أن هؤلاء، رغم مظاهر الغنى والسطوة، يبكون سراً على لياليهم الضائعة، ويتحسّرون على «خزنداراتهم» المكدّسة، فلا بهجة تضيء حياتهم، ولا سكينة تطرق أبوابهم، بينما قد تجد عاملاً بسيطاً في مستودعاتهم، يملك من الطمأنينة ورضا النفس ما يعجزون عن شرائه بأموالهم الطائلة.
إنها مأساة أولئك الذين ظنّوا أن الامتلاك مطلق، فإذا به حدّ الخواء والجشع.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