أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَلْ قَوَانِينِ الكَوْنِ لَيْسَتْ سِوَى همَسَات بِاهِتَة لِسِحْر مَنْسِّي -الْجُزْءُ الْخَامِسُ-















المزيد.....



العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَلْ قَوَانِينِ الكَوْنِ لَيْسَتْ سِوَى همَسَات بِاهِتَة لِسِحْر مَنْسِّي -الْجُزْءُ الْخَامِسُ-


حمودة المعناوي

الحوار المتمدن-العدد: 8470 - 2025 / 9 / 19 - 18:36
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


_ هل السحر شكل بدائي من أشكال العلم أم أنه نقيضه الجذري؟

بكل تأكيد، يمكن النظر إلى السحر على أنه شكل بدائي و مبكر من أشكال العلم، لكنه في الوقت ذاته، يُعتبر نقيضه الجذري في صورته الحديثة. هذه العلاقة المعقدة ليست مجرد تناقض بسيط، بل هي رحلة تطورية عميقة تعكس مسيرة الفكر البشري. لفهم هذه المقاربة، يجب أن نغوص في جوهر كل منهما، و نرى كيف كان السحر في بداياته يسعى لتحقيق ما يحققه العلم اليوم، و كيف إنحرف عنه ليصبح نقيضه.
في عصور ما قبل التاريخ، لم يكن الإنسان يمتلك الأدوات المنهجية لفهم العالم من حوله. الظواهر الطبيعية مثل الرعد، والمطر، وخسوف القمر، كانت تُعتبر قوى خارقة أو إرادات إلهية. هنا، ظهر السحر كأول محاولة منهجية للإنسان للسيطرة على بيئته، وتفسير المجهول. كان الساحر أو الشامان هو عالم عصره، فهو الذي يجمع المعرفة حول الأعشاب والنباتات، ويفهم دورة القمر، و يتنبأ بالطقس بناءً على ملاحظاته. كانت الطقوس السحرية، وإن بدت اليوم خرافية، هي بمثابة التجارب العلمية البدائية.
كان الساحر يقوم بعملية ملاحظة دقيقة: لاحظ أن شرب عصير نبتة معينة يجعله يشعر بالتحسن، أو أن وضع علامة معينة على جدار كهفه يجلب له الحظ في الصيد. هذه الملاحظات كانت تُنقل من جيل إلى جيل، وتُشكل ما يشبه المعرفة التراكمية. كانت هذه المعرفة، رغم كونها غير منظمة وغير خاضعة للتحقق، هي أساس المعرفة الإنسانية. كان الساحر لا يفرق بين المعرفة المادية والمعرفة الروحانية؛ فالعالم بالنسبة له كان كيانًا واحدًا مترابطًا، حيث يؤثر الفعل المادي مثل طقس معين على النتيجة الروحانية مثل جذب الأرواح الجيدة.
مع مرور الوقت وتطور الفكر البشري، بدأ الإنفصال بين السحر والعلم. هذا الإنفصال لم يكن صدفة، بل كان نتيجة لثورة في المنهجية. بينما يعتمد السحر على الإيمان، و الحدس، و الخبرة الشخصية، يتأسس العلم الحديث على المنهج التجريبي، والتكرار، والتحقق.
العلم الحديث يرفض التفسيرات الخارقة للطبيعة، ويسعى لتفسير الظواهر من خلال قوانين طبيعية يمكن ملاحظتها و قياسها. فإذا كان الساحر يعتقد أن الرعد هو غضب إلهي يمكن تهدئته بطقس معين، فإن العالم يرى أنه تفريغ للشحنات الكهربائية في الغلاف الجوي. هذا التحول من التفكير الغائي الغرضي إلى التفكير السببي (العلاقات بين السبب والنتيجة) هو جوهر الإنفصال.
السحر يعتمد على مبدأ المماثلة (Similia similibus curantur)، حيث يؤثر الشبيه على شبيهه. أما العلم فيعتمد على مبدأ السببية (Causality)، حيث لكل نتيجة سبب يمكن تتبعه.
هذا التحول الجذري في المنهجية هو ما يجعل السحر نقيضًا للعلم. السحر يعتبر أن الكون هو مجموعة من القوى الخفية التي يمكن التلاعب بها عن طريق الطقوس والرموز، بينما يرى العلم أن الكون نظام منظم بقوانين ثابتة وموضوعية.
من منظور روحاني متكامل، يمكن القول إن السحر والعلم يمثلان وجهين لعملة واحدة: سعي الإنسان لفهم الوجود. كلاهما يبحث عن الحقيقة، لكن من مسارين مختلفين. السحر يركز على الجانب الرمزي والداخلي، محاولاً فهم علاقة الإنسان بالكون على مستوى العقل الباطن و الطاقة. العلم يركز على الجانب المادي و الخارجي، محاولاً فهم قوانين الكون من خلال الملاحظة والقياس.
إذا كان السحر هو الفن الذي يدمج الروح و المادة، فإن العلم هو المنطق الذي يفصل بينهما لكي يدرسهما بدقة. السحر هو القلب الذي يشعر بالترابط مع كل شيء، والعلم هو العقل الذي يفكك الأجزاء ليفهمها. في نهاية المطاف، لا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر.
لذلك، يمكن إعتبار السحر في جوهره الأول شكلًا بدائيًا من أشكال العلم، محاولة بدائية لتفسير العالم. لكن في صورته النهائية، أصبح نقيضه الجذري بسبب إختلاف المنهجية الجوهرية. الفهم الروحي الكامل لا يرفض أحدهما لصالح الآخر، بل يرى أن كلاهما أدوات ضرورية للوعي البشري. فالعلم يمنحنا القوة المادية والقدرة على فهم العالم، بينما يمنحنا السحر في شكله الرمزي والروحي القوة الداخلية و القدرة على فهم أنفسنا ومكاننا في هذا الكون.

