|
عن الثورة والمواطنة وكارما الفشل
أحمد التاوتي
الحوار المتمدن-العدد: 8475 - 2025 / 9 / 24 - 23:21
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من كتاب حقوق العصر... الطبعة الأولى 2016
جرى في أدبياتنا السياسية تداول فكرة قصور المعنى اللغوي في العربية عن احتواء معنى المواطن بمفهومه الغربي المنحدر من أصول لاتينية وإغريقية. والذي يعني الفرد المشارك في الشأن العام. ولا أجد مسوغا وجيها لهذه الفكرة. ففي القاموس المحيط وفي الصحاح أيضا: واطنه أي وافقه. وبهذا المعنى، المواطن هو الموافق والمواطنة هي الموافقة في مدلولها العربي اللغوي الوضعي. ألا يمكن لنا اشتقاق مدلول اصطلاحي من هذا المعنى؟ في تقديري، بلا. فالمواطنة هي تواضع الأفراد على الانسجام في منظومة علاقات تنظيمية ميسرة لتجشم أدوار وتداول وممارسة الشأن العام فيما بينهم. وهذا جوهر الموافقة والوفاق السياسيين. فمفهوم الوفاق والتواضع السياسي، إذا حاولنا إسقاطه على شعوبنا في الماضي، يمكن استشفافه من المشاعر التي تربط الفرد بقبيلته، لنجد بأن المواطنة انتماء لقبيلة وليس لمدينة.. يعود هذا الى طبيعة الثقافة البدوية المتسمة بالترحال وتتبع الماء والكلأ. وفي مقابل تعريفنا للمواطنة الحديثة أعلاه، نجد بأن مواطنة القبيلة هي تواتر ثقيل ومعقد من المشاعر والأماني والآلام والآمال المشتركة، انتظمت في شكل استجابات عفوية أولا ثم واعية إزاء نظام الحياة، تحددت بها أعراف وقيم يحترمها الجميع. والإجماع في هذا هو أن الفرق بين المواطنة الحديثة ومواطنة القبيلة هو انتفاء المكان القار مع هذه الأخيرة ليس إلا.، وما يترتب عن ذلك من جزئيات تنظيمية ومن دقة وتركيب وتعقيد تقتضيها الحياة الحضرية. واعتقادي أن مواطنة القبيلة التي تميزنا، أكثر قابلية من نظيرتها للتكيف مع المواطنة العالمية منتهى آمال الحقوقيين بهذا العصر. وذلك لاشتراك المواطنتين في انبثاقهما عن عنصر الإنسان بنسبة أكبر من عنصر المكان. فنحن لا نجد غضاضة في إعطاء نفس تعريف مواطنة القبيلة أعلاه إلى المواطنة العالمية بإضافة سحبه على الناس جميعا.
ودخولنا بهذا التقديم عن مفهوم المواطنة، هو احتراز من الرأي القائل بأن طبيعة اجتماعنا قبلية، ولا تصلح للمواطنة بالمفهوم المعاصر. فالقول بعدم قابلية القبيلة للمواطنة بمفهومها الحديث مطلقا، خطأ.. أما من يرى ذلك بسبب أرضيتها الثقافية المؤسسة على الغيبيات، فله الجانب الرئيس من الصواب. وهو سبب غير طبيعي، سياقي طارئ على الفطرة البشرية التطورية وإن طال وامتد على آلاف السنين، ويمكن التخلص منه.
والاشتغال على ترقية المواطن في بلداننا يمر حصرا وأولا من باب تجميد أو تجفيف منابع ثقافتنا في أساسها الغيبي وإعادة بعثها على أساس وضعي. ولا يفوتني هنا توجيه القارئ الكريم إلى مشروع الدكتور حسن حنفي الذي يعتبر عملا متفردا وبداية موفّقة في هذا المضمار.. ويسوئني كثيرا ألا أرى كبير أثر لتداوله في مواقع التواصل، كما يتداولون سفاسف مهاترات الشيعة والسنة، وتعالُميات السلفية والصوفية، وقُنْفُذِيات التعريب والتغريب، وذِئبيات الإخوان والمصالح.
