نبيل علي صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8480 - 2025 / 9 / 29 - 16:42
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تشكلُ ظاهرة الفساد بمختلف أشكالها (السياسية، والاقتصادية، والإدارية) تحدياً جوهرياً خطيراً في العديد من بلدان العالم، ولا سيما في دول العالم الثالث والوطن العربي منه بالذات.. لقد تجاوزت هذه الظاهرة كونها حالات فردية لتصبح بنيةً مؤسسية (قانونية) شبه طبيعية، تُجبر الأفراد على التعامل معها كقناة إجبارية للحصول على الخدمات أو تلبية الاحتياجات الأساسية.
يتسبب استشراء الفساد في إفقار المجتمعات وتخلفها، وإعاقة التنمية، وهدر الموارد الطبيعية والبشرية، مما ينعكس سلباً على جودة الحياة بمختلف جوانبها العمرانية والصحية والعملية على مستوى: السكن، والصحة، والتعليم، والأمن وغيرها... وقد أصبح الفساد، وخاصةً السياسي-الإداري والمالي، قضية مركزية متجذرة في بنى العديد من المجتمعات، تحظى أحيانًا بدعم وحماية من دوائر نافذة.
من المهم الإشارة إلى أن الفساد ليس حكراً -أو ليس مقتصراً- على الدول الفقيرة أو النامية، فهو موجود حتى في أكثر الدول الديمقراطية تقدماً (وتطوراً) وأقسى الأنظمة الديكتاتورية قسوة وعنفاً، إلا أن الفارق الجوهري بينهما يكمن في آليات المكافحة والرقابة المتاحة، مثل:
-حرية الإعلام وقدرته على كشف الفساد ومحاسبة الفاسدين.
-فعالية مؤسسات المجتمع المدني.
-توفر الآليات السياسية الديمقراطية التي تسمح بتداول السلطة ومشاركة أوسع في صنع القرار، مما يخلق رقابة طبيعية تحد من انتشاره.
في الدول المتقدمة، غالباً ما يكون الفساد محصوراً بدرجات معينة وخاضعًا لرقابة مؤسسية، بينما في دول العالم الثالث والعربية، يتخذ الفساد أبعاداً منهجية تمسُّ مؤسسات الدولة ذاتها، مما يؤدي إلى تفاقم مشاكل الفقر، وتدني الخدمات العامة، وانهيار البنى التحتية، وانتشار البطالة وشيوع الأحياء العشوائية.. ويساهم تركز الثروة في أيدي قلة في تفاقم هذه الأزمات جميعاً. وفي هذه الحالات، يصبح الفساد عاملًا معيقاً يقف في وجه أي تحفيز للتقدم الاقتصادي والاجتماعي، ويقيد فاعلية المجتمع وإنتاجيته.
إذاً هناك تصاعد للفساد في جميع أنحاء العالم تقريباً يصل إلى مديات ومستويات عليا غير مسبوقة خصوصاً مع تزايد المال، ووفرة الثروات، وتلاشي الحواجز والحدود على حركة نقل الثروة بين البلدان، حيث كانت له نتائج خطيرة على مستوى تأمين متطلبات استمرارية العيش الإنساني الآمن والمستقر والمزدهر، وعلى مستوى إعاقة النمو الاقتصادي وتخريب التنمية الاقتصادية، وزيادة التوترات الاجتماعية..
