|
الديانات العبرانية. أول من أدخل الأيدولوجيا المادية الصرفة على الفكر البشري.2
أحمد التاوتي
الحوار المتمدن-العدد: 8468 - 2025 / 9 / 17 - 18:20
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من كتاب حقوق العصر... الطبعة الأولى 2016
الكون ليس طبيعة وما وراء طبيعة.. ولكنه مدرك وغير مدرك بعد.. طبيعة متعددة الأبعاد. طبيعة حية، ووحدة متكاملة كما يعيشها الإنسان ويشعر بها في حاجاته البيولوجية وحاجاته النفسية وتأملاته العقلية ككل متجانس.. فيه ما تم ضبطه بما يقتضيه الشرط العلمي، ومنه الذي لم يتم سبر غوره بعد. الكون، كل الكون بأعيانه المادية وجواهره المستقلة، وحركاته بتعدد أبعادها، طبيعة. والإدراك البشري مسيرة متواضعة تمشي بخطى متعثرة ولكن دؤوبة في عالم الطبيعة. في هذا التصور لا وجود لشيء اسمه ما وراء الطبيعة.. ولكن يكون من العلمية بمكان الحديث عن ممكن الإدراك. أي المجال الطبيعي الذي لم تصل إليه المعرفة البشرية بعد، ولكنه لا يستحيل على العقل.. وقد لا يصل الإنسان إلى الإحاطة بكله أو جله أو بعضه في ملايين السنين.. لسنا ندري.. الثابت الذي ندريه، وعن يقين وخبرة ومنطق ومشاهدة، هو أن الدين بحروبه وتمييزه بين الناس وبفتنه، وباحتقاره للعقل وازدراءه لعلومه ومعاداته للإنسان، ليس مؤهلا لاختصار تلك المسافة المهولة من الزمن.. ولا حتى لاختصار لحظة من ضُحى.
- ثم ما الدين؟ وما دعواه هنا؟ هل هو علم؟ - كلا.. إنما هو وحي.. - وما الوحي؟ - هو كتب تشرح برنامجا لممارسة الحياة وتصور الكون، نزل به – والعهدة على إخباريينا- كائن فضائي على بشر من بيننا.. - جميل.. طيب، لا إمكان للتأكد من كائنك الفضائي، ولا للتأكد من إخبارييك الغابرين... هات البرنامج!
ادرسوا البرنامج هداكم العقل.. ومن دلّكم على ما يسبق البرنامج، اقبضوا عليه فورا، بجريمة تمرير مخدرات، في محفظة دبلوماسية.
والاختلاف المدرسي الذي طغى على رسم أولويات التفسير منذ اليونان، ثم من هيغل إلى فيورباخ إلى ماركس والمدارس بعدهم، وهو اختلاف منهجي اعتباري، خرج عن طبيعته المنهجية الأداتية مع الفلاسفة أنفسهم وانتقل بفعل عنت السياسة المختلطة بالتيارات الدينية، من أداة تفسير لموضوع إلى تمثيل الموضوع نفسه، واستحال بهذا إلى مفهوم سياسي يجري بالتاريخ بدل أن يحتفظ بوظيفته كأداة اعتبارية وفقط. ومن هنا دخلنا معضلة ثنائية المادية والمثالية. فالفلاسفة السابقون، المثاليون والماديون دخلوا، من بين عديد من المسائل، في منازلات وجود أو عدم وجود الأساس المادي التشريحي البيولوجي، أعضاء أو أحماض أو غدد، للمشاعر والعمليات العقلية. وبناء على عدم الضبط القاطع بالشرط العلمي لوجود هذا الأساس المادي التشريحي آنئذ، أنكر الماديون وجود الجانب الروحي في الإنسان كجوهر مستقل وأثبت المثاليون ذلك، أي أثبتوه كجوهر مستقل.. أما لاهوتيو الديانات، فلم يلتفتوا إلى روح الإنسان من كل ذلك الجدل إلا لما اختص باستدلالات المثاليين على وجهة نظرهم، من أجل توظيفها في الاستدلال على وجود عالم ما وراء الطبيعة، ليطنبوا بعد ذلك على مقاس نزواتهم ونرجسيتهم الدينية، في وجود الآلهة بصفات ملوكهم، والآخرة وعذاب القبر وغير ذلك. فأكبر مستفيد من هذه المعضلة/الخطأ هو الدين.
