كريم الوائلي
كاتب وناقد ادبي وتربوي .
(Karim Alwaili)
الحوار المتمدن-العدد: 8478 - 2025 / 9 / 27 - 00:13
المحور:
الادب والفن
يُعدّ التوظيف الرمزي للشخصيات التاريخية في الشعر المعاصر من أبرز التقنيات التعبيرية التي يستثمرها الشاعر لتكثيف رؤاه الوجودية، وتمثيل أزماته الذاتية والجمعية ضمن إطار فني يتجاوز المباشرة والتقرير. وفي هذا السياق، تتبوأ شخصية الحلاج مكانة استثنائية في الذاكرة الشعرية العربية، بوصفها رمزًا مأساويًا للتمرد الصوفي، والفناء في المطلق، والصراع مع السلطة، كما تمثل "حالة معادلة" لتجربة إنسانية متكررة تتمحور حول الاغتراب، والقهر، والبحث عن المطلق.
تقارب هذه القراءة قصيدة "فناء في سجون الغربة" للشاعر جودت القزويني، بوصفها نصًا شعريًا معاصرًا يُعيد إنتاج الحلاج لا بوصفه شخصيةً تاريخية، بل بوصفه ـرمزا مكثّفا لحالة روحية وفكرية يعيشها الشاعر في زمنه، متخذًا من شخصية الحلاج قناعًا يُسقط من خلاله رؤاه الذاتية ويجسد تجربة الاغتراب الروحي والوجداني. وتستثمر القصيدة الحلاجَ بوصفه "معادلًا موضوعيًا"، بالمعنى الذي قصده ت. س. إليوت، أي صورة خارجية رمزية لحالة شعورية داخلية معقدة تعيشها الذات الشاعرة.
إن البعد التاريخي الرمزي في هذه القصيدة لا يقتصر على استدعاء شخصية الحلاج فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى إعادة إنتاج الحلاج داخل بنية شعرية تنفتح على الأبعاد الصوفية والفكرية والسياسية، وتُحاور التراث بأسلوب حداثي يتكئ على أساليب التضمين، والقناع، وتوظيف البنية الحوارية. فالقصيدة تفتح حوارًا داخليًا مع الحلاج، وتجعله صوتًا مضاعفًا للذات، بما يشي بأن هناك تطابقًا بين التجربتين: تجربة الشاعر المعاصر وتجربة المتصوف الشهيد.
وإزاء ذلك، تتوخى هذه الدراسة الوقوف على كيفية توظيف الحلاج رمزًا ومعادلًا موضوعيًا في القصيدة، وتفكيك آليات حضور البعد التاريخي الرمزي في النص، عبر رمزية الحلاج في الذاكرة الثقافية، والقناع بوصفه تقنية فنية وتمثيلًا للذات، والتضمين الشعري والدلالة الصوفية، وجدل الذات والآخر في سياق الغربة والفناء.
تهدف الدراسة في مجملها إلى إظهار كيف يَرفدُ الشاعر تجربته الذاتية بتجربة تاريخية ذات حمولة رمزية عالية، ليصوغ نصًا حديثًا يجمع بين الرؤيا الصوفية والقلق الوجودي المعاصر، وبين التضمين الفني والانشطار الداخلي للذات، مما يمنح القصيدة طابعًا تأمليًا مزدوجًا: وجوديًّا وتاريخيًّا، فنيًّا ومعرفيًّا.
تحتل نزوعات التصوف عند الشاعر جودت القزويني فإن نزوعه الصوفي منحى مختلفا ففي قصيدته فناء في سجون الغربة يستوحي من التراث تجربة فريدة لثائر وشاعر، وهو لا يحافظ على خصائص هذا الثائر الشاعر، وإنما يجرد شخصيته من بعض ملامحها المعروفة ليضفي عليها ملامح جديدة، فهو من هذه الناحية يحكم تجربة الثائر القديم ويحكم شاعريته أيضًا في سياق تجربته المعاصرة الخاصة. ومن ثم يحاول إعادة الماضي في ضوء الحاضر، أو إعادة الثائر والشاعر القديم الذي تمرد على القيم والتقاليد، ويحاول إعادة في تجربته الخاصة ثائرًا على قيم وتقاليد أخرى.