والفساد الذي نقصده هنا هو لا يعني فقط إساءة استعمال السلطة العامة أو الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب خاصة، حيث يشمل ذلك مجموعة واسعة من الآليات والسلوكيات غير النزيهة وغير القانونية التي يقوم بها الشخص الفاسد، مثل الرشوة، والمحسوبية، والاختلاس، وتضارب المصالح، والتنفّع (والاسترزاق) من وراء المنصب، وغيرها، بل هو أيضاً وقبل ذلك، فساد النخب الحاكمة (صاحبة القرار والمسيطرة على منافذ القوة والعنف).. حيث يزداد الفساد مع هيمنة هذه النخب من أتباع الفكر الشمولي وتسيّد زعاماتها الطغيانية في البلدان الديكتاتورية البعيدة عن آليات السياسة الديمقراطية ومفرداتها وهياكلها المجتمعية والدولتية.. وهي التي تقوم بدعم غايات أغراض غير مشروعة وغير قانونية؛ وعادة ما تكون ممارساتها سرية تهدف لتحقيق مكاسب نفعية شخصية، تتجسد (في سياق عمل إدارات الدولة) من خلال عجز مؤسسات الدولة وقطاعاتها المتعددة والمتنوعة عن القيام بمهامها ووظائفها وواجباتها الملقاة على عاتقها، والمتمثلة في البناء السليم المتوازن والحديث لإنسانها ومجتمعاتها على مستوى تحقيق مستوى معيشي نوعي متطور، وقدرة مشاركة كبيرة في الحكم، وووإلخ.. ويعود السبب في عجز السلطات المسيّرة للدولة عن القيام بواجبها القانوني إلى شخصنة عملها، وهيمنة فئة صغيرة على هيئة نظام حكم، وما يستتبعه من سيطرة على مقدرات الاقتصاد الوطني ككل، وتكريس مختلف خطوط ومواقع الانحرافات المالية، ومخالفات القواعد والأحكام التي تنظم عمل النسق السياسي (المؤسسات السياسية) في الدولة.
وهذا ما يؤدي (على الصعيد الاقتصادي التنموي، كما نراه في معظم مجتمعات العالم المتأخر) إلى تقويض دعائم التنمية البشرية وربما نسفها من جذورها، وذلك لتسببه في حدوث تشوهات وحالات عجز ضخمة في الميزانيات وتعطيله لمقومات التنمية الاقتصادية للفرد.. كما يؤدي إلى زيادة كلفة العمل التجاري من خلال زيادة سعر المدفوعات غير المشروعة نفسها.. وكذلك لازدياد النفقات الإدارية الناجمة عن التفاوض (ونعني بها عمليات التراضي وتسوية الصفقات مع أولي الأمر من أصحاب القرار في توزيع الرّخص والأعمال والتعهدات!!) مع المسؤولين ومخاطر انتهاك الاتفاقيات أو الانكشاف.
وبحسب المؤشّر السنوي للعام 2025م فقد تقلّصَت مستويات ودرجات الفساد في دول الخليج، بينما استمرّ بالتغلغل في باقي الدول العربية، الأمر الذي أدى إلى تراجع قدرتها على مواجهة الفساد.. وجاءت دول الخليج في المراكز الأولى بمؤشر التحسن في مدركات الفساد، الذي يقيس النسبة من صفر إلى 100 درجة، حيث تراوحت نتائجها بين 68 درجة من 100 للإمارات، تليها قطر والسعودية معا (59 درجة)، ثم عمان (55)، فالبحرين (53)، ثم الكويت (46).
وكان ملفتاً تراجع دول مثل مصر (30 درجة فقط من 100)، لتقبعَ في المركز 130 عالمياً من بين 180 دولة، وتونس التي تراجعت للمركز 92 بدرجة 39 من 100. وجاءت الصومال وسورية (قبل سقوط نظام الأسد) واليمن وليبيا والسودان في المراكز الخمسة الأخيرة بين الدول العربية.. وهذا ما لاحظناه في المؤشر الخاص بالفساد.. حيث تصدر منظمة الشفافية الدولية سنوياً منذ العام 1995 ما يسمى بــــــــ"مؤشر مدركات الفساد" ويصنف مؤشر عام 2025 (الذي يرصد نتائج 2024) درجات ومراتب 180 دولة وذلك بالاستناد إلى مدى فساد القطاع العام في البلد، بحسب إدراك الخبراء والمسؤولين التنفيذيين في قطاع الأعمال. ويقيس المؤشر الفساد في القطاع العام، ويشمل كل من: الرشوة، واستخدام الأموال العامة لأغراض غير مشروعة (غير قانونية)، واستغلال المسؤولين للمناصب العامة لتحقيق منافع (مالية وغير مالية) خاصة (كسب غير مشروع)، والواسطة والمحسوبية، والفساد السياسي والذي تؤثر فيه المصالح الخاصة على عملية صنع القرار في الدولة. (أنظر الموقع الرسمي لمنظمة الشفافية الدولية على الرابط: https://www.transparency.org/en/).
