صباح حزمي الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8489 - 2025 / 10 / 8 - 16:13
المحور:
الادب والفن
مقامة حَرْقِ الكُبُودِ على عراقٍ مَغْزُو:
يا لَكُمْ من خطبٍ , ويا لَكُمْ من وجْدٍ , اجتمعتْ علينا المصائب , وتواترتْ علينا النوائب , حتى بات المرءُ يستحضرُ أقوالَ الحكماءِ والشعراءِ ليجدَ فيها عزاءً , فلا يجدُ إلا مِرآةً لأَلَمِه , وبَلْسماً لِجُرحٍ زادَهُ حرقاً , لقد سألَ الباهليُّ أعرابيّاً ذاتَ يوم : (( ما بالُ المراثي أجودَ أشعارِكم ؟ )) , فكان الجوابُ الذي كُتِبَ بالدماءِ قبلَ المِداد : (( لأنَّنا نقولها وأكبادنا تحترق )) , فباللهِ عليكم , أيُّ حرقٍ أشدُّ من حرقِ كبدِ العراق؟ لقد جُرَّتْ إلينا جيوشٌ لِتُطفِئَ شموسَنا , ولِتَزرَعَ في أرضِنا شوكَ الغريبِ وعَمَلاءَ السوءِ, إنَّ حُزنَنا على عراقٍ مَغزُوٍّ لم يكن حزناً على مفقودٍ واحد , بل هو حُزنٌ على كَبِدٍ مَشْطُورَةٍ , شطرٌ غابَ مع الأمانِ والاستقرارِ تحت الثرى , وشطرٌ باقٍ يتلوّى فوقَ الثرى تحتَ سَطوةِ الأسى والذُلّ , هذا واللهِ هو الصَّدْعُ في الكَبِدِ الذي لا يُجبرُ إلى آخرِ الأمد , فقد انقلبتْ حالُنا من دارِ قرارٍ إلى دارِ غُربةٍ في صميمِ الوطن .
يا قومُ , إنَّ المصيبةَ تجاوزتْ حدودَ البكاءِ, لقد أنشدَ العبّاسُ بنُ الأحنفِ قديماً متسائلاً: (( مَنْ ذَا يُعِيرُكَ عَيْنَهُ تَبْكِي بِهَا؟ أَرَأَيْـتَ عَـيْنًا لِلْـبُكَاءِ تُعَارُ؟)) , واليوم , هذا هو حالُنا في العراق , لم يعدِ البكاءُ يكفي , بل إنَّ الدموعَ قد جَفَّتْ من هولِ المشهدِ وفداحةِ الخَطْبِ , إننا نَتَساءلُ اليومَ بحسرة : أيُّ عينٍ تستطيعُ أن تُعيرَنا دمعَها لِنَبكيَ بها حجمَ ما ضاعَ من كرامةٍ وسيادةٍ , وحجمَ الخِيانةِ التي تسلَّقَتْ على أنقاضِ الوطنِ وأتتْ بالعملاءِ لِيَحكُموا بغيرِ حق؟ لقد بلغَ حُزنُنا أقصى حُدودِ الإعياء , حتى صرنا نخشى أن نكون كالعينِ اليُسرى التي (( زَجَرْتُها عَنِ الْجَهْلِ بَعْدَ الْحِلْمِ )) , فَتُجيبَ العينُ اليُمنى بالبكاءِ معها , لشدّةِ ما يُرى ,أما مأساةُ جوارِ العملاء , فهيَ الموتُ البطيءُ, لقد قال التِّهاميُّ في عِظَةِ رِثائهِ: ((جاوَرتُ أَعدائي, وَجاوَرَ رَبَّهُ شَتّان بَـينَ جِوارِهِ وَجِواري )) , فوا أسفاه , لقد صرنا نُجاورُ في وَطنِنا مَن هم في حُكمِ الأعداءِ , مِمّن يَتلقّونَ الأوامرَ من الغازي , ويعملونَ لغيرِ مصلحةِ العراقيين , هذا الجِوارُ المُرُّ هو ما يجعلُ الأكبادَ تشتعلُ ناراً لا تُرى , فنحنُ اليومَ نُخفي من البُرَحاءِ ( شدة الحزن ) ناراً: مِثلَ مـا يُخفى مِنَ النارِ الزِّنادَ الواري .