_ العلم والسحر: منطقان متناقضان أم وجهان لعملة واحدة؟

إذا كان العلم يسعى لفهم الأسباب الطبيعية، فهل يمكن أن يكون للسحر منطق خاص به لا يمكن للعلم إدراكه؟لا، لا يمكن أن يكون للسحر منطق خاص به لا يمكن للعلم إدراكه، لأن مفهوم المنطق نفسه هو ما يمثل نقطة الخلاف الأساسية بينهما. إن ما يعتبره السحر منطقاً، يراه العلم خرافة أو مغالطة.
العلم مبني على المنطق الإستدلالي (Deductive Logic) و المنطق الإستقرائي (Inductive Logic). يعتمد الأول على إستخلاص نتائج محددة من فرضيات عامة، بينما يعتمد الثاني على إستنتاج مبادئ عامة من ملاحظات فردية. في كلتا الحالتين، الهدف هو إقامة علاقات سببية قابلة للتكرار و التحقق، بحيث يمكن لأي شخص في أي مكان وزمان تكرار التجربة والحصول على نفس النتيجة. هذا هو جوهر الموضوعية التي يسعى إليها العلم.
على النقيض من ذلك، يعتمد السحر على المنطق الرمزي أو الترابطي. هذا المنطق لا يبحث عن علاقات سببية مباشرة، بل عن تماثلات و روابط خفية بين الأشياء. على سبيل المثال، قد يرى الساحر أن حقيقة أن شكل القمر يشبه شكل الهلال في بداية الشهر، وحقيقة أن الزهرة لها خصائص علاجية، وحقيقة أن لون معين يمثل قوة معينة، كلها روابط طبيعية يمكن إستخدامها للتأثير على الواقع. هذه الروابط لا يمكن إختبارها أو تكرارها، لأنها ليست علاقات سببية، بل روابط رمزية تعتمد على النية و الإعتقاد.
يمكن النظر إلى هذا الخلاف من منظور فلسفي يلامس العلاقة بين العقل والروح. يرى الفلاسفة أن العقل هو الجانب المنطقي والتحليلي من الوجود، وهو الذي يمكّننا من فهم القوانين الكونية. أما الروح فهي الجانب الحدسي و الجمالي، وهي التي تمكّننا من الإتصال بما هو غير مرئي أو غير محسوس.
العلم هو أداة العقل المثلى. إنه يفكك العالم إلى أجزاء، و يحلل كل جزء على حدة، ثم يعيد تركيبها في صورة متكاملة. هدفه هو الفهم، و ليس التأثير. على الجانب الآخر، السحر هو أداة الروح. إنه لا يسعى إلى الفهم، بل إلى التأثير على الواقع من خلال النية والرموز.
هذا لا يعني أن العلم يفتقر إلى الروح، أو أن السحر يفتقر إلى العقل. فالعلم يحتاج إلى الإلهام والإبداع وهما من خصائص الروح لتقديم فرضيات جديدة. والسحر يحتاج إلى التركيز و التنظيم وهما من خصائص العقل لأداء الطقوس.
هناك جوانب من الوجود تقع خارج نطاق العلم، مثل الوعي و الحدس والظواهر الميتافيزيقية. هذه الجوانب هي مجال الروح، وهذا هو المجال الذي يعمل فيه السحر. ومع ذلك، هذا لا يعني أن السحر يفسر هذه الظواهر. إنه ببساطة يستخدمها كأدوات للتأثير على الواقع.
فعلى سبيل المثال، قد يستخدم الساحر قوة الإيمان لدى الشخص لتحقيق نتيجة معينة. العلم لا يمكنه قياس الإيمان، ولكنه يستطيع أن يرى آثاره على العقل الباطن والجسم. هنا، لا يكون السحر بديلاً عن العلم، بل قد يكون مكملاً له.
في النهاية، لا يمكن أن يتحد العلم والسحر في نفس الإطار، لأن لكل منهما منطقاً مختلفاً و أهدافاً مختلفة. العلم يسعى إلى الفهم، في حين أن السحر يسعى إلى التأثير. العلم يقدم تفسيرات قابلة للتحقق، في حين أن السحر يقدم تفسيرات رمزية.
هذا لا يعني أن أحدهما أفضل من الآخر. فالعلم يوسع فهمنا للعالم المادي، في حين أن السحر يوسع فهمنا للعالم الروحي. هل يمكن للعلم يوماً ما أن يفسر كل شيء؟ ربما. ولكن إلى أن يحدث ذلك، سيبقى هناك مكان للسحر، ليس كعلم بديل، و لكن كأداة للروح.

_ السحر والعلم: رغبة الإنسان الأبدية في السيطرة.

