أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم اليوسف - مزكين حسكو... في أمسية- دوكر- هذه الليلة!














المزيد.....

مزكين حسكو... في أمسية- دوكر- هذه الليلة!


إبراهيم اليوسف

الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 22:20
المحور: الادب والفن
    


مزكين حسكو... في أمسية" دوكر" هذه الليلة!


كأنّ يوم الوطن نفسه كتب مرثيتها قبل أن تبدأ شمسه بالطلوع، إذ حمل الوطن عودة ابنته كما يُحمل نَفَسُ القصيدة في صدر شاعرها. وصلت مزكين حسكو إلى دوكر، إلى مهدها الأول، إلى القرية التي تشبهها في عنادها وطيبتها وارتفاعها عن الصغائر. هناك، حيث يختلط العشب بذاكرة الراحلين، وُورِي جسد الشاعرة الطاهر، الجسد الذي عانى كثيراً في محرقة الكتابة عن الوطن، فعاد الوطن ليكتبها بمداد الأرض. لم تكن عودتها رحلة في الجغرافيا، بل عبوراً من ضفة إلى أخرى، إذ عادت كما تعود الفصول إلى ترتيبها، وكما تعود القصيدة إلى صمتها بعد أن تُقال.
قرية دوكر أضيف إليها اسم جديد، علامة جديدة، بل صارت منبراً تتلى عليه قصيدة شاعرة مبدعة، منذ أن هبط النعش من بين أيدي أهلها، ذويها، محبيها، بدا وكأن القصيدة التي ظلّت مزكين تكتبها طوال حياتها قد اتخذت شكل الجسد وسكنت بين ألواح الزان. أجل، لم تكن مزكين حسكو شاعرة عابرة، بل ابنة للكلمة كما هي الآن ابنة للتراب. كتبت بروح صوفية كما يُصلي لأجلها الأهلون هناك. لقد رضعت لغتها الأم مع حليب أمها، فلم تكن لغتها مجرد وسيلة تعبير بل آيات صلاة خاصة، كانت وطناً بديلاً، مسكوناً بنبرة شجن لا يخطئها السمع، وبعزيمة امرأة تعرف أنّ الكلمة يمكن أن تهزم الغياب.
ولدت في الشلهومية، وترعرعت في تربسبي، في حضن الجزيرة الكردية التي أنجبت كثيراً من الشعراء والمناضلين والمقاتلين والحالمين، وظلّت تلك الأمكنة تنبض في قلبها مهما ابتعدت المسافات. كانت تقول: الوطن لا يُغادر من يسكنه الشعر. وحين اضطرها القدر إلى الغربة، حملت كردستان في حقيبتها الصغيرة، بين الأوراق والدفاتر، كي تضعها على الطاولة كلما جلست لتكتب، لتتذكر أنّها لم تغادر إلّا جسداً، وأنّ الروح ما تزال تمشي على تراب الوطن.
في ألمانيا، بين برد المنافي وصمت المدن البعيدة، كانت مزكين تكتب بالكردية كما تزرع شجرة في حديقة غريبة. كانت تعرف أنّ الكلمة مقاومة، وأنّ الحفاظ على اللغة في بلاد الآخرين نوع من الصلاة السرّية. ومع الوقت، أصبحت قصيدتها هي الوطن، والقصيدة حين تُكتب بصدق تصير أكثر واقعية من الجغرافيا نفسها. كتبت ونشرت أربع عشرة مجموعة شعرية، كلّ واحدة منها مرآة لروحها، لا تُشبه سواها، ولا تحتاج إلى توقيعٍ لتُعرف، لأنّ لغتها وحدها كانت كافية لتدلّ عليها. وكانت نتاجاتها هذه – في نظرها – مجرد عنوان لعطاءٍ أعظم قادم، ولكن!؟