ذلك أن الدين لا يملك شيئا من الشعر أو العقل ابتداء.. فهو ذا أساس غريزي.. يشتغل على مخاوف الناس ورغباتهم ليؤسس منها جهازا تبكيتيّا يوجه به الجموع..
ولأن ذلك الأساس الغريزي سوف لن يعمر في الأرض ولن ينطلي على العقل البشري التائق أبدا إلى رشده، كان الدين في أمس الحاجة إلى هذا الاختلاف بين المفكرين لينقضّ من خلال هذا النزاع على منظومة يحتاجها هي المثالية، ويطور لها في أوساط الشعوب المتدينة مفهوما آخر يخرج بها مؤقتا عن مثالية كانط، (عالَم الجانب العقلي والعاطفي في الإنسان) إلى مثالية هيجل، (عالَم الإيمان بما وراء "المحسوس").. وهذا المحسوس لا يكون في مغالطاته سوى ما حدده مسبقا بعالم الطبيعة، ليسند من ثمة إلى ذلك العالم المبهم – ما وراء الطبيعة- كل ما أراد من تعليمات ولوائح وكوارث.، ثم يعود بها مرة أخرى على مثالية كانط، عاملا فيها تخريبا وتشويها.
تضحى بعد ذلك جميع استدلالات الفلاسفة المثاليين تصب في صالح الدين بطريق مباشر أو غير مباشر. وقد أفاد المد الإخواني الإسلامي المعاصر من هذا جميع تنظيراته التي غزا بها العالمين العربي والإسلامي. ومن مفارقات هذا الأمر أن أصبحنا نتبنى خلاصات المناقشات حول الإلحاد التي تتم في أوروبا.. أوربا التي تناقش مسائل الإلحاد كمرحلة متقدمة جدا في مجال الحياة.. إذ أن الغاية هناك من تلك المناقشات ليست تطبيق شريعة موسى في المجال العام، فالمواطن هناك سواء كان مؤمنا أو غير مؤمن لا يفكر البتة في العدول عن مكاسب العصر من ضرورة القوانين الوضعية وضرورة النظام العلماني وضرورة المناخ الليبرالي، كمكسب عام وعمومي جوهري يعود نفعه على الجميع، بما في ذلك الأوكار الدينية. أما عندنا، فنحن نناقش هذه المسائل – من ريع ما نسترقه عن الفكر الإنساني بالطبع- من اجل فرض شريعة من خارج العصر وتجسيدها طوعا أو كرها بالمجال العام.
لقد صادف هذا الأمر توافقا مع الكسل العقلي الذي يطبع كتابنا المسلمين.. فراحوا يدعون لأندلس لدى حصار حلب.. لقد انخرطوا جميعا في حرب – لا علاقة لنا بها - مع أطروحات الإلحاد في أوربا وأمريكا، تحريفا لعقول الشباب الحائر المتسائل عن المنظومة القيمية الدينية واهتراءها البادي جليا بواقعنا واجتماعنا. وتدليسا عليهم وتحريفا لأنظارهم وانشغالهم من التركيز على برنامج ينخر واقعهم إلى التركيز على أصل وهمي لذلك البرنامج.