في الجانب السياسي، محاولاتنا المعاصرة في تكريس المواطنة ليست جدية.. فمنذ الطعنة الأولى في ظهر حقوق الإنسان التي دشنت عصر النخاسة ونحن نراوح في هذا العصر إلى اليوم.. المؤشر الرئيس الذي يدعنا نتبين هذا بوضوح هو مضمون ثوراتنا منذ بداية جدلنا مع العصر الحديث.. لا توجد ثورة تتعلق مضمونا وأساسا بالإنسان المواطن.
فالثورة النجدية الأولى (1744)، الوهابية، قامت من أجل محاربة ثقافة محلية (مظاهر الشعوذة) لصالح العقيدة التاريخية (توحيد القطيع) التي أنتجتها.. وليس لصالح الإنسان المواطن. والثورة العربية الأولى (1916) قامت من أجل استعادة الخلافة من بني عثمان إلى قبيلة قريش. والثورات الفكرية والثقافية بعدها قامت من أجل اللحاق بالغرب. ثم الثورات التحررية من الاستعمار قامت من أجل الأوطان. ثم الثورات التنموية للأنظمة الوطنية بعدها قامت من أجل الايدولوجيا الشمولية.. الابنة الشرعية للدين. ثم جاءت بعدها ثورات الصحوة من أجل الدين. أي سئمنا من البنت، وعدنا إلى معانقة أمها. وأخيرا ثورات الربيع..، صرخة مدوية في وجه فشل تراكمي للثورات السابقة استحالت إلى قنبلة هوجاء نحن الآن ومنذ سبع عجاف، نتابع فيها عبقرية شعوبنا التي تقاوم في صمت وصلابة أشباح الماضي وغيلان الحاضر. هذا باختصار... ونقوله بأسف.. وكل قلوبنا دعاء سافر إلى الوطن الكبير.
كل الثورات السابقة، وعلى افتراض أنها حققت أهدافها كاملة فإنها ليست متعدية بالضرورة إلى المواطن. فقد يعود القطيع إلى الحظيرة، وتنهب آلاف الرعايا في أعراضهم وأرزاقهم وتزهق أرواحهم ظلما بدعوى محاربة الشرك. وقد تعود الخلافة إلى قريش ويضيع حق المواطن الفلسطيني فرق عملة بين المساومات. وقد تلحق نخبنا بالغرب، ويستحيل المواطن إلى جموع مدجنة من المخلوقات.. تصلح بامتياز فرجة عجائبية للسائحين. وقد نحرر الأوطان، ونأكل أبناءنا. وقد نحقق تنمية، ونقمع الحريات. وقد نقيم دينا، وهذا وحده يكفي...
فما لم نقم بثورة، سؤالها الإنسان وحقل اشتغالها الإنسان، وغايتها الإنسان، لا يمكن الحديث عن ترقية مواطنة ولا عن مجتمع مدني ولا هم يرقصون.
ومثل هذه الثورات لا ولن نرجو لها أن تقوم على العنف، لأن الآليات النفسية، بل وحتى الديكور النفسي لعنفنا مهما كانت أهدافه تقدمية، إلا أنه لا يزال ينمو ويستقي طبيعته ولونه وخصائصه من تراثنا الرجعي. كما أن مثل تلك الثورات التي نعنيها، لا تحدث ضد الآخر، ولكنها تحدث في الذات.. مراجعات صارمة وغير متسامحة مع الموروث الذي لا يزال يوجهنا، مع المنشطات الغيبية الغبية التي لا تزال تطعمنا بقوة وتفرد وهميين من بين باقي العالم. تليها مساءلات في واقع المواطن وشروطه الاجتماعية والسياسية، ومدى تحقيق الانعتاق الكلي بما أمكن، بمطلق إرادته وحريته من طاقاته ومخزونه الحيوي، ومن داخل أطره المجتمعية، وأبنيته المحلية مجرى الحياة العامة، وتفاعل ذلك أو عدمه مع حجم التأثير الرجعي العائد على وضعه الشخصي ورضاه وتوازنه. ثوراتنا الفكرية والشعبية الحقيقية بدأت مع بداية القرن الماضي في أنساقنا القبلية وبنانا الفكرية المحلية وامتدت على طول القرن العشرين إلى التحرر السياسي، حيث تركت مكانها إلى الديمقراطية الجماهيرية الشمولية والغوغائية الوطنية الصاخبة، الأشد صلفا وخطرا من شمولية النسق الاجتماعي المحلي في تأليه مصلحة "أهداف الثورة" على حساب الحقوق والحريات باسم الحقوق والحريات..