هل يقتصر الواقع على ما يمكن قياسه و تفسيره علميًا، أم أن هناك أبعادًا غيبية أو روحية يمكن للسحر التعامل معها؟
لا يقتصر الواقع بأي حال من الأحوال على ما يمكن قياسه و تفسيره علميًا. إن هذا الفهم يمثل إختزالاً للواقع، ويقصره على بُعد واحد من أبعاده المتعددة. إن الإعتقاد بأن ما لا يمكن إدراكه بالحواس أو قياسه بالأدوات العلمية غير موجود، هو نوع من العجز المعرفي، وليس حقيقة مطلقة.
إن هذا التساؤل الفلسفي يلامس جوهر العلاقة بين العقل و الروح، وهما جانبان أساسيان من وجود الإنسان. العقل هو الأداة التي نستخدمها لفهم العالم المادي. إنه يعمل من خلال المنطق الإستنتاجي والإستقرائي، ويقوم على مبادئ السببية والتحقق. العقل يحتاج إلى دليل ملموس، وإلى نتائج قابلة للتكرار. إنه يرى الواقع كقوانين ثابتة وموضوعية يمكن فك شفرتها.
أما الروح، فهي الجانب الذي يدرك ما هو غير مادي وغير ملموس. إنها تعمل من خلال الحدس والشعور والإيمان. إن الروح لا تبحث عن الأسباب، بل عن المعنى. إنها لا تسعى إلى الفهم، بل إلى التجربة. إنها تدرك أن هناك أبعاداً للوجود لا يمكن للعقل أن يلمسها، مثل الوعي، والحب، و الجمال، و السكينة الداخلية. هذه الأبعاد موجودة، ولكنها لا يمكن أن تُوضع في معادلة رياضية أو تُقاس في مختبر.
هنا يأتي دور السحر في هذا السياق. لا يمكن فهم السحر كبديل عن العلم. إنه ليس محاولة لكسر قوانين الفيزياء، بل هو محاولة للتعامل مع الأبعاد التي تقع خارج نطاق هذه القوانين. إن السحر يعمل على مستوى الرموز والطاقات و النيات. إنه لا يحاول أن يغير الواقع المادي بشكل مباشر، بل يحاول التأثير على الواقع من خلال الوعي والإرادة.
على سبيل المثال، قد يستخدم الساحر طقساً معيناً لجذب الثروة. العلم سيرى هذا الطقس على أنه لا قيمة له. ولكن من منظور السحر، فإن هذا الطقس ليس إلا وسيلة لتركيز النية و الإيمان لدى الشخص، مما يؤدي إلى تغيير في حالته النفسية، وبالتالي، إلى إتخاذ قرارات أو القيام بأفعال تؤدي إلى تحقيق الهدف. هنا، لا يكون السحر قوة خارقة للطبيعة، بل هو أداة لتحفيز القوى الداخلية للإنسان.
إن الواقع لا يقتصر على ما هو مادي، كما أن السحر ليس قادراً على تفسير كل شيء. العلم يمتلك حدوداً واضحة. فهو لا يستطيع أن يفسر لماذا نقع في الحب، أو لماذا نؤمن بوجود إله، أو لماذا نشعر بالسكينة في الطبيعة. هذه ليست عيوباً في العلم، بل هي ببساطة خارج نطاقه.
بالمقابل، السحر يمتلك حدوداً أيضاً. فهو لا يمكن أن يفسر لماذا يسقط التفاح من الشجرة، أو لماذا يغلي الماء عند 100 درجة مئوية. إنه لا يقدم تفسيرات قابلة للتحقق، بل يقدم تفسيرات رمزية وروحية.
إن الفهم الأكثر عمقاً للواقع يكمن في إدراك أن هناك أبعاداً متعددة له، وأن كل من العلم والسحر يمكن أن يكون له دور في فهم هذه الأبعاد. العلم هو أداة لا غنى عنها لفهم العالم المادي، و السحر هو أداة يمكن أن تساعدنا في فهم العالم الروحي. لا يمكن لأي منهما أن يحل محل الآخر، ولكن يمكنهما أن يتكاملا في فهمنا الكلي للوجود.
هل يمكن أن يأتي يوم يفسر فيه العلم كل شيء؟ ربما. ولكن إلى أن يحدث ذلك، ستبقى هناك مساحة للروح، وللإيمان، و للأشياء التي لا يمكن قياسها، والتي يمكن للسحر أن يكون وسيلة للتعامل معها.

_ من السحر إلى العلم: رحلة الإنسان للسيطرة على عالمه

هل يعكس المنهج السحري للتأثير في العالم مثل الطقوس و التعاويذ رغبة فطرية في السيطرة، و هي نفس الرغبة التي تدفع بالمنهج العلمي؟ نعم، يمكن القول إن المنهج السحري للتأثير في العالم يعكس رغبة فطرية في السيطرة، وهي في جوهرها نفس الرغبة التي تدفع المنهج العلمي، و لكن بطرق وأدوات مختلفة تمامًا. هذا التحليل يغوص في أعماق الطبيعة البشرية، حيث يلتقي الوعي الفطري مع العقل المدبر في محاولة فهم الواقع والتأثير فيه.
إن الرغبة في السيطرة على البيئة المحيطة هي واحدة من أقدم الدوافع البشرية. منذ فجر التاريخ، سعى الإنسان لتأمين بقائه من خلال فهم العالم والتأثير فيه. كانت هذه الرغبة هي التي دفعته لصنع الأدوات، وإكتشاف النار، و تطوير الزراعة. في المراحل الأولى، كان هذا الدافع يعمل بشكل غريزي و فطري، حيث كان الإنسان يربط بين الظواهر الطبيعية بطريقة رمزية وحدسية.
المنهج السحري هو تعبير مبكر عن هذه الرغبة. إنه يعتمد على فكرة أن العالم ليس مجرد مجموعة من الأشياء الجامدة بل هو شبكة من القوى والطاقات والرموز. من خلال الطقوس و التعاويذ، يحاول الساحر التواصل مع هذه القوى والتأثير فيها. إن هذه الممارسة لا تستند إلى المنطق السببي، إذا فعلت س، فسيحدث ص، بل إلى المنطق الرمزي، إذا قلدت المطر، فإنه سيهطل. إنها محاولة للسيطرة على ما هو خارج نطاق السيطرة المادية، من خلال الإعتقاد بأن النية و الرمز لهما قوة حقيقية.
مع تطور العقل البشري، بدأ الإنسان يلاحظ أن بعض الظواهر تتكرر بطريقة يمكن التنبؤ بها. هذا أدى إلى ظهور المنهج العلمي. لم يعد الهدف هو السيطرة من خلال الرموز، بل من خلال فهم القوانين الطبيعية التي تحكم العالم. .
المنهج العلمي هو في جوهره، وسيلة أكثر تطورًا للسيطرة. إنه يبحث عن الأسباب الحقيقية وراء الظواهر، ويستخدم التجربة والقياس لإثبات صحة الفرضيات. إن الرغبة في السيطرة هنا لا تقتصر على التأثير في الواقع، بل تشمل فهمه بشكل كامل. عندما يفهم العالم، يستطيع الإنسان التنبؤ بما سيحدث، وبالتالي التحكم فيه. إنها نفس الرغبة في السيطرة، ولكنها تحولت من الرمز إلى السبب، ومن الحدس إلى المنطق.
يمكن النظر إلى المنهجين من خلال علاقتهما بـالعقل والروح. المنهج السحري هو تعبير عن الروح، الجانب الذي يبحث عن المعنى، ويعمل من خلال الحدس والرمزية. إنه يعكس إيمان الإنسان بأن هناك قوى خفية يمكن التواصل معها. أما المنهج العلمي فهو تعبير عن العقل، الجانب الذي يبحث عن الأسباب، ويعمل من خلال المنطق والتحليل. إنه يعكس إيمان الإنسان بأن العالم يمكن فهمه من خلال القوانين الطبيعية.
في جوهرها، كلاهما يحاول تحقيق السيطرة، ولكن بطرق مختلفة. السحر يحاول السيطرة على العالم الخارجي من خلال الواقع الداخلي، النية والإيمان. العلم يحاول السيطرة على العالم الخارجي من خلال الواقع الخارجي، التجربة و الملاحظة.
إن هذه الرغبة المشتركة في السيطرة هي التي تربط بين المنهجين، وتجعلهما وجهين لعملة واحدة. السحر هو البداية الفطرية لهذه الرغبة، والعلم هو تطورها المنطقي.