وكان جودت القزويني يعي أن الحلاج ثائر ومتمرد ضد ضبابية الوعي والسعي نحو نور اليقين، ويعي أيضًا تمرده ضد السجون، سجون الغربة، وسجون الضياع، ولذلك اتخذ من الحلاج قناعًا يتحدث فيه عن تجربته الخاصة ومعاناته في واقع مليء بالمآسي، وقد أسعفه الحلاج في تأدية وظيفته هذه لثراء في شخصيته ومواقفه وشاعريته. إن هناك تماثلاً بين الشاعر والحلاج، كلاهما متمرد، وكلاهما شاعر، هذا يفنى في سجون غربة الحاضر، وذاك قد عانى من سجون الغربة فأفنى ذاته في انعتاق من الجسد، فالحلاج لدى جودت القزويني ـ لو استعرنا لغة إليوت ومصطلحاته ــــ« المعادل الموضوعي »ــــ إذن فهو يعيد تجربة الحلاج بوصفه « قناعًا » يعبر عن تجربة حديثة .
إن تجربة الشاعر تتكئ على مفردات الضياع، سواء أكانت ضياعًا في سجن، أم ضياعًا في ضبابية الوعي، ولكنها على كل حال ترجع الحلاج القديم في صورة الشاعر الحديث لتزج به من جديد بالسجن، وكأن الثائر المتمرد نمط متكرر يعيد التاريخ إحداثه، ولابد أن تكبل يداه بالحديد، وكأن هذه سنة تاريخية يتحتم حدوثها في كل مكان وزمان :
السجون .. الضباب .. السجون
وحفنةٌ من الترابِ في العيون
وبارقٌ من الوجوه
يرجعُ الحلاجَ من جديد
الى السجون
كفهُ يملأها الحديد
.... ياطريد
غربتُك الممحاةُ تبعثُ الرؤى في الزمن الشريد
وكان جودت القزويني يعي أن الحلاج ثائر ومتمرد ضد ضبابية الوعي والسعي نحو نور اليقين، ويعي أيضاً تمرده ضد السجون : سجون الغربة، وسجون الضياع، ولذلك اتخذ من الحلاج قناعاً يتحدث فيه عن تجربته الخاصة ومعاناته في واقع مليء بالمآسي، وقد اسعفه الحلاج في تأدية وظيفته هذه لثراء في شخصيته ومواقفه وشاعريته. إن هناك تماثلاً بين الشاعر والحلاج، كلاهما متمرد، وكلاهما شاعر، هذا يفنى في سجون غربة الحاضر، وذاك قد عانى من سجون الغربة فأفنى ذاته في انعتاق من الجسد، فالحلاج لدى جودت القزويني ــ لو استعرنا لغة إليوت ومصطلحاته ــ " المعادل الموضوعي ". اذن فهو يعيد تجربة الحلاج بوصفه " قناعاً " يعبر عن تجربة حديثة .
إن تجربة الشاعر تتكئ على مفردات الضياع، سواء أكان ضياعاً في سجن، أم ضياعاً في ضبابية الوعي، ولكنها على كل حال ترجع الحلاج القديم في صورة الشاعر الحديث لتزج به من جديد بالسجن، وكأن الثائر المتمرد نمط متكرر يعيد التاريخ إحداثه، ولابد أن تكبل يداه بالحديد، وكأنَّ هذه سنة تاريخية يتحتم حدوثها في كل مكان وزمان :
السجون .. الضباب .. السجون
وحفنة من التراب في العيون
وبارق من الوجوه
يرجع " الحلاج " من جديد
كفة يملأها الحديد
واذا كان الشاعر قد عمد ـــ هنا ـــ الى تجربة ذاته عن تجربته، على الرغم من أن الحلاج إنما هو قناع الشاعر، بل هو الشاعر نفسه، فتحدث عنه بضمير الغائب، ولكنه من أجل أن يجعل للحلاج، أو لقضيته حضوراً أقوى، انتقل الى مناداته ومخاطبته :
ياطريد
غربتك الممحاة تبعث الرؤى في الزمن الشريد
وينجح الشاعر في توحده مع " قناعه " والتوحد ينبئ عن تماثل في توحد التجربة، ومحاولة خلق تجربة جديدة، كما أن الشاعر يتجرد في قناعه، يحاوره، ثم يرجع ليتوحد به من جديد. ففي المقطع الأول من القصيدة يتوحد الشاعر مع الحلاج بحيث لا ندري أيهما الشاعر وأيهما الحلاج، فالحلاج يعود من جديد في إهاب الشاعر، فيزج به، أو بهما معاً في السجن : " طريد كفه يملأها الحديد " وتضفي غربته على الواقع معنى، وتبعث الوعي في زمن غريب، والشاعر في المقطع الثاني يتحول إلى راوٍ يتحدث عن تجربته الخصبة، وتلمذته لهذا الثائر المتمرد، ثم يعمد الى مخاطبة هذا الثائر بذكر خصاله وصفاته .