ولأن الميديا التقليدية المتحكم فيها لم تعد المصدر الوحيد للخبر وللرأي، وصلنا إلى ثورات من أجل الإنسان مطلع العقد الثاني من هذا القرن، غير أن الأنظمة التوحيدية متمكنة ومتضامنة ليس على مستوى السلطة فقط، ولكن أيضا على مستوى المؤسسة الصامتة التي تصنع الإجماع، والتي تستغرق وتغرق سوادا كبيرا من شعوبنا. ولذلك سهل اختطاف الثورات في كل بلد. والتاريخ يعيد نفسه باستمرار عندنا (سرقة الدين للثورات) ما لم نجتاز الحاجز المعرفي وندخل العصر. فقبلها بقرون لدى اكتمال الرشد العربي الأول، وازدهار الثقافة والتجارة بالحجاز، واختمار فكرة الأمة لدى العرب كإطار سياسي فوق-عشائري جامع نتيجة جدلهم المتزايد مع أطراف الشام والعراق، وعلاقاتهم مع الروم وفارس، وبالموازاة، ما حدث من نضج المسحة الإنسانية، التي أضفاها الحكماء العرب، قبل أن يقفز بانتهازية وقحة بحيرى الراهب وورقة بن نوفل ومسلمة الحنفي والأسود العنسي ومن شاكلهم على الخط. حيث بمكر هؤلاء، كان الدين متربصا لاقتطاف تلك الإرادة الجبارة الناهد إلى المستقبل، وسرقة ثمرة تلك الثورة الناعمة التي يعود اختمارها اجتماعيا، ثقافيا وسياسيا وإنسانيا منذ انهيار سد مأرب وعلى مدى القرنين الخامس والسادس، ومن ثمة توجيهها إلى وثوقية شمولية عنصرية إقصائية لم يخفف من خطرها قليلا إلا حكمة الأمويين الذين كانت لا تزال فيهم "جاهلية".. ولم يقض على عنصريتها إلا العباسيون الذين انفتحوا على العالم وثقافاته.. ولم يبدد عقائدها السادية إلا التصوف الفلسفي المحلق فوق الأديان وفوق الثقافات المحلية.. كاد التصوف الفلسفي أن يدخلنا في عصر أنوار حقيقي كامل، غير مبتور كذلك الذي حدث في الغرب، لولا أن فترة ظهوره لم تتسع إلى عملية الانتقال من حقائق التجريد إلى ظواهر التاريخ، وبقي معينه في دوائر نخبة الفلاسفة الذين حوربوا ولم يتمكنوا من إنقاذ أنفسهم وحياتهم الشخصية بله أفكارهم وتطلعاتهم الوجودية التي لم تختمر سياسيا فتتحول إلى تطلعات حضارية.
