|
موضة لا تيوقراطية في الإسلام !
أحمد التاوتي
الحوار المتمدن-العدد: 8491 - 2025 / 10 / 10 - 22:44
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من كتاب حقوق العصر طبعة 2016
الأصل في الحكاية.. أننا منذ صحونا على تخلفنا، ونحن نلوك عبارة ممجوجة أكل عليها الصّدأ وأَخْصَب، تقول إن هناك صراعا خاصا نشأ في الغرب بين الكنيسة والإقطاع في طرف، وبين المجتمع في طرف مقابل. أنجب هذا التناقض جملة من المفاهيم والاتجاهات من بينها المواطنة، المجتمع المدني والعلمانية.. وأن هذا الصراع الذي حدث في الغرب لم يحدث عندنا. كذا.
وبهذا سلمت أعرافنا وتقاليدنا وجميع رُعوناتنا الثقافية والعقائدية من المساءلة. مما سمح بإجراء الديكور المدني فيما بعد، طلاءً فوقيا على جميع قابلياتنا للاستعمار.
ومن زاوية نظر أخرى وقعنا في خطر الحرمان المنهجي والمفصلي من استفادتنا من أعرافنا الحيّة، والتي أخذت في تبلورها مدا وجزرا بفعل تناقضها المفتوح – غير المغيب أو المتكتم عليه- مع الاستعمار ثراء نوعيا يفسر الجانب الأكبر من الحركة الفكرية والسياسية التي عرفها العالم العربي بداية القرن الماضي.
توقف ذلك التبلور والتطور الطبيعي لأعرافنا بعد التحرر العام للشعوب،
ولأن الفُلك تجري على كل حال، سارت بنا الرياح على صعيدين:
• على مستوى المؤسسة السياسية المفارقة قمنا باستيراد قطع غيار من هناك، وركبنا منها اشتراكية عربية تؤمن بنهاية التاريخ، وبتمام النعمة في حدود سقف الكرملين.. كما تملي بذلك أية براديغما دينية وثوقية.. ومجتمع مدني عضوي مدمج فيها، ألحقنا به مجتمعا مدنيا لجوئيا فيما بعد. • على مستوى المؤسسة الدينية قمنا باستجلاب قطع غيار من هناك أيضا، وركبنا منها حقوق إنسان إسلامية وعلم تنظيمات إسلامي وعلم اجتماع إسلامي وفقه دستوري إسلامي... الخ، هكذا بالسطو على حقوق التأليف والإبداع، ثم سب المبدعين أيضا. طبعا لا إشكال مع مسألة السطو ثم السب هذه.. فعقوبة السطو والسب لا تقع بصرامتها المعيارية على قاصر.
الإشكال الموضوعي هنا هو مضاعفة غربة أعرافنا ومجتمعنا... فنحن لم نسائلها ولم ننطلق منها.. بل انطلقنا من شبه نماذج لأعراف جاهزة في التاريخ، إن لم تكن في كتب التاريخ المكيف وفقط، أضفيناها على قطع غيار من جغرافيا أخرى، بل ومن عصر آخر أيضا إذا أخذنا في الحسبان البعد المعرفي الذي يفصل بيننا وبين الغرب.
في هذه الحالة سوف تطبع هذه الغربة سلوك الأنظمة إزاء المجتمع في جميع مشاريعها.. ونقصد بالأنظمة هنا:
• الأنظمة المالكة لحق العنف المشروع.. السلطة السياسية مثلا. • والأنظمة المالكة لحق التبكيت الشرعي.. المؤسسات الدينية مثلا.
وهما معا، إقطاعا وكنيسة، غريبان عن المجتمع كما أوضحنا.
فهل لا نزال بإمكاننا تصديق مقولة أن ما حصل في الغرب من تناقض بين الكنيسة وبين المجتمع لم يحصل عندنا؟
هذه واحدة تجعلنا نحسبُنا غير جادين في دعوى لا تيوقراطيةَ في الإسلام..
فلنتقدم قليلا في التحليل..
التيوقراطية في ماهيتها وفي مفهومها العام تعني إرجاع السيادة وأصل السلطة إلى الله.. وفي هذا يتساوى الإسلام مع الديانتين السابقتين. ثم تندرج عن المفهوم العام هذا ثلاثة أنواع من التطبيقات التاريخية للتيوقراطية:
• الطبيعة الإلهية للحاكم.. • الحق الإلهي المباشر.. • الحق الإلهي غير المباشر.
هذه الأنواع الثلاثة سادت جميعا قبل الإسلام وظل النوعين الأخيرين بعد ظهوره أيضا لبضعة قرون.. وللوهلة الأولى، يتهيأ لنا بأن الإسلام يتميز عن تلك الأصناف الثلاثة.