إن مكافحة الفساد السياسي وغير السياسي، لا يمكن أن تتحقق من خلال حلول جزئية مبتسرة، بل ينبغي أن تكون حلوله شاملة وعامة تنظر إلى عمق المشكلة-المرض، ولا تكتفي بالتشخيص السريع الجزئي.. بحيث تتناول جميع مرتكزات الإدارة من بنيتها وهيكليتها، إلى العنصر البشري العامل فيها، إلى أساليب العمل السائدة فيها، إلى طبيعة آليات العمل القانونية المسيطرة، إلى نوعية النظم السياسية الحاكمة...
لا شك بأن الفسادَ –وبصرف النظر عن أنواعه ومواقعه وأوجهه المتعددة التي يمكن أن يتجلى بها في بنى المجتمع ومؤسسات الدولة- داءٌ ومرض اجتماعي وإنساني خطير للغاية، وهو يمكن أن يدمر أمماً وحضارات بأكملها إذا لم تتوافر له العلاجات الفكرية والسياسية والاقتصادية المناسبة.
إن المطالبة الفورية والعاجلة لمعالجة الفساد المنتشر في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تنطلق من قناعة بأن العلاج يجب أن يستهدف جذور المشكلة وأسبابها، وليس الآثار والمظاهر الناتجة عنها فقط. كما أن أي إصلاح حقيقي يجب أن يبدأ بمحاربة الفساد الكبير (فساد كبار المسؤولين والنخب)، وألا يقتصر على ملاحقة الفساد الصغير والصغار من المفسدين، إذ أن استئصال الفساد الصغير يصبح عديم الجدوى طالما بقي الفساد الكبير محصّناً ومستمراً..
والعملية هنا تستوجب القضاء على كليهما، كما إن المسألة هي ليست المناداة بالقضاء على الفساد دون وضع الأسس العقلانية الممهدة فعلياً لعلاجه، وأنا هنا أشدد على أنه من الاستحالة بمكان سحق الفساد أو القضاء عليه قضاءً مبرماً كما يقال، ولذلك فالمطلوب هو أن تنطلق وتجري –بدايةً- عملية واقعية وذات نَفَس طويل الأمد للتقليل من حجم الفساد وتقليص رقعة تأثيراته السلبية على الفرد والمجتمع والدولة. أما أن نرفع الشعارات الواسعة والفضفاضة (الخارجة عن حدودنا وطاقاتنا وإمكاناتنا) لمكافحة الفساد والقضاء عليه، من دون أن نبادر عملياً لاتخاذ الإجراءات العملية والتنفيذية البسيطة المطلوبة فإن هذا العلاج المرفوع الحدي الإطلاقي لا يعدو أن يكون أكثر من تكريس لمعادلات الفساد القائمة.
لذلك ينبغي أولاً –وقبل أي شيء- الالتزام بمنظومة قيم وأخلاق إنسانية ودينية وقانونية في مجتمعاتنا، وهي أساساً موجودة ولكنها تحتاج إلى تفعيل على مستويات ثلاثة: فردية ومجتمعية ومؤسساتية (سياسية-اقتصادية)..
- فعلى الصعيد الفردي من المهم والحيوي إعادة التركيز على غرس الوازع الديني والسلوك الأخلاقي الذي هو عنوان الوطن المزدهر والمواطن الصالح.
- وعلى المستوى المجتمعي العام يجب اختيار القائد أو الرئيس الإداري والموظف المناسب في المكان المناسب، بناءً على صلاح المعتقد وسلامة المنهج والقيم الروحية والأخلاقية والفضيلة والأمانة والمؤهلات والخبرة والكفاءة والجدارة، بعيداً عن الأغراض والعواطف الشخصية والمحسوبية والعلاقات القرابية والزبائنية المشخصنة.
