أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي محيي الدين - حواريّة الموت-.. مرثية عراقية موجعة














المزيد.....

حواريّة الموت-.. مرثية عراقية موجعة


محمد علي محيي الدين
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8486 - 2025 / 10 / 5 - 21:42
المحور: الادب والفن
    


في قصيدة بعنوان "حواريّة الموت"، يفجّر الشاعر العراقي سفاح عبد الكريم وجعه بمرثية كتبها في رثاء ولده الراحل، فتنقلب الكلمات إلى نحيب، والسطور إلى دمع، والقصيدة إلى صلاة منكسرة على عتبة الفقد.
ينتمي هذا النص إلى تقاليد الرثاء الشعبي العراقي، لكنه يتجاوزها إلى ما يشبه السيرة الحزينة لوجع إنساني خالص، فيه من الأسى ما يجعل القارئ يتلبّس حزن الشاعر وكأنه فقْده هو.
القصيدة، كما يشي عنوانها، تقوم على حواريّة مُمزقة بين الحي والميت، بين صوت الأب وصمت القبر، بين الذكرى والغياب. ولعل أبرز ما يلفت في موضوعها هو هذا التوهان بين الإنكار والاندهاش والذهول، حيث تتكرر أسئلة الفاجعة الأولى بصيغٍ عامية بليغة، مثل: "اشلون يبني اشگّد بچيت؟"، "وينك؟"، "اشلون حالك وانته نايٍم عالتراب؟" — وهي تساؤلات لا تطلب جوابًا، بل تشهد على صدمة لم تُهضم بعد، وعلى قلبٍ يئن تحت ركام الخسارة.
في ثنايا النص، يستدعي الشاعر أدق تفاصيل الرحيل، بدءًا من الجسد المسجّى على المغتسل، مرورًا بلحظات الدفن، وانتهاءً بما تركه الابن من ضحكات وألعاب وعطور وصدى في زوايا البيت.
يقول:
"اشلون ودعٍت الأهل غفله ومشيت؟
غيض طفّه اعيون بصرّك وانطفيت.."
إنها مرثية حسية بامتياز، لا تكتفي بمناحة وجدانية عامة، بل تنبش التفاصيل الصغيرة التي تخلّفها الفجائع الكبرى، وتجعل من الذكرى جرحًا نابضًا.
اللغة والخيال الشعبي
اللغة هنا عامية عراقية صافية، ريفية النكهة، لكنها تحمل من الجمال والصدق ما يجعلها تتفوق على كثير من القصائد الفصيحة. فهي لا تتجمّل، ولا تبحث عن المجاز المصفى، بل تفيض من قلب مكلوم. وفي ثناياها، نلتقي بصور شعرية أخّاذة، منها:
"صورتّك ظميتها ابگلبي ونستني نقطّه بسطور الكتاب"
"اشراع سفّانك ينوّح ابواهسّك"
"امثلجّه اچفوفي وعساك اتشوفها"
هذه الصور، رغم بساطتها الظاهرية، تحفر في عمق الخيال، وتستولد من اليومي معاني رمزية ومشهدية عالية التأثير.
الإيقاع والموروث
من الناحية الإيقاعية، تميل القصيدة إلى أوزان الدارمي وأشباهها، وهي أوزان شعبية لا تلتزم بقيود العروض التقليدي، لكنها تحتفظ بإيقاع داخلي نابض بالعاطفة، يتصاعد مع تصاعد الانفعال. وتستلهم القصيدة تراث الرثاء العراقي الشفاهي، بما فيه من مناداة، وتوسل، وتكرار، واستفهام موجع، فتقول مثلاً:
"بويه چاوين المحابٍس والعطور وضحكتّك والواهليّه!؟"
"صافنه وتندهٌ خيّالّك.. وينك أنته أبيا زمان أبيا مسيّه!؟"
هذا التداخل بين الحزن الشخصي والأسلوب الجمعي يعطي النص بعدًا ثقافيًا، ويمنحه شرعية شعبية تجعل أي عراقي يشعر أنه معنيّ بهذا النداء.
ومن زاوية نفسية، تمثل القصيدة نموذجًا لما يسمى في علم النفس بـ"الرثاء الحواري"، أي أن يتحدث المفجوع مع فقيده كأنما لا يزال حاضرًا. هذا الحوار يُعدّ شكلًا من أشكال التعايش مع الصدمة، ويساعد على التخفيف من ألم الحداد المعقّد. ففي قوله:
"صورتّك عالباب تنشدني عليك.. وأنته تنشدني اعله حالي"
ينقلب الزمن، ويذوب الموت، ويصبح الغائب شاهدًا، والحاضر متخفيًا في ملامح الذكرى.
والقصيدة أيضًا تمثل تنفيسًا عاطفيًا عالي التوتر، يحاول فيه الأب أن يُسقط الدموع على الورق بدل أن يغصّ بها صدره، فيستحضر أدق التفاصيل — من ألعاب الطفولة إلى باب البيت، ومن رائحة الغرفة إلى بسمات المدارس — في محاولة لصياغة حضور غائب.
لوحة شعرية مفتوحة
فنيًا، لا تقوم القصيدة على هيكل تقليدي بمقدمة وذروة وخاتمة، بل تنساب كتيار وجداني غير قابل للحصر، يتحرك من صورة إلى أخرى بلا انتظام ظاهري، لكنه مشحون بمنطق البكاء الداخلي. وهذا الأسلوب يذكر باللوحات الانفعالية في الفن التشكيلي، حيث لا تلتزم الفرشاة بقواعد المنظور، بل تسيل الألوان كأنها نزيف مباشر من القلب.
ورغم كل هذا الحزن، لا تنتهي القصيدة على اليأس، بل تحاول أن تستنجد بالرجاء، حين يُذكر الإمام علي (عليه السلام) في البيت الختامي:
"أنته يمّ ،حيدر علي الكرار وگبالّك عساكر"
كأن الشاعر، وقد قال كل ما في القلب، يبحث أخيرًا عن معنى، أو عن عزاء، أو حتى عن شفاعة تمنح لابنه مكانًا بين الأخيار.
ختامًا "حواريّة الموت" ليست مجرد قصيدة رثاء، بل هي سجل وجداني لصوت أبٍ انكسر في أعماقه، فتحدث بصوت لا يخصه وحده، بل يمثل آلاف الآباء الذين وقفوا على بوابة المقبرة بعيون معلقة بالباب.
إنها قصيدة عن الموت، لكنها أيضًا عن الحب، عن الأبوة حين تصبح مفجوعة، وعن الشعر حين يكون حقيقيًا لا مدعًى — قصيدة لا تُقرأ فحسب، بل تُعاش وتُبكى.