تتأسس هذه القصيدة على ثنائية الأنا والآخر، وتتحول العلاقة بين الشاعر والحلاج من تقابل خارجي إلى تماهٍ داخلي، لا يستطيع القارئ أن يحدد بوضوح من المتحدث: أهو الشاعر أم الحلاج؟ فالشاعر يتقمص شخصية الحلاج، يخاطبه، يتحد به، ثم يعود ليفارقه.
وتستهوي الشاعر حالة التوحد والانفصام بقناعه، فهو يوهم المتلقي أنه يتحدث عن « القناع » أي عن الأخر، ولكنه يوظف الأخر تعبيرًا عن الأنا، وتتجلى صور التوحد والانفصام في تضمين الشاعر لبيت الحلاج لتعبر عن حالة التوحد المطلقة بـ «الحلاج ــــ القناع » فيتكئ على الموروث الصوفي في بعض مفرداته وغموض تجربته، فتشف تجربة الشاعر، وتتعالى في غموض المفردات والتراكيب، ويسبق هذا سؤال عن ماهية الأنا، مرتين، ـ أي سؤال عن وعي الذات ـ ماهية : « الأنا ـ الشاعر » وماهية « الأنا ـ القناع » في اطار الحديث عن الأنا والآخر، فبعد أن عرفنا أن الحلاج الأستاذ قد علّم تلميذه الوعي والمعرفة، وأن التلميذ قد وعى الدرس وطبقه، يثور التلميذ على القناع ويرجع فيتحد به، يسأله عن ماهيته بوصفه « أنا » ويسأله عن ماهيته بوصفه « الآخر »، وتتدفق المفردات تحت تأثير تجربة شعرية صوفية، ويتحول السجن إلى واحدة من هذه المفردات التي تتجلى فيها الثنائيات الضدية : الزمان والمكان قيدان يحيقان بالإنسان ووعيه وتجربته، ثم التطرق لأخر التجارب الصوفية « الفناء».
إنَّ الحلاج كان يتسامى بتجربة صوفية، ويركز الشاعر جودت القزويني على أحد مكوناتها، وهي محاولته توحيد الأنا بالآخر، أو إبعاد الصدى عن عالم الذات، والفناء ـــ دون شك ـــ حالة توحد بالآخر، بمعنى الغاء الأنا لتصبح هي الآخر، هذا الفناء يمثل وجوداً حقيقياً، وليس ظلاً ،لأنه توحد بالمطلق، فالحلاج قد توحد بالمطلق، وقد انبهر الشاعر بهذا الفناء لأنه يمثل لديه الوجود الحقيقي، ولكنه لا يريد تجربة صوفية تماثل تجربة الحلاج في توحده بالمطلق، بل يريد جودت القزويني أن يتوحد بقناعه أي أن يتوحد بحلاجه الكائن في ذاته، أن محاولة التوحد ـــ هذه ـــ احتواء لآخر ووعي له في آن .
إن الشاعر تحت وطأة العيش في الواقع يفيض بالمعاناة، يريد أن يحتوي عالمه الداخلي، وأن يتوحد مع ذاته، فحالة الانفعال بالتجربة شطرت الشاعر الى بعدين " أنا ـــ وآخر " و " تلميذ ـــ واستاذ " و " جودت ـــ وحلاج " ويتبدى هذا التوحد في التضمين الشعري الذي يصوغه الشاعر في إطار تجربته الجديدة في نداء يأتيه من الآخر ويعبر عنه بأنا متضخمة تتحسس الوعي بالأنا أولاً، وبالبدن ثانياً .
يا حلاجُ من تكون ؟
من أكون ...
من تكون ؟
يحضنك الزمانُ والمكانُ يشتريك
ترفضُ قيدين
وانت تبقى اللغزَ في انكفاءة القطبين ..
كيف دنوت للفناء
وكيف أبعدتَ الصدى عن عالمِ الذوات .
علمني فناؤك ـ الوجود ـ كيف احتويك
كما احتوى القديمَ روحُك الغريب
واسمع النداء ... يانداء ... يا أنا ..
نحن روحان حللنا بدنا .. بدنا .. بدنا
أنا من أهوى ومن أهوي أنا
أنا .. أنا
#كريم_الوائلي (هاشتاغ)
Karim_Alwaili#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