- وأما على صعيد المؤسسات والدولة فإننا نجد هنا أنه إن لم تجرِ فورياً معالجة متكاملة للإشكالية السياسية القائمة في مجتمعاتنا العربية والإسلامية عموماً (إشكالية الحكم والديمقراطية والحريات العامة وإطلاق سراح المجتمع المدني)، سنبقى نلف وندور في حلقة مفرغة، ولن يحقق أي مشروع مكافحة فساد (أو إصلاح اقتصادي، أو إداري أو تطوير أو تحديث) جدواه وأهدافه المرجوة منه، بما ينسجم مع متطلبات تقدم وتنمية وتطور البلاد لمواجهتها التحديات والمخاطر المنتصبة أمامها والمحدقة بها، ولنستفيد من إنجازات التقدم والتطور الذي يشهده العالم المتشابك والمتداخل في علاقاته ومصالحه.
وإذا ما أردنا أن يكون لنا موقع ودور ومساهمة حضارية فاعلة ومنتجة في هذا العالم الكبير، فليس لنا من بديل إلا التحرك على هذا المسار الصعب والشائك، ولكن الممتلئ بالنتائج الإيجابية الباهرة على صعيد الفرد والمجتمع والدولة.
نعم، إنَّ النجاحَ في مكافحة الفساد عربياً لن ينجح بشكل فعال من دون إحداث التغيير الذي بات اليوم مطلب المطالب، ولكن هذا التغيير الحقيقي المنشود، الناجح والمضمون والفعال، الذي قد يفتح آفاق مجتمعاتنا لتحقيق النهضة والازدهار، هو التغيير الذي يقوم على خيارات الناس، ويرتكز على إرادتهم ومشاركتهم.. رغم أن كلُّ ما نشاهدُهُ في عالمنا العربي المنقسم والمفكك والمفعول به على كل المستويات، يدلّ على أنّ التغيير صعب، وأنّ المخاضات عسيرة ومضنية، وطريق الخلاص طويلة وشائكة، والمشوار إلى بناء دولٍ عربية حديثة تعددية ومدنية (يُحترم فيها المواطن كذاتٍ حرة، ويسودها القانون العادل على الجميع) ما زال طويلاً جداً جداً.. وسوف يكون نافراً ومليئاً بالأشواك والحجارة للأسف الشديد… كما وسوف تكون الأثمان باهظة للغاية.. مع استمرارِ القلق الدائم للفرد على أمنه ومستقبله وغياب تنميتِه والنقصِ الكبير في الخدماتِ المقدّمة إليه من بنى تحتية وخدمات صحية وغيرها..
نختم لنقول ونؤكد بأن الفساد في العالم العربي ما زال معضلةً متجذّرة تَستلزم علاجاً جذرياً (رغم ما يعلن من إجراءات تبدو ضعيفة وغير متوازنة وفي غير محلها) بحيث يستهدفُ بيئتَه الخصبةَ قبلَ نتائجه.. ولا يكونُ الإصلاحُ حقيقياً إلا باجتثاثِ الفساد الكبير في القمّة، وليسَ ملاحقةَ الصغير فقط كما قلنا.. ويتطلّبُ ذلك إرادةً سياسيةً جدية قوية وحاسمة، وتعزيزاً لأجواء للشفافية بطريقة قانونية فعالة مضمونة، ومشاركةً مجتمعيةً واسعة فاعلة تنطلق من وجود دولة مواطنة لا دولة شخص..!!.. فبهذه الركائز يمكنُ كسرُ حلقة الفساد وبناءُ مستقبلٍ أكثرَ تطوراً، وعدالةً واستقراراً.
والأمل قائم، رغم أن الفرد العربي ما زال ينظر حوله في بلدانه -التي يتلاعب بها الآخرون- فلا يجد سوى الحروبِ والصّراعات والطائفيات والفساد والنهب والاستبداد والهيمنة والاستلاب وانعدام تطبيق القانون.. ويقولُ كما قال غيره: ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان..!!.
#نبيل_علي_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