وحتى إذا افترضنا، وهو افتراض محال، عدم وهمية ذلك الأصل، يبقى هذا النحو من التلاعب وتحريف الاهتمام عملا لا أخلاقيا من قبل أولئك الكتاب والدعاة المسلمين.. كيف؟ لنفترض أن برنامج حكومة معينة تسبب في الفساد الإداري والاقتصادي لبلد ما.. وكلما حاول النواب مناقشة ذلك البرنامج، حرف أعضاء الحكومة النقاش إلى محامد ومناقب وفضائل رئيس حزبهم الذي هو رئيس الدولة أيضا..، وإلى كونه رئيسا شرعيا.. وعلى النواب - والشعب معهم- بدل أن يركزوا على برنامج الحكومة، عليهم أن يركزوا جهودهم على صد الحملة التشيكية الشرسة والمغرضة التي يواجهها رئيس الدولة من طرف أعداء الخارج وأزلامهم في الداخل. هل هذه "التحويلة" عمل أخلاقي؟؟ مع أنه لا أحد أورد سيرة رئيس الدولة، لا بالخارج ولا بالداخل.. نحن نناقش برنامج الحكومة يا عربة...
أما إذا كان رئيس الدولة غير موجود كما هو الحال مع الديانات، أو ربما يكون موجودا ولكن لا علاقة له بذلك البرنامج كأن ينسب له ويلفق عنه كما هو الحال مع دعاة الديانات، فإن تلك التحويلة لا تعتبر عملا لا أخلاقيا فقط، ولكنها عمل في منتهى السادية ومنتهى معاداة الإنسانية. من المؤسف أن الافتراض المسوق للمثال ليس خيالا، ولكنه واقع مكابد هو الآخر بعالمنا العربي.. وهو دليل ما قبل العدد اللانهائي على الطابع الديني الذي تتميز به حكوماتنا المتهمة بالعلمانية.
لقد كان منذ التأسيس الأول، كل نقد للإسلام (برنامج الحكومة) حربا معلنة على يهوه أو الله (رئيس الدولة) وارتدادا عن الملة (خيانة الوطن) ... تماما كما غدى كل نقد لبرنامج الحكومة (الإسلام) حربا معلنة على رئيس الدولة (يهوه او الله) وخيانة للوطن (ارتدادا عن الملة) ... طبعا مع حفظ الفارق في المثال.. وأذكر به ثانية..، وهو تحقق التاريخية في العلاقة بين الرئيس والحكومة، وعدم بداهتها في العلاقة بين الدين وخالق حقيقي (وليس إله الديانات) إن وجد من جهة..، وتحقق تاريخية أصل الحكومة، ووهمية أصل الدين من وجهة أخرى. لقد حصل من هذه الرؤية الدينية الشاذة عن فطرة التفكير السليم، أن ركب موجة تمجيد الأوطان والتاريخ والأشخاص والتراث على حساب تحليل الواقع وعرض المشكلات والحلول، كثير من السياسيين، حتى أصبحت برامجهم الحزبية عبارة عن قصائد عصماء من العصر الطباشيري.. تماما كما هو الحال مع رجال الدين الذين حرفوا أنظارنا عن تحليل الدين وعرض مشكلاته، لدرجة أننا غدونا نردد معهم في انتشاء مرضي ما قاله بعض فلاسفة الغرب وعلماءه في مدح الإسلام، ولم نتساءل يوما، لماذا لم يدخلوا في الإسلام. لقد فاتنا أن أولئك العلماء الغربيين كانوا في حملة علمية مركزة على الكنيسة وعلى أفكار العصر الوسيط.. وأنهم قادوا أوربا منذ أنوار القرن 16 إلى القرن 20 في مسيرة فكرية مناهضة للعقل الغيبي ولكل ما من شانه أن يحول بين الإنسان وبين حريته وإرادته وضميره.. وكان من جملة مراجعاتهم في الكنيسة ومآخذهم عليها، رأيها العقائدي العنصري المغرض إزاء الشعوب الأخرى ودياناتها خصوصا إزاء المسلمين.. ومن هنا كان كلامهم عن الإسلام قدحا وتعريضا بتلك العنصرية الكنسية الدينية التي لم يكونوا، وهم من هم في عقلانيتهم وإنسانيتهم، أن يقبلوها.. ولو عاشوا في سياق إسلامي لقاموا بنفس الموقف إزاء نرجسية الإسلام، ولقالوا كلاما جميلا في ثقافات باقي الشعوب المشنوقة على منابرنا، والتي كلما قضى حبل بدلناها حبالا جديدة...