والتصوف الفلسفي هنا لا علاقة له بما نسميه تصوفا بديلا للوهابية بزمننا الراهن.. فالتصوف الفلسفي كان بذرة إنسانية خالصة في فكر فلاسفة المسلمين، تعلقت أطروحاته - إذا ما عفونا عن تقييدات التصوّر المتاح ولغة الإيمان والعبادة اللا متفكر بغيرها آنئذ-..، تعلقت بعبثية الأديان وحقيقة كونها حاجزا منيعا عن العلم لنقليتها (وكانوا يحدسون)، وعن الإدراك لغيبيتها (وكانوا يشهدون)، وعن المطلق لتراتبية ثنائيتها الوجودية (وكانوا يتماهون). وكانت هذه الأطروحات واعدة بمقاييس زمنهم العلمي.. ولو صبر عنها المكر العبراني قليلا، لما تعثرت في عالم الروحيات، ولكانت خرجت منه كقوالب فكرية متنامية بخصائص جديدة عبر المسافة الواصلة، من مجال الأفئدة إلى مجال المجتمع.. ثم كطرائق تفسير متحولة أيضا بخصائص جديدة تناسب الحقل الجديد عبر المسافة الواصلة، من مجال المجتمع إلى مجال البحث العلمي.. ولكان أسلمنا حدسهم – طبعا بعد مراحل- إلى فرضيات فنظريات..، وشهودهم إلى العلوم التجريبية..، وتماهيهم إلى ... إرهاصات ما يسلم إلى نظرية الكم.
نعم عزيزي القارئ.. لولا المكر العبراني الذي حارب ما يعرف في تراثنا بالزنادقة والملحدين والباطنية، وحتى الخوارج والمعتزلة الذين أُلحقوا بوصفهم، لكنا عرفنا الأنوار قبل الأنوار.. ولعل تمعنا جديدا في فلسفتهم - على تجاوزنا لها - يحدثنا طويلا عن ذلك الضرب من التصوف الإنساني الذي لم يكن دينيا إلا بما تضفيه عليه ثقافة عصره، لبوسا ظاهرا في الصور والمفردات والطقوس.
#أحمد_التاوتي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المُتعة بين الشِّيعة والسُنّة
-
بين الدّين و التديُّن. 2
-
الديانات العبرانية. أول من أدخل الأيدولوجيا المادية الصرفة ع
...
-
الديانات العبرانية أوّل من أدخل الأيدولوجيا الماديّة الصّرفة
...
-
بين الدّين والتديّن
-
ما جنيناه من تسييس البحث الأنطولوجي
-
محنة الشعر العربي مع الحرب الأخيرة
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
-
من القديم الراهن 3
-
من القديم الراهن 2
-
من القديم الراهن 1
-
المكر الأزلي
-
عبور الجزائر.. محاذير في الطريق.
-
تحدي الساعة
-
خصائص العبور الجزائري الجديد و كيف نحافظ عليه
-
المثقف العربي بين النظام و بين بنية النظام
-
حقوق العصر.. تحقيقات في جريمة ازدراء العقل و معاداة الإنسان
-
علاقة داعش بالخلافة الأمريكية
-
تسامح الجزائر مع اكتساح النشاط الطقوسي/السياسي للمجال العام
-
سؤال عن مستقبل الثقافة في الجزائر
المزيد.....
-
ترامب يعد قادة دول عربية وإسلامية بوضع حد لحرب غزة
-
زعماء دول عربية وإسلامية يعلنون نتائج قمتهم مع ترامب لوقف حر
...
-
زعماء دول عربية وإسلامية يعلنون نتائج قمتهم مع ترامب لوقف حر
...
-
الجزائر: مقتل ستة إسلاميين مسلّحين في عملية عسكرية قرب منطق
...
-
أردوغان يهنئ مواطنيه اليهود بعيد رأس السنة العبرية
-
رئيس إيران: لم ولن نسعى لإنتاج قنبلة نووية وفقا لفتوى المرشد
...
-
تداعيات خطاب قائد الثورة الإسلامية على الساحة الإسرائيلية
-
-تطبيق الشريعة الإسلامية في لندن-.. ادعاءات ترامب خلال خطابه
...
-
قادة دول عربية وإسلامية بلقاء ترامب: إنهاء حرب غزة خطوة أولى
...
-
ترامب يلتقي قادة دول عربية وإسلامية على هامش اجتماعات الأمم
...
المزيد.....
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
المزيد.....
|