_ الخداع السحري والخداع العلمي: إختلاف في النية و النتيجة

ما هو الحد الفاصل بين "الخداع السحري والخداع العلمي؟ وهل هناك أي فرق جوهري بين الإعتقاد في سحر غير مثبت والإعتقاد في نظرية علمية لم تُثبت بعد؟
الحد الفاصل بين الخداع السحري والخداع العلمي لا يكمن فقط في المنهجية والنية، بل في الفلسفة الأساسية التي يقوم عليها كل منهما. إن الخداع السحري، في جوهره، هو إحتفال بالوهم. إنه يقر بوجود حقيقة مخفية، ولكنه يستخدمها لخلق تجربة عاطفية، لا لإثبات نظرية. بينما الخداع العلمي هو نفي للحقيقة من خلال إستخدام أدواتها، مما يجعله أكثر خطورة على المدى الطويل لأنه يزعزع الثقة في العلم نفسه.
الساحر المحترف لا يدّعي أنه يملك قوى خارقة. بل يعتمد على فهمه العميق لعلم النفس البشري، وكيفية التلاعب بالإدراك. إنه يعلم أن العقل البشري يميل إلى ملء الفجوات، وأن الروح تسعى دائمًا إلى ما هو غامض. لذلك، هو يستغل هذه الثغرات لتقديم تجربة تثير الدهشة. إنه يخلق واقعًا مؤقتًا حيث المستحيل يصبح ممكنًا. إنه لا يخدع لإثبات نظرية، بل لخلق تجربة.
أما العالم الزائف، فهو يستغل ثقة الجمهور في المنهج العلمي. إنه لا يخدع لإثارة الدهشة، بل لتحقيق مكاسب شخصية أو لترويج أجندة معينة. إنه يتظاهر بأنه يتبع المنطق العلمي، و لكنه في الحقيقة يقوم بتزييف البيانات، وتجاهل النتائج التي لا تدعم فرضيته، والتلاعب بالإحتمالات. هذا النوع من الخداع لا يزعزع الثقة في شخص واحد، بل في نظام كامل مصمم للوصول إلى الحقيقة.
إن الفرق بين الإعتقاد في سحر غير مثبت و الإعتقاد في نظرية علمية لم تُثبت بعد هو الفرق بين الإيمان المطلق في الروح والإيمان المشروط في العقل. هذا الفرق هو ما يجعل كليهما مختلفاً جذرياً في طبيعته وهدفه.
الإعتقاد في السحر غير المثبت هو نوع من الإيمان المطلق. إنه لا يتطلب أي دليل مادي، ولا يتوقع أن يتم التحقق منه في المستقبل. إنه يعتمد على الحدس والتجربة الشخصية و الرمزية. الشخص الذي يؤمن بقوة البلورات العلاجية لا يطلب من العلم أن يثبت له ذلك، بل هو يرى أن تأثيرها يكمن في طاقتها الروحية، و التي لا يمكن قياسها بأي أداة علمية. هذا الإيمان هو جزء من تجربة الروح، وليس جزءًا من تجربة العقل.
بالمقابل، الإعتقاد في نظرية علمية لم تُثبت بعد هو نوع من الإيمان المشروط. إنه يعتمد على أمل منطقي بأن النظرية ستُثبت يوما ما، بناءً على الأدلة الحالية التي تدعمها، حتى لو كانت غير كافية. نظرية الأوتار الفائقة، على سبيل المثال، لم تُثبت، ولكنها مبنية على معادلات رياضية معقدة وتتوافق مع العديد من قوانين الفيزياء المعروفة. إن الإعتقاد بها ليس إيماناً أعمى، بل هو رهان عقلاني على أن المنهج العلمي سينجح في النهاية. هذا النوع من الإيمان هو جزء من تجربة العقل، وليس جزءًا من تجربة الروح.
تكمن المنطقة الرمادية، التي تجمع بين الإثنين و تخلق الكثير من الإلتباس، في نقطة التقاء العقل والروح. عندما يتم إستخدام المصطلحات العلميةمثل الطاقة أو الذبذبات لوصف ظواهر روحية، فإن ذلك يخلق علماً زائفاً. الهدف هنا ليس ترفيهياً ولا علمياً، بل هو تضليل متعمد لإعطاء مصداقية لشيء لا أساس له.
الخداع في هذه المنطقة أكثر خطورة لأنه يستغل رغبة الناس في فهم العالم الروحي من خلال أدوات العقل. إنه يعد بالدمج بين العالمين، ولكنه في الحقيقة يقوم بتشويههما. هذا النوع من الخداع لا يخدع العقل وحده، بل يخدع الروح أيضاً.
في النهاية، يمكن القول إن الفارق الجوهري بينهما يكمن في هدف كل منهما. السحر يهدف إلى إثراء التجربة الروحية، حتى لو كان ذلك من خلال الخداع. العلم يهدف إلى فهم الواقع المادي، ولكن عندما يقع في الخداع، فإنه يهدم أساسه. هل يمكن أن يأتي يوم يفسر فيه العقل كل ما هو غامض، أم ستبقى الروح دائمًا تبحث عن ما هو غير قابل للقياس؟