رحلت وهي محاطة بأبنائها الثلاثة الذين رافقوا جنازتها، كما عمّهم الفنان هفراز حسكو، أبناؤها الذين ربّتهم على المحبة والكرامة، وعلى أن اللغة الأم ليست مفرداتٍ فحسب، بل انتماءٌ وذاكرة وكرامة. في زمنٍ ينسى فيه كثيرٌ من أبناء المهاجرين لغتهم الأم، ظلّت مزكين تغرس الكردية في قلوبهم كما تُغرس شتلةُ زيتونٍ في أعالي جبال عفرين، أو كما تُغرس سنبلةُ قمحٍ في تراب الجزيرة وكوباني، لتذكّرهم بأنّ الوطن لا يُختصر في خارطةٍ ولا في حدود، بل في الذاكرة التي نحملها من حليب الأمهات إلى آخر أنفاسنا. بعد أن ودّع رفيقُ دربها عايد رفيقةَ دربه من المطار الألماني في طريقها إلى الوطن، لا كمن يودّع بل كمن يُكمل الطريق عنها.
ابن عمها هفراز حسكو، زوج شقيقتها مايا، كان بين الحاضرين، مثل امتدادٍ للدمّ والوفاء، يرافقها إلى مثواها الأخير في دوكر. هناك اجتمع آل حسكو، وأهل القرية، ورفاق الكلمة من الكتّاب والشعراء، وجموع القرّاء الذين أحبّوا صوتها من بعيد. لم يكن المشهد جنازةً بل احتفالاً بالوفاء، إذ بدا كل من حضر كأنّه يستعيد شيئاً من ذاته الضائعة في كلماتها. تحدّثوا عنها وعن قصيدتها وعن ذلك النقاء الذي ميّزها في زمنٍ صار فيه الادّعاء مهنةً، والمجاملة طريقاً إلى الظهور.
كانت مزكين تكره الزيف كما تكره الغياب. لم تسعَ إلى المنصّات ولا إلى الصور، وكانت تقول: الشعر لا يحتاج إلى مهرجانٍ ليتنفّس، يكفيه أن يولد من سموّ الروح. لذلك، ظلّت بعيدة عن كثيرٍ من مهرجانات المجاملة التي تُدار كما تُدار الصفقات، حيث تُوزّع الدعوات عبر تطبيقات المسنجر والواتس أب، وحيث يعتلي المنابر من يملكون الوقت للممالقة لا للكتابة. لم تكن تعرف كيف تُساير، ولم تكن تعرف كيف تُنكر ذاتها، لذلك لم تُنصفها المؤسّسات، كما لم تُنصف كثيراً من أدبائنا الحقيقيين.
رحلت مزكين كما تعود النسور إلى أعشاشها في آخر المساء، لا لتبني بل لتستريح، في محاكاةٍ لسموّ أنثى النسر، بعد أن صارت عنواناً لما يُكتب عن الكبرياء، وعن الهدوء الذي يسبق الغياب. وها هي الليلة تُقيم أمسيتها الشعرية في دوكر، بين التراب الحميم والحجارة القديمة وأصوات الأطفال الذين سيتذكرون اسمها حين يكبرون. تحدّث الأرضَ عن الغربة، والسماءَ عن الغدر، والريحَ عن الذين لم يفهموا أنّ الشاعرة لا تموت حين تموت، بل حين يُنسى اسمها. وهي لن تُنسى، لأنّ قصيدتها لم تكن مجرّد كلماتٍ، بل كانت وجهها وصورتها وصوتها جميعاً.
دوكر الليلة مضاءةٌ بدموعها، بالشموع التي أُشعلت فوق التراب، بالأصوات التي تردّد اسمها في صمتٍ. ثمة من يقول إنّها ابتسمت في نعشها، لأنّها أخيراً وصلت إلى البيت الذي انتظرها طويلاً. ذلك البيت الذي كتبت عنه وهي في المنافي، وقالت عنه إنّ الوطن ليس مكاناً نعود إليه، بل مكانٌ لا يغادرنا.
رحلت مزكين حسكو، لكنها تركت لنا وصيّةً مكتوبةً بالحبر والدمع: اكتبوا بالكردية ما دمتم أحياءً، لأنّ اللغة وطنٌ، ولأنّ الوطن حين يُكتب لا يموت.
وها هي الآن، في دوكر، تفتح ذراعيها للتراب الذي أنبتها، وتهمس كما لو أنّها تقول لكل من بقي:
"أنا لم أرحل، أنا عدت كما تعود القصيدة إلى بيتها الأخير."
مزكين، سلّمي على جدّي حسن شيخ إبراهيم وعمّتنا هناك
سلّمي على أقرباء لكلينا، وكل من حولك أقرباء وذوو أهلنا الكرد جميعاً
أقرباء لشعبنا، لكلٍّ منهم مأثرته، ما دام كرديّاً أبياً.



