أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة مال السُّوَّال .















المزيد.....

مقامة مال السُّوَّال .


صباح حزمي الزهيري

الحوار المتمدن-العدد: 8481 - 2025 / 9 / 30 - 15:23
المحور: الادب والفن
    


مقامة مال السُّوَّال:

لا أدري كيف خطر أمامي بيت المتنبي : (( أَنْتَ الَّذِي سَبَكَ الْأَمْوالَ مَكْرُمَةً ثمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا )) , وظل يخطرُ فِي ذهنِي مرةً , ثم يُبعدُه تزاحمُ غيرِه منَ الأمورِ فِي الذّهنِ , ويعود ليقعُ من نفسِي موقعاً يجعلُه يتقافزُ مراتٍ , مرةً إلى داخلِ الذّهنِ , وأخرَى إلى خَارجِه , لكنَّ هذَا البيتَ استقرَّ ولا يمكن نسيانه سريعاً , ولأنَّ قدرَ مثلِ هذَا البيتِ الاستقرارُ , بحثت عنه فكانَ أوَّلَ ما قرأتُ فيه , قولُ شيخِ العَربية أبِي الفتحِ عثمانَ بنِ جنّي , في (( الفسرِ الكبِيرِ في شرحِ ديوانِ المتنبّي )) إذْ قالَ تعليقاً علَى البَيتِ : (( كَذَا واللهِ يَشْعُرُ النَّاسُ , وإلَّا فَلْيَخْرُسُوا )) , وبالتأكيد أن ابنُ جنّي لمْ يكنْ يجامِلُ في إعلانِ إعجابِه الكبيرِ بِشعرِ أبِي الطّيب المتنبّي ، ومقولتُه هذهِ تأتِي ضمنَ صدقِه في بيانِ الإعجَابِ.

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: لَمَّا جَرَتْ عَلَيْنَا الْأَقْدَارُ , وَضَاقَتِ الْأَسْوَارُ, وَتَقَطَّعَتْ مِنَ النَّاسِ الْأَخْبَارُ , حَلَلْتُ بِبَغْدَادَ عَلَى عَادَتِي , بَعْدَ أَنْ أَثْقَلَ كَاهِلِي مَا أَثْقَلَ , وَوَضَعَ عَلَى رَأْسِي مَا وَضَعَ , فَبَيْنَمَا أَنَا أَجُوبُ دُرُوبَهَا , وَأَكْتَشِفُ سَرَائِرَهَا وَخَفَايَاهَا , إِذْ رَأَيْتُ حَلَقَةً مِنْ نَاسٍ , بَيْنَ شَابٍّ وَشَيْخٍ , وَجَاهِلٍ وَحَاذِقٍ , قَدْ تَحَلَّقُوا حَوْلَ شَيْخٍ أَبْيَضِ اللِّحْيَةِ , أَسْمَرَ الْوَجْهِ , قَدْ جَعَلَ يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ , وَيُلْقِي بِمَعَانٍ تَجْلِبُ الْقُلُوبَ , وَتُحَرِّكُ الْأَفْئِدَةَ , فَكَانَ مِمَّا قَالَهُ : (( أَيُّهَا النَّاسُ , اعْلَمُوا أَنَّ الْكَرَمَ لَيْسَ جَمْعَ الْأَمْوَالِ , بَلْ هُوَ سَبْكُهَا مَكْرُمَةً , وَجَعْلُ السُّوَّالِ لَهَا خُزَّانًا )) , فَتَعَجَّبْتُ مِنْ قَوْلِهِ , وَبَهَرَنِي مَعْنَاهُ , وَنَادَيْتُ فِي نَفْسِي : وَيْحَكَ يَا عِيسَى , مَا هَذَا الْقَوْلُ الْفَصِيحُ , وَمَنْ هَذَا الشَّيْخُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهَذِهِ الْحِكَمِ الْبَالِغَةِ ؟ فَتَقَدَّمْتُ مِنْهُ , وَسَأَلْتُهُ : (( بِاللَّهِ عَلَيْكَ يَا شَيْخُ , مَا تُرِيدُ بِقَوْلِكَ؟ )) , فَأَجَابَنِي وَعَلَى وَجْهِهِ بَسْمَةٌ , وَفِي صَوْتِهِ رَنَّةٌ , كَأَنَّهَا وَتَرٌ قَدْ عُزِفَ عَلَيْهِ : (( أَتُرِيدُ يَا هَذَا أَنْ تَعْلَمَ مَا هَذَا الْقَوْلُ؟ هُوَ بَيْتٌ لِلْمُتَنَبِّي , وَهُوَ مَنْ تَعَلَّمَ الْأَدَبَ مِنْهُ , وَتَنَفَّسَ الشِّعْرَ بِهِ , وَلَكِنَّ النَّاسَ الْيَوْمَ فِي غَفْلَةٍ عَنْ مَعْنَاهُ , فَهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الْكَرَمَ مَالٌ يُجْمَعُ , وَذَهَبٌ يُخْزَنُ , وَفِضَّةٌ تُكَالُ , وَلَكِنَّ الْكَرَمَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ )) .

