بهجت العبيدي البيبة
الحوار المتمدن-العدد: 8464 - 2025 / 9 / 13 - 14:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كنتُ ذات يوم أمرّ في شارعٍ أوروبي هادئ، فإذا بي ألمح من بعيد مجموعة صغيرة تتجمهر أمام مبنى أنيق تعلوه راية مصر. اقتربتُ أكثر، فسمعت صراخاً حاداً وهتافاتٍ متكررة، ورأيت لافتاتٍ كُتبت بعجلة، بعضها لا يخلو من أخطاء إملائية. كان المشهد أقرب إلى مسرحية مرتجلة، أبطالها بضع فلول من جماعة لفظها الوطن، يحاولون أن يثيروا ضجيجاً أمام سفارة مصر.
تأملتُ وجوههم، فوجدتها متجهمة، تكرر الكلمات نفسها بلا روح. لم يكن في عيونهم بريق قضية حقيقية، بل كان في حركاتهم تكلفٌ فاضح، وفي أصواتهم ارتجاف يفضح ضآلة العدد وغياب الصدق. التقطوا صوراً، صوراً فقط، وكأن الهدف كله أن تصل اللقطات إلى شاشات بعينها، لا أن يسمع صوتهم أحد في تلك المدينة الهادئة.
ومضت الأيام، حتى وقعت الضربة الإسرائيلية على قلب الدوحة، فاهتزت الأخبار واشتعلت التعليقات في العالم. قلت في نفسي: الآن سيظهر صدقهم إن كان فيهم صدق، الآن سيقفون أمام سفارة إسرائيل ليصرخوا كما صرخوا أمام سفارة مصر. لكن المدينة ظلت صامتة، والشوارع خالية، وسفارة إسرائيل آمنة لا يقترب منها أحد. بحثت عنهم، فلم أجد لهم أثراً.
حينها فهمت اللعبة بوضوح: هؤلاء لا يتحركون إلا بأوامر، ولا يرفعون أصواتهم إلا حيث يُسمح لهم، ولا يستهدفون إلا مصر. أمام مصر هم "شجعان"، وأمام إسرائيل يصمتون كأنهم لم يولدوا. لم يكن الأمر موقفاً وطنياً، بل كان مخططاً مُعداً سلفاً، هدفه تشويه صورة الدولة المصرية في الخارج وزعزعة ثقة أبنائها في الداخل.
لقد باتت القصة مكشوفة: مشهد مصطنع أمام سفارة مصر لتصوير الوهم بأن "المصريين في الخارج غاضبون"، بينما الحقيقة أن الجاليات المصرية مخلصة لوطنها، تعمل في صمت، وتعرف أن هذه الأصوات المأجورة لا تمثلها. ثم صمت مطبق أمام سفارة إسرائيل، لأن الممول لا يريد مواجهة العدو الحقيقي، بل يريد فقط أن ينال من مصر.
وها هي المفارقة تصرخ وحدها: صخبٌ ضد مصر، وصمتٌ أمام إسرائيل. ضجيجٌ في غير مكانه، وصمتٌ في لحظة كان يجب أن يعلو فيها الصوت دفاعاً عن عاصمة عربية شقيقة. إنها الحكاية ذاتها التي تتكرر، لكنها في كل مرة تزيد وضوحاً وتكشف سوءاتهم أكثر.
أما مصر، فتمضي في طريقها. لا تعبأ بصراخٍ مأجور، ولا تتأثر بضوضاءٍ مدفوعة الأجر. فمصر دولة عصية على الكسر، تعرف طريقها جيداً، وتؤدي دورها التاريخي والإقليمي مهما ارتفعت أصوات الباطل أو تعددت صور المسرحيات الهزيلة.
#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