احمد صالح سلوم
شاعر و باحث في الشؤون الاقتصادية السياسية
(Ahmad Saloum)
الحوار المتمدن-العدد: 8479 - 2025 / 9 / 28 - 10:56
المحور:
كتابات ساخرة
يبدو أن التاريخ في يومنا يُعاد كتابته بقلمٍ من الرخام المغشوش، يجلس محمود عباس على عرشٍ من الوعود المؤجلة في رام الله، يُحيط به مستشارون يحملون شهادات دكتوراه في فنّ التلويح بالمنديل الأبيض. يلتقي عباس بزعماء العالم، أو كما يُحب أن يسميهم أبو عبيدة الجولاني، قاطع الرؤوس ذو اللحية المُزيّنة برائحة النفط القطري والسعودي، بأنهم "العظماء". كل لقاءٍ يُنتج صورةً فوتوغرافية تُزيّن الصفحات الأولى للصحف، وكأنها شهادة حسن سلوك تُمنح لخائنٍ أكمل مهمته بنجاح. لكن ماذا يحمل عباس في جيبه بعد هذه اللقاءات؟ كومة من التصريحات عن "السلام"، وخازوقٌ تركي مُبرشم، ووعودٌ أمريكية بـ"حلٍ عادل" يُشبه ذلك الذي يُقدّم لضحيةٍ قبل أن تُلقى في قفص الأسود.
في الضفة الغربية، التي باتت تُعرف في أروقة الغرب باسم "يهودا والسامرة"، يتجول نصف مليون مستوطن كالنمل المُسلّح، يقتلون ويحرقون ويسرقون الأرض والزيتون وحتى الذكريات. الأرض التي كانت تُسمى فلسطين تُمزّق أمام عيون عباس، وهو يُردد ببلاغةٍ مُتقنة عباراتٍ مثل "نحن ملتزمون بالمفاوضات". مفاوضاتٌ غريبة هذه، تُشبه تلك التي يُجريها تاجرٌ مع لصٍ يفرغ متجره كل ليلة، ثم يُصافحه في الصباح على أمل أن يترك له كيسًا من البطاطس. المستوطنون يبنون مستعمراتٍ جديدة، والفلسطينيون يُهدّمون، والعالم يُصفق لعباس كما يُصفق الجمهور لممثلٍ كوميدي أخفق في إضحاك أحد، لكنه يُثير الشفقة بمحاولاته اليائسة.
في الجانب الآخر، هناك لبنان، حيث المقاومة التي يُطلق عليها الغرب لقب "الإرهاب"، تقف كالجبل في وجه الاحتلال. قادتها لم يتسولوا لقاءً مع زعيمٍ غربي، ولم يطلبوا تأشيرةً إلى الأمم المتحدة، ولم يحلموا بحضور عشاءٍ في البيت الأبيض. لماذا؟ لأن مصلحة شعبهم ليست ورقةً تُباع في سوق النخاسة الدبلوماسية. لبنان، التي حررت أرضها بالدم والعرق، لم تُعطِ المحتل شبرًا واحدًا، بينما عباس يُقدّم أراضي فلسطين كهدايا عيد ميلاد للمستوطنين، مُقابل ابتسامةٍ من مسؤولٍ أوروبي أو وعدٍ أمريكي بـ"دعمٍ مالي" يصل بعد عشر سنوات، إن وصل.
وننتقل إلى سوريا، أو بالأحرى ما تبقى منها بعد أن تحولت إدلب إلى سوقٍ مفتوحٍ لتجارة البشر تحت شعاراتٍ دينية مُستعارة من كتب ابن تيمية، فقيه الانحطاط الإسلامي. الجولاني، ذلك الداعشي الذي يُروّج له أصحاب الريال السعودي والقطري، يُدير ماخورًا عصريًا يُباع فيه النساء على الإنترنت تحت مسمى "السبي". يا لها من عبقريةٍ إسلامية صهيونية قطرية سعودية تركية! يُشبه هذا الماخور كوبا في زمن باتيستا، حين كانت بؤرةً للدعارة والقمار تخدم أثرياء ميامي. لكن كوبا، بعد ثورة كاسترو، اختارت طريقًا آخر. حوصرت لأكثر من ستين عامًا، لكنها لم تنحنِ. بدلاً من أن تُنتج عبيدًا استهلاكيين يلهثون وراء البخشيش، أنتجت أطباء ومهندسين، وبنت مجتمعًا يعيش بالعلم والثقافة، لا بالشعارات الجوفاء التي تُباع في أسواق الخليج.
الصين، تلك الأمة التي حوصرت لربع قرنٍ لأنها رفضت أن تكون سوقًا للأفيون البريطاني والياباني والأمريكي، قامت من رمادها كطائر الفينيق. ماو تسي تونغ، الذي يصفه الغرب بالطاغية، بنى مجتمعًا من مليار إنسان، ليس بالكلام، بل بالعمل. بينما كان "المجتمع الدولي" يعترف بتايوان كـ"الصين الحقيقية"، كان ماو يزرع بذور نهضةٍ جعلت الصين اليوم تتحدى العالم بجامعاتها ومصانعها. قريبًا، ستكون أفضل مئة جامعة في العالم صينية، بينما لا يزال الجولاني وأتباعه يُشخّون على عقول أنصارهم، مُدّعين أنهم من بني أمية، وكأن بني أمية كانوا يبيعون نساءهم على الإنترنت أو يستقبلون قواعد أمريكية وتركية على أراضيهم.