_ السحر بين العلم والفن: منطقة رمادية من الفلسفة الإنسانية

هل السحر هو علم الأسباب الذي لا نعرفه بعد، أم أنه فن ليس له علاقة بالعلم؟
لا يمكن القول ببساطة إن السحر هو علم الأسباب الذي لا نعرفه بعد، ولا هو مجرد فن ليس له علاقة بالعلم. بل هو ظاهرة فلسفية تقع في منطقة رمادية معقدة بينهما، تستعير من كل منهما، ولكنها لا تندمج كليًا في أي منهما. إن فهم السحر يتطلب تجاوز الثنائية التقليدية بين العقل والروح، والنظر إليه كظاهرة تعكس رغبة الإنسان الأبدية في التأثير على الواقع بطرق تتجاوز فهمه المادي.
إن الفكرة القائلة بأن السحر هو علم لم نكتشفه بعد هي فكرة جذابة، لأنها تمنحه نوعًا من الشرعية في عالمنا المادي. ومع ذلك، فإن هذه الفكرة تتعارض بشكل مباشر مع جوهر المنهج العلمي. العلم يعتمد على السببية المادية و التحقق التجريبي، والتكرار المنهجي. إذا قام عالم بتجربة ما، فإنها يجب أن تكون قابلة للتكرار في أي مختبر آخر، وفي أي وقت، للحصول على نفس النتيجة. هذا يضمن أن النتائج ليست مجرد صدفة أو إعتقاد شخصي.
السحر، في المقابل، لا يمكن أن يخضع لهذه المعايير. لا يمكن تكرار الطقوس السحرية و الحصول على نفس النتيجة بشكل ثابت. ففي السحر، تلعب عوامل مثل النية، والإيمان، و الطاقة الروحية دورًا حاسمًا، وهي عوامل لا يمكن قياسها أو التحكم فيها. إن السحر لا يبحث عن الأسباب المادية (لماذا يغلي الماء عند 100 درجة مئوية)، بل عن الروابط الرمزية والخفية بين الأشياء (لماذا يربط القمر بالخصوبة). إنه لا يسعى إلى فهم العالم كما هو، بل إلى التأثير فيه كما يرغب.
بالمقابل، لا يمكن إختزال السحر إلى مجرد فن أو عرض ترفيهي هدفه التسلية. ففي جوهره، السحر هو ممارسة روحية وفلسفية تهدف إلى التأثير في الواقع. إن الساحر، في سياقه التاريخي، لم يكن يخدع جمهوره من أجل المال أو الشهرة فقط، بل كان يؤمن بقوة الطقوس و الرموز. إن هذه الممارسات تعكس رغبة فطرية لدى الإنسان في السيطرة على مصيره، و التواصل مع قوى أكبر منه.
فإذا كان الفن هو محاكاة للواقع أو تعبير عنه، فإن السحر هو محاولة لتغيير الواقع. إن الفنان قد يرسم لوحة تعكس جمال الطبيعة، بينما الساحر قد يقوم بطقس لجلب المطر. هذا يوضح الفرق الجوهري بينهما: الفن يهدف إلى التأمل، بينما السحر يهدف إلى الفعل.
يمكن فهم السحر على أنه فن تطبيقي يستخدم الرموز والطقوس لتحقيق غايات روحية أو مادية. إنه يجمع بين الإبداع الفني في تصميم الطقوس والتعاويذ وبين الرغبة في التأثير وهي نفس الرغبة التي تدفع العلم. إنه لا يسعى إلى فهم القوانين الطبيعية، بل إلى تجاوزها.
العلم، في المقابل، هو فن إستكشافي يستخدم المنطق والتجربة لتحقيق غايات مادية. إنه يهدف إلى الفهم، وليس بالضرورة إلى التأثير. إنه يتطلب الإبداع (الروح)، ولكنه يعمل من خلال المنطق (العقل).
في هذا السياق، يمكن إعتبار السحر شكلاً من أشكال الفلسفة البدائية التي حاولت تفسير العالم من خلال العلاقات الخفية بدلاً من العلاقات السببية. إنه يعكس إيمان الإنسان بأن هناك قوى غير مرئية يمكن التعامل معها. إنه ليس علماً، و لكنه ليس مجرد خيال؛ إنه طريقة وجودية للتعامل مع الواقع.
إن السحر هو تعبير عن العلاقة المعقدة بين العقل والروح. إنه يعكس محاولة الإنسان لفهم العالم والتأثير فيه، ليس من خلال القوانين المادية، بل من خلال النية والرمزية. إنه لا يهدف إلى أن يكون بديلاً عن العلم، ولكنه يخدم غرضًا مختلفًا تمامًا: فهم الجوانب الروحية من الوجود، والتأثير في الواقع من خلالها.
هل يمكن أن يأتي يوم يفسر فيه العلم كل شيء، أم ستبقى هناك دائمًا منطقة رمادية للسحر و الغموض؟