وجميع كتابنا الأحرار يقومون اليوم بنفس العبء.. فقد يشيرون أحيانا إلى احترام المؤسسة الكاثوليكية للعلم مقارنة بمؤسسة الأزهر، وهذا صحيح.. أو إلى تقدير الأقباط للدولة المدنية وأهميتها مقارنة بالإخوان المسلمين، وهذا صحيح أيضا..، فهل يعني هذا أن أولئك المفكرين الأحرار أضحوا يعتقدون في صحة المسيحية كوحي عن المطلق، ويفضلونها منهاجا لحياتهم؟؟
هل يمكن أن نصدق درويشا مسيحيا، بعد انهيار أوربا – لا ساءت الظروف- بعودتها إلى دينها المسيحي، وبعد نهوض العرب – لا قدر يهوه- بتخلصهم من دينهم..، هل نصدقه إذا ما استشهد بكلام أولئك الكُتاب، الخاص في سياقه عن الكنيسة كما هو الحال اليوم، قائلا هؤلاء مفكرون عرب كانوا يقولون كذا وكذا في مدح المسيحية عرفانا بالدين المسيحي وصحته؟؟
هذه باختصار قصة سطو الدين على أفكار الإنسان لتحويلها ضد الإنسان. وهكذا دخلت المادية الدينية الغريزية المتوحشة إلى حياة البشر، متوشحة لباس المثالية.
#أحمد_التاوتي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديانات العبرانية أوّل من أدخل الأيدولوجيا الماديّة الصّرفة
...
-
بين الدّين والتديّن
-
ما جنيناه من تسييس البحث الأنطولوجي
-
محنة الشعر العربي مع الحرب الأخيرة
-
حوار مع صديقي الشات (ج ب ت)
-
من القديم الراهن 3
-
من القديم الراهن 2
-
من القديم الراهن 1
-
المكر الأزلي
-
عبور الجزائر.. محاذير في الطريق.
-
تحدي الساعة
-
خصائص العبور الجزائري الجديد و كيف نحافظ عليه
-
المثقف العربي بين النظام و بين بنية النظام
-
حقوق العصر.. تحقيقات في جريمة ازدراء العقل و معاداة الإنسان
-
علاقة داعش بالخلافة الأمريكية
-
تسامح الجزائر مع اكتساح النشاط الطقوسي/السياسي للمجال العام
-
سؤال عن مستقبل الثقافة في الجزائر
-
مصر تصحح مسار الربيع
-
الإلحاد و الإسلام
-
هوس الإعجاز عند المسلمين
المزيد.....
-
عرض كتاب.. التهديدات الإسرائيلية للمقدسات الإسلامية والمسيحي
...
-
عرض كتاب.. التهديدات الإسرائيلية للمقدسات الإسلامية والمسيحي
...
-
نيويورك.. يهود يتظاهرون احتجاجا على مشاركة نتنياهو باجتماعات
...
-
يهود يتظاهرون في نيويورك احتجاجا على مشاركة نتنياهو باجتماعا
...
-
القمة العربية الإسلامية في الدوحة.. نجاح مرهون بمراجعة التحا
...
-
التعليم كجبهة في الحرب الناعمة: بين الاستخراب الغربي وبناء ا
...
-
خليج الجنة في تركيا.. رفاهية خفية على شاطئ لا يقصده سوى الأث
...
-
أردوغان يعين صافي أرباجوش رئيسا للشئون الدينية التركية
-
مظاهرة يهودية في نيويورك ضد مشاركة نتنياهو في اجتماعات الأمم
...
-
نيويورك.. يهود يحتجون على مشاركة نتنياهو في اجتماعات الأمم ا
...
المزيد.....
-
القرآن عمل جماعي مِن كلام العرب ... وجذوره في تراث الشرق الق
...
/ مُؤْمِن عقلاني حر مستقل
-
علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب
/ حسين العراقي
-
المثقف العربي بين النظام و بنية النظام
/ أحمد التاوتي
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
المزيد.....
|