شَرَعَ الشيخ يُفَسِّرُ الْبَيْتَ تَفْسِيرًا , كَأَنَّهُ الْأَصْمَعِيُّ , وَيُنْكِشُ مَعَانِيهِ نَكْشًا , كَأَنَّهُ سِيبَوَيْهٍ , فَقَالَ : (( أَمَّا سَبْكُ الْأَمْوَالِ فَلَيْسَ صَهْرَهَا وَحَسْبُ , بَلْ هُوَ تَجْمِيعُهَا وَتَكْثِيرُهَا , وَأَمَّا السُّوَّالُ فَهُمْ الْفُقَرَاءُ الَّذِينَ تَدْعُوهُمْ الْحَاجَةُ إِلَى السُّؤَالِ , وَهُمْ فِي بَيْتِ الْمُتَنَبِّي خُزَّانُ الْمَالِ , وَخَازِنُ الْمَالِ هُوَ حَارِسُهُ , فَالْكَرِيمُ لَا يُخَزِّنُ مَالَهُ فِي صُنْدُوقٍ , بَلْ فِي قُلُوبِ الْفُقَرَاءِ , وَلَا يَخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّيَاعِ , بَلْ يُؤْمِنُ بِأَنَّ بَقَاءَهُ فِي الْعَطَاءِ )) , فَأَعْجَبَنِي قَوْلُهُ , وَشَرَحَ صَدْرِي كَلَامُهُ , فَسَأَلْتُهُ مُبَاشِرَةً: (( وَمَنْ أَنْتَ يَا شَيْخُ , وَهَلْ لَكَ مَالٌ تُنْفِقُ مِنْهُ؟ )) , فَبَسَمَ فِي وَجْهِي , وَقَالَ: (( أَنَا أَبُو الْفَتْحِ الْإِسْكَنْدَرِيُّ , وَمَالِي هُوَ هَذَا الْكَلَامُ , فَخُذْهُ وَلَا تَبْخَلْ بِهِ عَلَى النَّاسِ )) , فَلَمْ أَلْبَثْ حَتَّى انْتَهَتْ الْحَلَقَةُ , وَتَفَرَّقَ النَّاسُ , وَذَهَبَ الشَّيْخُ فِي طَرِيقِهِ , وَتَرَكَ لِي قِصَّةً عَجِيبَةً , وَبَيْتًا مِنْ شِعْرٍ أَجْوَدَ , وَخَاطِرًا مِنْ فِكْرٍ أَجْوَزَ.

هناكَ مَنْ روَى البيتَ بِهمزِ (( السُّؤَّال )) , واختارَ ابنُ جني وغيرُه روايتَه تخفيفًا بحذفِ الهمزةِ (السُّوَّال) : وهو جمعُ السَّائلِ (الطَّالب الفقير) , وسَبَكَ : الذَّهبَ وَالْفِضَّةَ وَنَحْوَهما مِنَ الذَّائِبِ يسبُكهُ ويسبِكُه سَبْكًا وسَبَّكه : ذَوَّبه وَأَفْرَغَهُ فِي قالبٍ , وسَبِيكَة : قِطْعة مُذابة من الذَّهبِ أو الفضةِ في قالبٍ محدَّدٍ بحسبِ الوزنِ , والجمعُ : سَبائك , والأموالُ : جمعُ مالٍ , وهوَ مَا ملكتَه من جميعِ الأشياءِ , والمالُ فِي الأصلِ الذَّهبُ والفضةُ , ثمَّ أُطلقَ على كلّ مَا يُملَك ولَهُ قيمةٌ , وكَانتِ العَربُ تُسمّي الإبلَ مالًا لقيمتِهَا عندَهم , واختَارَ الشَّاعِرُ الحَديثَ عَنِ السَّبكِ , وَهوَ سَبكُ الذَّهبِ والفِضَّةِ , لأنَّهُ الأَصْلُ فِي المَالِ كَمَا سَبَقَ , وهُنَاكَ مَنْ يَرَى أنَّ المالَ سُمِّيَ مالًا لأنَّ النَّاسَ تَميلُ إليهِ , وإذَا كَانَ الأمرُ كَذلكَ , إذن فَالأَحرَى أنْ يُسَمَّى المُمِيلَ , وخَزن : خَزَنَ الشَّيءَ يَخْزُنُه خَزْنًا , واخْتَزَنَه : أَحْرَزه وَجَعَلَهُ فِي خِزانةٍ وَاخْتَزَنَهُ لِنَفْسِهِ , والخِزَانةُ : اسْمُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُخْزَن فِيهِ الشَّيْءِ , وَفِي التَّنْزِيلِ الْعَزِيزِ: (( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ )) , والخِزَانَةُ : عَمَلُ الخَازِن , والمَخْزَن , بِفَتْحِ الزَّايِ : مَا يُخْزَن فِيهِ الشَّيْءُ , والخِزانَةُ : وَاحِدَةُ الخَزائن , حسب (لسان العرب ) , وهُوَ اسمُ مَكانٍ , وخُزَّانْ : جمع خَازِن , وهو القَائمُ علَى حِراسَةِ الخِزَانَة.