#محمد_علي_محيي_الدين (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حيدر العميدي الناقد الذي قرأ المسرح بجسد الروح
- شريف هاشم الزميلي شاعرٌ بنكهة الأسطورة وناثرُ حلمٍ لا يشيخ
- صدام غازي الشاعر الذي يسكب القصيدة في كأس الخمر والخراب
- طبع الذهب حين تحترق القصيدة بنار الحب.. علي الشباني ومرآة ال ...
- شاكر نصيف الشاعر الشهيد الذي اشتعل بالشعر وانطفأ برصاص الطغا ...
- سعد الشريفي شاعر الغربة والجمرات
- جبر داكي شاعر غنّى للحياة حتى رحيله
- جابر القاري صوت السدة الذي ذاب في الحسين
- كريم النور... شاعر الطين والنخوة والكرامة العالية
- رياض أبو شبع شاعر الغربة والتمرد النبيل
- صباح العسكري: الشاعر الذي أضحك القمر وبكى العراق
- راسم الخطاط شاعر الومضة ومهندس القصيدة
- الراحل كاظم الرويعي بين الأغنية الملتزمة والاغتراب الموجع
- شاكر ميم.. شاعر الغفوة والابتسامة العابرة
- عبد الستار شعابث شجرة الشعر التي نبتت على ضفاف الحلة
- الناقد والقاص سلام حربة صوتٌ نقدي وقلمٌ سردي في المشهد الثقا ...
- حامد كعيد الجبوري شاعرٌ خرج من رحم الحلة ومضى ليكتب للوطن وا ...
- علي السباك الكاتب الذي جعل من الحلة سطرًا أول في دفتر الحكاي ...
- عماد الطالباني طبيب الحرف وروح الباحث
- الباحث محمد هادي رحلة في آفاق البحث والتأليف


المزيد.....




- هل يقترب أدونيس أخيرا من جائزة نوبل؟
- النزوح في الأدب الغزّي.. صرخة إنسانية في زمن الإبادة
- النزوح في الأدب الغزّي.. صرخة إنسانية في زمن الإبادة
- منتدى الفحيص يحتفي بأم كلثوم في أمسية أرواح في المدينة بمناس ...
- الطاهر بن عاشور ومشروع النظام الاجتماعي في الإسلام
- سينما الجائحة.. كيف عكست الأفلام تجربة كورونا على الشاشة؟
- فتح مقبرة أمنحتب الثالث إحدى أكبر مقابر وادي الملوك أمام الز ...
- الفنان فضل شاكر يُسلم نفسه للسلطات اللبنانية بعد 13 عاما من ...
- ابنة أوروك: قراءة أسلوبية في قصيدة جواد غلوم
- الطيب بوعزة مناقشا فلسفة التاريخ: هل يمكن استخراج معنى كلي م ...


المزيد.....

- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد علي محيي الدين - حواريّة الموت-.. مرثية عراقية موجعة