الغرب لا يكره من يبني المساجد أو الحظائر الوهابية، بل يكره من يبني شعبًا واعيًا، من يرفض أن يكون عبدًا استهلاكيًا يلهث وراء فتات المعونات. عباس والجولاني هم مجرد أدواتٍ في يد الغرب، يُستخدمون حتى يُستنفدوا، ثم يُرمون في مزبلة التاريخ. لكن المقاومة، سواء في لبنان أو كوبا أو الصين، تُثبت أن الشعوب لا تُبنى بالصور التذكارية مع زعماء العالم، بل بالكرامة والإرادة.
في النهاية، العالم الذي يُصفق لعباس ويُصافح الجولاني هو نفسه الذي يحاصر كوبا ويُدين المقاومة. لكن التاريخ لا يكذب، والشعوب التي تُراهن على كرامتها ستبقى، بينما الخونة، مهما تزيّنوا باللحى أو البدلات، سيظلون مجرد هوامش في كتابٍ يُكتب بدماء الأحرار.
ولنُكمل هذه المهزلة التاريخية. تخيّل معي عباس وهو يجلس في مكتبه، يُقلّب في ألبوم صوره مع زعماء العالم. هنا صورة مع ماكرون، وهناك واحدة مع بايدن، وأخرى مع ميركل قبل أن تتقاعد. ينظر إليها ويبتسم، وكأنه يقول: "هذا دليل وجودي!" لكن الواقع يصرخ في وجهه: أراضي فلسطين تُقطّع كالكعكة في عيد ميلادٍ صهيوني، والمستوطنون يرقصون على أنقاض البيوت الفلسطينية، بينما هو يُردد: "نحن ملتزمون باتفاقيات أوسلو". أوسلو؟ تلك الوثيقة التي أصبحت الآن أشبه بنكتةٍ قديمة يضحك منها الجميع إلا الفلسطينيين.
في إدلب، الجولاني يُدير سيركًا من نوعٍ آخر. يرتدي بزةً عسكرية مُزيّنة بشاراتٍ مزيفة، ويُلقي خطاباتٍ عن "الجهاد" بينما يُشرف على سوقٍ إلكتروني لبيع النساء تحت شعار "السبي". يا لها من عبقريةٍ دينية! يُشبه هذا المنطق ذلك الذي كان يُدير ماخور باتيستا في كوبا، حيث كانت النساء تُباع لأثرياء ميامي، لكن الجولاني أضاف لمسةً "إسلامية" تجعل الأمر أكثر سخرية. ومن خلفه، أصحاب الريال السعودي والقطري يُصفقون، وكأنهم يشاهدون مسرحيةً كوميدية في برودواي، بينما سوريا تُمزّق إلى أشلاء.
لكن دعونا ننظر إلى كوبا، تلك الجزيرة الصغيرة التي وقفت في وجه أمريكا لأكثر من ستين عامًا. حوصرت، جوعت، عوقبت، لكنها لم تنحنِ. لم تُنتج كوبا عباساتٍ أو جولانيين، بل أنتجت أطباءً يُعالجون العالم، ومهندسين يبنون المستقبل. كاسترو، ذلك الرجل الذي يصفه الغرب بالديكتاتور، اختار أن يجعل شعبه يعيش بكرامة، لا أن يتحول إلى عبيدٍ استهلاكيين يلهثون وراء فتات المعونات. بينما عباس يتسول تأشيرةً إلى الأمم المتحدة، كانت كوبا تُرسل أطباءها إلى أفقر دول العالم، ليس من أجل المال، بل من أجل إنسانيةٍ باتت نادرة في عالمٍ يُديره الخونة.
والصين، يا لها من قصة! حوصرت لأنها رفضت أن تكون سوقًا للأفيون. ماو تسي تونغ، الذي يُشوّه الغرب سيرته، بنى أمةً من مليار إنسان، جعلها تقف على قدميها بعد قرونٍ من الذل. بينما كان العالم يعترف بتايوان كـ"الصين"، كان ماو يزرع بذور نهضةٍ جعلت الصين اليوم تتحدى العالم بجامعاتها ومصانعها وإبداعاتها. قريبًا، ستكون الصين مركز العلم في العالم، بينما لا يزال أتباع الجولاني يُشخّون على عقول أنصارهم، مُدّعين أنهم يُعيدون أمجاد بني أمية. بني أمية؟ يا للسخرية! لو كان بنو أمية يبيعون نساءهم على الإنترنت أو يستقبلون قواعد أمريكية وصهيونية وتركية ، لما بقيت لهم ذكرى في التاريخ.
في النهاية، العالم الذي يُصفق لعباس ويُصافح الجولاني هو نفسه الذي يحاصر كوبا ويُدين المقاومة. لكن التاريخ لا يرحم، والشعوب التي تُراهن على كرامتها ستبقى، بينما الخونة، مهما تزيّنوا باللحى أو البدلات، سيظلون مجرد هوامش في كتابٍ يُكتب بدماء الأحرار.
#احمد_صالح_سلوم (هاشتاغ)
Ahmad_Saloum#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