ولكن إذا فرزنا المفاهيم، لنرى ما وراء هذه التصنيفات البروتوكولية الشكلية، من ملموس وواقعي بنهاية الأمر.. ماذا نجد؟
جميعها بالنهاية، تعني شيئا واحدا هو إرجاع السيادة وأصل السلطة إلى الله.. فنعود إلى معانقة مفهومنا الأول العام الذي لا يخرج عنه الإسلام.. لنعاين الإسلام مرة أخرى في الحظيرة التيوقراطية.
فالأصناف الثلاثة ليست ماهية للتيوقراطية، حتى إذا ما أخطأها الإسلام خرج عن التيوقراطية. ولكنها تطبيقات تاريخية للتيوقراطية رسمتها سياقات تاريخية مغايرة عن السياق الإسلامي.
أما الإسلام، وباعتباره مرحلة متقدمة من الحبكة العبرانية، فله سياقه الخاص الذي يحدد له تطبيقه التاريخي الخاص للتيوقراطية هو أيضا.
إن الأمويين، بعد أن تخلوا عن النظرية التيوقراطية في الحكم، والتي كرّسها الإسلام الأوّل، بجعل الخلافة على طراز الإمبراطوريات الزمنية، لجأ الفكر الديني إلى تهيئة تيوقراطية أشد من الأولى، فقد أصبح مبدأ الخلافة يقوم على سيطرة الدين على رجال الحكم بعد أن كانت التيوقراطية - في تطبيقها المسيحي بالعصر الوسيط والعصر الإسلامي الأول، تقوم على سيطرة رجال الأديان على الحكم.
فهناك إذن: - تيوقراطية ما قبل إسلامية.. (سيطرة رجال الدين، أو تحالف الإقطاع أو السلطة الزمنية، مع رجال الدين على الحكم) عرفتها المسيحية، إلى ثورات العصر الحديث.. وعرفها أيضا العصر الإسلامي الأول إلى ما يسمى عام الجماعة... ففي هذه المرحلة، لم يجد الإسلام له نظرية خالصة بعد في الشأن السياسي للحكم وسار امتدادا على ما كان عليه التطبيق الثالث بالمجتمعات الدينية قبله.. - امبراطورية عربية.. (سيطرة رجال "الدنيا" على الحكم) عرفها المسلمون منذ تولي معاوية إلى سقوط الحضارة العربية الإنسانية. - تيوقراطية إسلامية خالصة.. (سيطرة الدين على رجال الحكم).. عرفها المسلمون منذ سقوط الحضارة العربية الإنسانية إلى اليوم.
فقد يؤكد لك رجل الدين في هذا المرحلة المتطورة جدا في التدليس، بأنه ليس واسطة إلى السماء.. ويؤكد لك الحاكم بأنه ليس ظلا للسماء.. ولكنهما خاضعين معا إلى منظومة عبرانية، هي الظل، وهي الواسطة، وهي المدد معا.
فلا انتفاء هنا، لا للظل ولا للواسطة.. ولكن تسريح لهما بعد الشكر على المجهود، لضرورة المرحلة الجديدة التي تتطلب استبدال أساليب جديدة بها.. تمكينا للدين فوق الأفراد وفوق المؤسسات.. كي لا تطاله رماح بعد اليوم، ولا يَرِفُ عليه سؤال، ويعلو فوق كل اختبار. لقد كان قبل ذلك، يحدث أن تثور الشعوب على حكامها فتطال الرماح بعض الدين أو كلَه. لأن الحكام يشتملون بالمفهوم الثيوقراطي ما قبل الإسلامي، على بعضه أو كلِه. أما مع التيوقراطية الإسلامية، فلا يطال الدين شيئا من خطر تقلبات السياسة. والمُدان دائما وأبدا سيكون إما الحاكم الذي لم يحسن تطبيق شرع الله، أو الكاهن الذي لم يحسن تفسير شرع الله.. أو الشعوب "الظلومة الجهولة" التي لم تنقد إلى شرع الله.. وبهذا ضمنت هذه التيوقراطية الإسلامية الخالصة لنفسها تأبيدا رهيبا عبر العصور، ولا زلنا ننعم تحت حرها الصاقع إلى اليوم.
فهذا ما أسميه، تطور الدهاء العبراني مع الزمان والمكان.. وهو ما يسميه غيري، صلاحية الدين لكل زمان ومكان.. وللحقيقة..، لا أجد في نفسي أية معارضة للتسمية الأخيرة.