#إبراهيم_اليوسف (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مزكين حسكو: القصيدة في دورتها الأبدية!
- نداء إلى الكتّاب والمثقفين والإعلاميين والمختصين من أجل مئوي ...
- المثقف الكردي والسياسي ثنائية الكلمة والسلطة
- إنهم يقتلون أحفاد المكزون السنجاري: مجازر في قرى كردية في ال ...
- مزكين حسكو تتنفس برئتي الكتابة والحلم
- ثنائية الشجاعة والتهور على حافة الوعي واللاوعي
- البنية المزدوجة في نص زكريا شيخ أحمد من النَفَس الملحمي إلى ...
- بطاقات الصباح جسور ضد العزلة والشتات
- الكرد والظاهرة الصوتية تحت تأثير ثقافة الشركاء
- الإعتاميون: حين يتحول الإعلام إلى منبر للكراهية
- مزكين حسكو إبداع وروح لا تهدآن كلما ضاقت المساحات
- قارعو طبول الإبادة وأبواق الفتن والقتل والدمار مشروع تفكيك ا ...
- قارعو طبول الإبادة وأبواق القتل والدمار مشروع تفكيك المكونات ...
- لماذا استهداف آل الخزنوي؟ من محمد طلب هلال إلى البغدادي إلى ...
- نورالدين صوفي ومحاولة لسداد جزء من دين متأخر
- بين مؤتمري دمشق والحسكة وامتحان الوطنية السورية
- كرسي النهاية سرّ التهافت عليه!
- وثيقة الجنرال كركيزة فحسب: الموفد الكردي هو من يقرر حقوق شعب ...
- زياد رحباني شاعراً وهو في الثالثة عشرة من عمره مجموعة- صديقي ...
- سوريا بعد أربع عشرة سنة: ضرورة إعادة تدقيق تعريفي الثورة وال ...


المزيد.....




- خريطة أدب مصغرة للعالم.. من يفوز بنوبل الآداب 2025 غدا؟
- لقاءان للشعر العربي والمغربي في تطوان ومراكش
- فن المقامة في الثّقافة العربيّة.. مقامات الهمذاني أنموذجا
- استدعاء فنانين ومشاهير أتراك على خلفية تحقيقات مرتبطة بالمخد ...
- -ترحب بالفوضى-.. تايلور سويفت غير منزعجة من ردود الفعل المتب ...
- هيفاء وهبي بإطلالة جريئة على الطراز الكوري في ألبومها الجديد ...
- هل ألغت هامبورغ الألمانية دروس الموسيقى بالمدارس بسبب المسلم ...
- -معجم الدوحة التاريخي- يعيد رسم الأنساق اللغوية برؤية ثقافية ...
- عامان على حرب الإبادة في غزة: 67 ألف شهيد.. وانهيار منظومتي ...
- حكم نهائي بسجن المؤرخ محمد الأمين بلغيث بعد تصريحاته عن الثق ...


المزيد.....

- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم اليوسف - مزكين حسكو... في أمسية- دوكر- هذه الليلة!