في هذا البيت يُخاطِبُ الشَّاعِر مَمْدُوحَهُ , فَيقولُ لَه: أنتَ الّذِي سَبكَ الأَموَالَ بِجمعِهَا وتَنمِيتِهَا ومُضاعَفتِهَا , وذلكَ مَكرمةٌ منكَ , و(( المَكْرُمَة )) : فِعلُ الكَرَمِ , وهي مفردُ المكَارِم , فَسبكَ المَمدوحُ الأَموالَ من كَرمِه فَهوَ كَمَنْ سَبكَ الأَموالَ لِيُكرمَ بهَا غيرَه , ويُثبتُ ذلكَ مَا جَاءَ بعدَ ذَلكَ فِي عَجزِ البَيتِ حيث يقولُ المُتَنبّي : ثُمَّ اتَّخَذْتَ لَهَا السُّوَّالَ خُزَّانَا , أيْ : بعدَ أنْ وفَّرتَ الأموالَ وصَنعتَها وضَاعفتَها , اخترتَ مَنْ يقومُ علَى حراستِهَا ومراقبتِهَا , وهمْ ذوو الحَاجاتِ وأهلُ السُّؤالِ مِنَ الفقراءِ , والمُرادُ أنَّكَ وزَّعتَها عَليهمْ من بَالغِ الكَرمِ والسَّخَاءِ.

إنَّ أهلَ الثرواتِ والأموالِ يُخزّنونَ أموالَهم للمحافظَةِ عليهَا , وضَمانِ ألَّا يمسَّها أحدٌ , وألَّا يصيبَها نقصانٌ ولا ضَررٌ , لكنَّ ممدوحَ المُتنبّي الذِي إنَّمَا سَبكَ الأموالَ واصطنعَهَا لأجلِ كرمِه , يختارُ حُراساً لأَموالِه , منَ الفقراءِ الذينَ تضطرُهم الحَاجةُ لِسؤالِ العَطاءِ , وكَأنَّ الممدوحَ يؤمنُ بأنَّ بقاءَ المَالِ في العَطاءِ , والتَّعبير عَنْ كرمِ المَمدوحِ بهذَا المَعنَى مِنْ بَلاغةِ أبِي الطَّيبِ المُتنبّي.

صباح الزهيري .






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقامة معادن غريبة .
- مقامة الخذلان .
- مقامة حب كونفوشيوس .
- مقامة المهذب الرقيق .
- مقامة نباح المناهج وذبابها : أدب المقاومة الفكرية.
- مقامة أموت نظيفًا .
- مقامة حمالة الحطب : من شرر الشوك إلى رماد الأمة .
- مقامة عروس غاندي .
- مقامة حكمة قَعْنَب .
- مقامة الدگة الخزعلية : بين الوشم والغدر.
- مقامة ديالى شقائق النعمان .
- مقامة الطروس .
- مقامة النقيق في قاع بئر: العراق بعد 2003.
- مقامة فلسفة الفقر .
- مقامة الغيوم .
- مقامة مادلين أولبرايت : عندما تتحدث الدبابيس .
- مقامة الأنسان وباء .
- مقامة الأقتران الشرطي .
- مقامة أصنام العقل .
- مقامة الرسيس .


المزيد.....




- آخر -ضارب للكتّان- يحافظ في أيرلندا على تقليد نسيجي يعود إلى ...
- آلة السانتور الموسيقية الكشميرية تتحدى خطر الاندثار
- ترامب يعلن تفاصيل خطة -حكم غزة- ونتنياهو يوافق..ما مصير المق ...
- دُمُوعٌ لَمْ يُجَفِّفْهَا اَلزَّمَنْ
- جون طلب من جاره خفض صوت الموسيقى – فتعرّض لتهديد بالقتل بسكي ...
- أخطاء ترجمة غيّرت العالم: من النووي إلى -أعضاء بولندا الحساس ...
- -جيهان-.. رواية جديدة للكاتب عزام توفيق أبو السعود
- ترامب ونتنياهو.. مسرحية السلام أم هندسة الانتصار في غزة؟
- روبرت ريدفورد وهوليوود.. بَين سِحر الأداء وصِدق الرِسالة
- تجربة الشاعر الراحل عقيل علي على طاولة إتحاد أدباء ذي قار


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صباح حزمي الزهيري - مقامة مال السُّوَّال .