يُمكن وصف الحزن العراقي بأنه (( حرائق في الكبد )) , ففقدان السيادة والوطن , ورؤية الأرض تحت سيطرة الغزاة والعملاء , هو ألم لا يُدانيه ألم , و صدع في الكبد لا يُجبر, حيث انشطرت كبد الوطن بين ما ضاع وبين ما بقي تحت الأسى , إنها مأساة وجودية جعلت الأكباد تتفطر من اللوعة والتفجع على مصير البلاد , ونضوب الدموع من شدة الخطب (حجم الفاجعة) رثاء الخنساء: (( قذى بعينكِ أمْ بالعينِ عوَّارُ / أمْ ذرَّفتْ إذْ خلتْ منْ أهلهَا الدَّارُ )) , ورثاء أبي تمام: (( كَذَا فَلْيَجِلّ الخَطْبُ وليفدح الأمرُ / فَلَـيـسَ لِعَيْـن لـم يفض ماؤها عُذْرُ )) , تعكس هذه الأبيات عظم الخطب الذي لا تسعه الدموع , حزن العراقيين على ما جرى لبلادهم هو حزن (( أقصى حدود الإعياء )) , فالمصاب جلل إلى درجة أن المرء قد يتمنى (( استعارة عين)) ليبكي بها حجم الفقد والتدهور الذي حلَّ بالدولة والنسيج الاجتماعي , وكما في رثاء الخنساء , فإن الديار قد خلت من أهلها الأوفياء , أو تغيرت ملامحها , فكان لابد للعين من أن تفيض بالدموع الغزيرة.
تُجسّد المقولة المأثورة عن الأعرابي : (( لأنَّنا نقولها وأكبادنا تحترق )) , وعمق الرثاء ووصفه بأنه (( جراحات القلوب )) أبلغ وصف لحالة العراقيين , كما إن النصوص المقدمة , من حرائق الكبود إلى رثاء الخنساء والتهامي , تقدم مفردات وصوراً لا تُضاهى لوصف الألم المطلق والفقد الوجودي , ويصف حزن العراقيين الذي تجاوز كونه مجرد حزن شخصي ليصبح كارثة وطنية عارمة , وأن الكبد المشطورة ونار الأسى في رمزية فقدان السيادة , و يُمكن إسقاط شعور مرارة الجوار والصمت القسري ( العملاء في الحكم ) على العراقي الذي يرى العملاء في الحكم , إنه شعور بمرارة (( جوار الأعداء )) , أو من هم في حكمهم داخل الوطن الواحد , هذا الجوار قسري ومؤلم , ويجعل العراقي الحزين يخفي نار الأسى في صدره خوفًا أو قهرًا , محاولاً تخفيض الزفرات وكفكفة العبرات رغم أنها صواعد وجوارٍ, فيعيش حالة من الصمت القسري والألم المكتوم .
لم يكن الحزن العراقي عادياً , إنه (( احتراق كبد )) على وطن ضاع , وعلى مصير شعب تم تفتيته , فقدان الدولة الوطنية والكرامة الإنسانية تحت وطأة الغزو والاحتلال هو جرح (( مقروح)) لا يندمل , وتشير العناوين مثل (( سلوة الحزين في موت البنين )) إلى أن فقد الأبناء هو أشد أنواع الفقد , ويمكن تشبيه العراق بـ (( الأم)) التي فقدت سيادتها واستقلالها وأبناءها في موجات العنف والفتنة التي جلبها الغزو وعملاؤه , فكان حزنها لا يُدنيه حزن ,والبكاء الذي لا يكفيه البصر, على الخطب الذي حلّ بالعراق ( وهو رؤية بلادهم تُنهب وتُدار من قبل أيدي خارجية وعميلة ) , تجاوز حجم الكارثة التي يمكن للعين البشرية أن تبكيها , لقد أصبح البكاء على العراق (( بُكاءً طال حَتَّى لَمْ تَبْقَ عَيْنٌ تَبْكِي )) .
باختصار, يمكن النظر إلى هذه النصوص على أنها مرثية العراق الكبرى , حيث يمثل حرق الكبد فقدان الدولة , وتمثل العيون المستعارة عظم الكارثة , ويمثل جوار الأعداء سلطة العملاء التي فرضت نار الأسى المكتومة , يا للهول , نكتمُ غَضَبَنا , ونُخفي حُزنَنا , ونُخَفِّضُ الزَّفَراتِ وهي صَواعِدٌ , خشيةَ أن يرى العميلُ أو الغازي قُوَّةَ الوجعِ فيستزيدَ قهراً , هذا الكتمانُ هو عذابُ العراق , أن يَحترقَ أهلُهُ في دواخلهم على وطنٍ صارَ مُستباحاً , بينما يُديرُ ظَهْرَهُ لذلكَ الألمِ مَنْ لا يُؤخذُ الشَّيءُ إلا مِنْ مَصادِرِهِ ( أي من كَبِدِه ) , فلنصبرْ صَبْرَ الخنساءِ على فقدِ الأخ , ولنَتذكَّرْ أنَّ الأكبادَ المحترقةَ تُنتِجُ في النهايةِ أصدقَ وأقوى الكلمات , ولعلَّها الكلماتُ التي تُضيءُ طريقَ الخلاصِ يوماً , والأمرُ للهِ من قبلُ ومن بعد.
صباح الزهيري .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