لقد أخذ الإسلام شيئا من الوقت ليبلور نظريته الخاصة عن الحكم الثيوقراطي يحكم قبضتها على الواقع بعدما أضحت التيوقراطية التقليدية غير مناسبة للوعي البشري الجديد.. فمن منا يتقبل اليوم فكرة إله في صورة حاكم، أو حاكم في نصف إله أو في ربعه، أو أن يسير الأزهر أو القرويين شؤون السياسة؟ فالتيوقراطية الإسلامية تحررت نهائيا من العبء المباشر لمسؤولية الحكم والحياة معا كما كان الحال في التيوقراطية التقليدية البسيطة.. وتجردت حاكما "روحيا" أعلى فوق الأفراد، بحكامهم وكهنتهم.. وفوق المؤسسات، دولا وممالك.. شاهرة وعيدها وموزعة لعناتها.. لقد انفرد الدين بالسيطرة شيئا فشيئا، بانتحال اجتهاد الإنسان، على العلوم العقلية والإنسانية.. وألغى فيها ما يريد، ليجعله كفيلا بتوجيه الحكام والرعايا معا. وبهذا أصبح بإمكانه تحقيق ما كانت ترمي إليه الخطة العبرانية منذ بدايتها، وهي نسبة الأخطاء للإنسان ونسبة النجاح للأديان، ليبقى الإنسان، حكاما وكهنة ومحكومين، في دوامة تبكيت وشعور بالتقصير والعجز والذنب والهواجس تمنعه من الانطلاق بفسيح الحياة.
فلحسن الحظ إذن، أن الخلفاء الأمويين، والعباسيين بعدهم بنسبة أقل بكثير، حافظوا على مسافة بينهم وبين رجال الدين.. والعلماء والفلاسفة في الحضارة العربية الإنسانية حافظوا على مسافة بينهم وبين الدين..، وإلا كان الحكم في عهدهم سقط في التيوقراطية الإسلامية الخالصة هذه، ولكن الخطر لم يكن مستبعدا تماما عن العالم الإسلامي الذي استبطن هذا النوع من التفكير في علاقة الحكم بالدين بحكم تحقق الوجود بالقوة – أي الوجود الكامن- للثقافة العبرانية.. ثقافة أرادها حكام تلك الفترة ديكورا دينيا لإمبراطوريتهم على شاكلة عصرهم، ولكنها استحالت فيما بعد إلى سم قاتل.. حيث بقيت تتعاظم - على غفلة من الحكام وغفلة من العلماء/الفلاسفة- في عقول الناس إلى أن أصبح الدين بالفعل يسيطر على الحكم سيطرة كاملة منذ الدور الثاني بالعصر العباسي وبداية الإرهاصات لانحطاط الحضارة الإنسانية العربية ودخولنا في العصر الإسلامي الثاني.
فهذه إذن تيوقراطية إسلامية خالصة أنقذت الحكم الثيوقراطي من جديد، وبعثته في أشد من شوكته التقليدية التي عرفتها المسيحية قديما.. وأشاعته في العالم بعد أن قضت عليه الحضارة العربية الإنسانية. ونحن لا نزال إلى اليوم ننعم في ظل هذه التيوقراطية البهيجة، التي يستحيل معها مطلقا أن نعرف لنا طريقا إلى تكريس المواطنة بمفهومها الإنساني الحديث.
#أحمد_التاوتي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسلمون معتدلون !!!
-
كلمة إلى التحريفيين الجُدُد في الإسلام
-
عن الثورة والمواطنة وكارما الفشل
-
المُتعة بين الشِّيعة والسُنّة
-
بين الدّين و التديُّن. 2
-
الديانات العبرانية. أول من أدخل الأيدولوجيا المادية الصرفة ع
...
-
الديانات العبرانية أوّل من أدخل الأيدولوجيا الماديّة الصّرفة
...
-
بين الدّين والتديّن
-
ما جنيناه من تسييس البحث الأنطولوجي
-
محنة الشعر العربي مع الحرب الأخيرة
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
-
من القديم الراهن 3
-
من القديم الراهن 2
-
من القديم الراهن 1
-
المكر الأزلي
-
عبور الجزائر.. محاذير في الطريق.
-
تحدي الساعة
-
خصائص العبور الجزائري الجديد و كيف نحافظ عليه
-
المثقف العربي بين النظام و بين بنية النظام
-
حقوق العصر.. تحقيقات في جريمة ازدراء العقل و معاداة الإنسان
المزيد.....
-
رئيس القضاء العراقي يدعو إلى خطاب وطني موحد بعيد عن الطائفية
...
-
وكالة معا الفلسطينية: فتح معبر رفح بعد أعياد اليهود بموجب ات
...
-
فوق السلطة.. ممثلة يهودية: هتلر من انتصر بغزة والسيسي يحذر م
...
-
دخول الاسلام الى بلاد السودان
-
انشاء ركن القدس في مركز الحضارة الإسلامية في طشقند
-
مقبرة الساهرة إحدى أقدم المقابر الإسلامية في القدس
-
اتفاق غزة يفضح صراع جبهات الإخوان.. مصر بمرمى المزايدات
-
اتفاق غزة يفضح صراع -جبهات الإخوان-.. مصر في مرمى المزايدات
...
-
بابا الفاتيكان يشيد بالصحفيين لنقلهم الحقائق من غزة
-
المستوطنون يستبيحون المسجد الاقصى وسط إجراءات عسكرية مشددة
المزيد.....
-
كتاب تقويم نقدي للفكر الجمهوري في السودان
/ تاج السر عثمان
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
المزيد.....
|