_ عندما يصبح الإيمان قوة: هل السحر مجرد علم نفسي؟

إذا كان السحر يعتمد على الإيمان، فهل يمكن أن يكون الإيمان بحد ذاته قوة يمكن أن تُحدث تغييرًا في الواقع، و بالتالي يصبح السحر نوعًا من العلم النفسي؟
نعم، يمكن القول إن الإيمان بحد ذاته هو قوة يمكن أن تُحدث تغييرًا في الواقع، وبالتالي يصبح السحر، في جوهره، نوعًا من العلم النفسي أو فن التأثير العقلي. هذا التحليل يغوص في أعماق العلاقة بين العقل والروح، ويكشف كيف يمكن للمعتقدات أن تشكل واقعنا المادي.
إن الإيمان ليس مجرد شعور عابر أو قناعة فكرية. إنه قوة دافعة قادرة على تشكيل الواقع، ويعمل على عدة مستويات متداخلة، عندما يؤمن شخص بقدرته على تحقيق شيء ما، فإن عقله الباطن يبدأ في إعادة برمجة نفسه. إنه يبدأ في البحث عن فرص، ويلاحظ التفاصيل التي كان سيتجاهلها في السابق، ويستعد للتعامل مع التحديات. هذا هو جوهر تأثير البلاسيبو (Placebo Effect)، حيث يؤدي الإعتقاد في الشفاء إلى تحفيز الجسم على إنتاج مواد كيميائية تساعد على الشفاء.
على المستوى البيولوجي والجسدي. الإيمان يمكن أن يؤثر على كيمياء الجسم بشكل مباشر. فقد أظهرت الدراسات أن الأشخاص الذين لديهم نظرة إيجابية للحياة لديهم مستويات أقل من هرمون التوتر الكورتيزول، ومستويات أعلى من الدوبامين والسيروتونين، مما يؤثر على الصحة العامة و المزاج.
على المستوى السلوكي. عندما يؤمن شخص بأنه سيحقق هدفه، فإنه يصبح أكثر إصرارًا وتصميمًا. هذا يؤدي إلى إتخاذ قرارات وأفعال تزيد من إحتمالية نجاحه. على سبيل المثال، الشخص الذي يؤمن بقدرته على النجاح في مقابلة عمل سيكون أكثر ثقة، وهذا يؤثر على أدائه بشكل مباشر.
إن السحر، في هذا السياق، ليس قوة خارقة للطبيعة، بل هو أداة لإيقاظ هذه القوة. الطقوس والتعاويذ والرموز ليست إلا وسائل لتركيز النية والإيمان. عندما يقوم شخص بطقس سحري، فإنه لا يطلب من قوى خارقة أن تتدخل، بل هو يقوم بتوجيه طاقته الداخلية وتركيزها نحو هدف معين.
هذا هو السبب في أن السحر كان دائمًا مرتبطًا بـ العقل الباطن. فبينما يرى العقل الواعي الواقع من خلال الأسباب و النتائج، يرى العقل الباطن الواقع من خلال الرموز والعواطف. السحر هو لغة العقل الباطن، وهو يستخدمها للتأثير على الواقع.
إن العلاقة بين الإيمان والسحر والعلم النفسي تكمن في نقطة الإلتقاء بين العقل والروح. العقل هو الجانب المنطقي و التحليلي من وجودنا. إنه يبحث عن الأسباب، ويضع النظريات، ويختبر الفرضيات. أما الروح فهي الجانب الحدسي و الجمالي والغيبي. إنها لا تبحث عن الأسباب، بل عن المعنى.
السحر يعمل في هذه المنطقة الرمادية. إنه يستخدم أدوات العقل مثل التركيز والنية لتحقيق غايات روحية مثل الشعور بالسلام أو السيطرة. إن هذا لا يجعله علمًا في حد ذاته، و لكنه يجعله ظاهرة نفسية وفلسفية تستحق الدراسة. إنه ليس علمًا لأنه لا يتبع المنهجية العلمية الصارمة، ولكنه يستخدم مبادئ نفسية عميقة للتأثير على الواقع.
لا يمكن القول إن السحر هو علم نفسي بالمعنى الأكاديمي، لأن العلم النفسي يعتمد على التجربة و التحقق. ومع ذلك، يمكن القول إن السحر يستخدم مبادئ نفسية للتأثير على الواقع. إنه ليس علمًا، ولكنه ليس مجرد خرافة. إنه فلسفة تطبيقية تستخدم الإيمان كقوة للتأثير في العالم.

_ "لماذا" السحر و"كيف" العلم: إختلاف في الغاية والمنهج

هل يكمن الفرق الجوهري بين السحر والعلم في أن السحر يبحث عن لماذا بطريقة غيبية، بينما العلم يبحث عن كيف بطريقة مادية؟
نعم، يكمن الفرق الجوهري بين السحر والعلم في أن السحر يبحث عن لماذا بطريقة غيبية، بينما العلم يبحث عن كيف بطريقة مادية. هذا التمييز ليس مجرد تباين في المنهجية، بل هو إنعكاس لإختلاف عميق في فلسفة كل منهما حول العلاقة بين العقل والروح وبين الإنسان والكون.
العلم هو منهجية منظمة تهدف إلى فهم آليات عمل الكون. إنه لا يهتم بالبحث عن المعنى أو الغاية النهائية، بل يركز على العمليات القابلة للملاحظة والقياس. عندما يرى عالم التفاحة تسقط من الشجرة، فإنه لا يسأل لماذا أراد الكون أن تسقط هذه التفاحة؟، بل يسأل كيف تسقط التفاحة؟. الإجابة تكمن في قانون الجاذبية، وهو وصف رياضي دقيق للقوة التي تجذب الأجسام نحو بعضها. العلم لا يفسر السبب النهائي لهذه القوة، بل يصف كيفية عملها بدقة.
إن هذا التركيز على كيف يجعل العلم أداة قوية للغاية. إنه يتيح لنا التنبؤ بالظواهر، وتصميم التكنولوجيا، والتحكم في العالم المادي. إنه يعتمد على المنطق السببي (Causal Logic)، الذي يربط بين الأسباب والنتائج بطريقة يمكن التحقق منها. العلم هو أداة العقل بإمتياز، لأنه يفكك الواقع إلى أجزاء صغيرة يمكن تحليلها وفهمها.
أما السحر، فهو يعكس نهجًا مختلفًا جذريًا. إنه لا يهتم بـكيف تحدث الظواهر، بل بـلماذا تحدث. عندما يرى الساحر التفاحة تسقط، فإنه قد يفسر ذلك على أنه فعل ذي معنى، أو أنه حدث بسبب قوة روحية، أو أن هناك رسالة خفية من الكون. السحر لا يبحث عن قوانين مادية، بل عن قوانين رمزية.
إن هذا البحث عن لماذا يجعل السحر يتجاوز الواقع المادي إلى عالم الروح والرموز و المعاني. الطقوس والتعاويذ ليست إلا وسائل للتواصل مع هذا العالم الخفي. الساحر لا يطلب من الكون أن يغير قوانينه، بل يطلب منه أن يتجاوب مع نيته و إيمانه. إن السحر هو لغة الروح التي تحاول فهم العالم من خلال المعنى، وليس من خلال الأسباب.
هذا الإختلاف بين كيف و لماذا يلامس جوهر العلاقة بين العقل والروح. العقل يبحث عن التفسير، بينما الروح تبحث عن المعنى. العلم هو تعبير عن رغبة العقل في فهم آليات العالم، بينما السحر هو تعبير عن رغبة الروح في فهم غاياته.
العلم يرى الكون كآلة يمكن تفكيكها وإعادة تركيبها. السحر يرى الكون ككائن حي مليء بالرموز والطاقات الخفية. أحدهما يعتمد على الموضوعية (القوانين الفيزيائية)، والآخر يعتمد على الذاتية (النية و الإيمان).
في النهاية، لا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر. العلم يمنحنا القدرة على التنبؤ والسيطرة على الواقع المادي، بينما السحر أو البحث الروحي عمومًا يمنحنا المعنى والغرض. العلم يفسر كيفية عمل القلب، بينما الروح تفسر لماذا نحب. كلاهما ضروري لفهم الوجود بشكل كامل. هل يمكن أن يأتي يوم يتحد فيه كيف ولماذا في منهج واحد؟

_ هل السحر مرآة لفشل العلم؟

هل يعكس السحر فشل العلم في الإجابة على الأسئلة الكبرى مثل الموت، المصير، والمعنى، مما يدفع الناس للبحث عن إجابات في مجالات غير علمية؟
نعم، يمكن القول إن السحر، كظاهرة تاريخية و فلسفية، يعكس إلى حد كبير فشل العلم في الإجابة على الأسئلة الكبرى التي تشغل العقل و الروح البشرية. فالعلم يمنحنا المعرفة، لكنه لا يمنحنا بالضرورة المعنى. إنه يخبرنا عن كيف تعمل الأشياء، لكنه يترك لماذا بدون إجابة. هذا الفراغ الوجودي يدفع الناس للبحث عن إجابات في مجالات غير علمية، ومن هنا يأتي دور السحر.
إن العلم، كأداة للعقل، هو الأفضل في فهم العالم المادي. إنه يجيب على أسئلة مثل: ما هي قوانين الفيزياء؟، كيف يعمل الجسم البشري؟، و ما هي مكونات الكون؟. ولكنه لا يستطيع أن يجيب على أسئلة مثل: لماذا يوجد الكون؟، ما هو الغرض من الحياة؟، و ماذا يحدث بعد الموت؟. هذه الأسئلة تقع خارج نطاق التجربة والقياس، و بالتالي خارج نطاق العلم.
هذه الأسئلة ليست مجرد أسئلة أكاديمية، بل هي أسئلة وجودية تمس جوهر الإنسان. إنها تتطلب إجابات تمنحنا الطمأنينة والأمل والمعنى. وعندما يفشل العلم في تقديم هذه الإجابات، يبدأ الناس في البحث عنها في مكان آخر.
هنا يأتي دور السحر، ليس كبديل عن العلم، بل كبديل عن الفراغ الروحي الذي يخلقه. إن السحر يعكس رغبة الإنسان في التعامل مع الغموض. إنه يقدم إجابات، وإن كانت رمزية أو غير قابلة للتحقق، للأسئلة التي يعجز العلم عن الإجابة عليها.
بينما يرى العلم الموت كنهاية بيولوجية، قد يرى السحر أن الروح تستمر في الوجود، ويقدم طقوسًا للتواصل معها. هذا يمنح الأمل والسلوان.
بينما يرى العلم المصير كنتاج للصدفة وقوانين الطبيعة، قد يرى السحر أن المصير يمكن التحكم فيه من خلال النية والإيمان. هذا يمنح شعورًا بالسيطرة على الحياة. بينما يرى العلم الحياة كظاهرة بيولوجية عشوائية، قد يرى السحر أن الحياة مليئة بالرموز والمعاني الخفية، وأن كل شيء يحدث لسبب. هذا يمنح الحياة هدفًا و غرضًا.
إن هذا الصراع بين العلم والسحر هو في جوهره صراع بين العقل والروح. العقل يطلب أدلة، و الروح تطلب معنى. عندما يفشل أحدهما في تلبية إحتياجات الآخر، ينشأ التوتر. العلم يمنحنا القوة على الواقع المادي. و السحر يمنحنا المعنى للواقع الروحي. لا يمكن لأحدهما أن يحل محل الآخر. إن محاولة إستخدام العلم للإجابة على الأسئلة الروحية، أو إستخدام السحر للإجابة على الأسئلة المادية، هي محاولات محكوم عليها بالفشل.
في النهاية، السحر ليس فشلاً للعلم، بل هو مرآة لحدوده. إنه يعكس الحاجة الإنسانية الفطرية للإجابة على الأسئلة الكبرى التي لا يمكن للعلم الإجابة عليها. إنه يملأ الفراغ الذي يخلقه المنهج العلمي، ويوفر إجابات تمنحنا الأمل والمعنى و السلوان في عالم قد يبدو عشوائيًا وبلا هدف. هل يمكن أن يأتي يوم يتحد فيه العلم والروح في منهج واحد؟

_ هل العلم يقمع الغموض أم يفك شفرته

إذا كان السحر يمثل الجانب الغامض وغير العقلاني في الإنسان، فهل يعتبر العلم محاولة لقمع هذا الجانب أم أنه محاولة لفهمه وتأطيره؟
إن العلاقة بين السحر والعلم ليست مجرد صراع بين طرفين متناقضين، بل هي جدلية عميقة بين العقل والروح. لا يمكن القول إن العلم هو مجرد محاولة لقمع الجانب الغامض وغير العقلاني في الإنسان، بل هو محاولة لفهمه وتأطيره في سياق منطقي وموضوعي. السحر يمثل الجانب الغامض، و لكن العلم يرى هذا الغموض ليس كقوة يجب قمعها، بل كظاهرة يجب فك شفرتها.
إن العقل البشري يسعى بطبيعته إلى التنظيم. إنه يكره الفوضى والغموض، ويحب أن يضع كل شيء في إطار منطقي. العلم هو الأداة المثلى لهذا الغرض. إنه يأخذ الظواهر الغامضة، ويحللها، ويفككها إلى أجزاء يمكن فهمها، ثم يعيد تركيبها في صورة متكاملة. في الماضي، كان الرعد و البرق ظاهرة سحرية تُنسب إلى الآلهة. ولكن العلم لم يقم بقمع هذا الإعتقاد، بل قام بفهمه. لقد درس الكهرباء في الغلاف الجوي، ووضع قوانين تفسر هذه الظاهرة. لم يقل العلم إن إله الرعد غير موجود، بل قال يمكننا فهم هذه الظاهرة بطريقة مختلفة. يعتبر الوعي من أكثر الظواهر غموضًا. السحر قد ينسبه إلى الروح أو الطاقة، و لكن العلم لا يقمع هذا التفكير. بل يحاول فهمه من خلال دراسة الدماغ، والبحث في الخلايا العصبية، ومحاولة فهم كيف يمكن لمادة مادية أن تنتج وعيًا غير مادي. إن العلم لا يقمع الغموض، بل يتعامل معه. إنه يرى أن ما يبدو سحريًا اليوم قد يصبح علميًا غدًا.
في المقابل، يمثل السحر جوانب من الوجود لا يمكن للعلم أن يلمسها. إنه لا يقتصر على الظواهر الطبيعية، بل يمتد إلى الأسئلة الوجودية التي تلامس الروح. العلم لا يستطيع أن يخبرنا عن المعنى الحقيقي للحياة. كما لا يستطيع أن يخبرنا عن مصيرنا بعد الموت. ولا يستطيع أن يفسر الحب في جوهره. هذه الأسئلة هي مجال الروح، وهي مجال السحر. السحر يملأ هذا الفراغ الذي يتركه العلم. إنه يعطينا إجابات، وإن كانت رمزية، على أسئلة لا يمكن للعلم أن يجيب عليها.
في النهاية، العلاقة بين العلم والسحر هي علاقة بين العقل و الروح. العقل هو الجانب المنطقي الذي يسعى للفهم و التأطير، والروح هي الجانب الحدسي الذي يبحث عن المعنى والغاية. العلم لا يقمع الروح، ولكنه لا يستطيع أن يفسرها بالكامل. السحر لا يتجاهل العقل، ولكنه لا يتبعه بالكامل. بشكل عام، العلم والسحر ليسا متناقضين، بل هما وجهان لعملة واحدة. العلم يمثل محاولة لفهم الواقع المادي، بينما السحر يمثل محاولة لفهم الواقع الروحي. هل يمكن أن يأتي يوم يتحد فيه العقل والروح في منهج واحد؟



#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَ ...
- الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال ...
- الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال ...
- الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال ...
- الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال ...
- الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال ...
- الْفَلْسَفَةِ وَالسِّحْر: قِرَاءَةٍ فِي تَارِيخِ عَلَاقَة ال ...
- مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الس ...
- مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الْ ...
- مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الر ...
- مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الث ...
- مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الث ...
- مِنْ سِحْرِ السَّيْطَرَة إلَى دِينِ الخُضُوعِ -الْجُزْءُ الْ ...
- الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الْخَامِس-
- الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الرَّابِعُ-
- الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الثَّالِثُ-
- الْأَسَاطِيرُ وَالسِّحْر -الْجُزْءُ الثَّانِي-


المزيد.....




- رمزية جاكيت الملكة ليتيسيا.. المصممة المصرية دينا شاكر تكشف ...
- نجل زين الدين زيدان يغير جنسيته الرياضية للدفاع عن ألوان منت ...
- هجوم سيبراني يتسبب في اضطرابات بمطارات أوروبية كبرى
- إستونيا تتهم روسيا بخرق أجوائها ودعوات لتعزيز دفاعات حلف الن ...
- انتخاب السعودية والأردن لعضوية مجلس محافظي وكالة الطاقة الذر ...
- كيف تحقق دخلا ماديا من مقاطع الفيديو القصيرة عبر يوتيوب؟
- ردع إسرائيل وتأسيس عقيدة أمنية عربية جديدة
- بعد يوم دامٍ.. قوات الدعم السريع تقصف أحياء بالفاشر
- شاهد.. مدير مجمع الشفاء بغزة يودع شهداء عائلته
- دعوى قضائية ضد 11 مسؤولا ألمانيا بتهمة التواطؤ في إبادة غزة ...


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمودة المعناوي - العِلْمُ: الخُدْعَة الكُبْرَى لِلْمَعْرِفَة البَشَرِيَّة. هَلْ قَوَانِينِ الكَوْنِ لَيْسَتْ سِوَى همَسَات بِاهِتَة لِسِحْر مَنْسِّي -الْجُزْءُ الْخَامِسُ-