ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8461 - 2025 / 9 / 10 - 22:17
المحور:
الادب والفن
تتحول المائدة إلى مسرح للذنب في مسلسل هنيبعل Hannibal الذي جمع بين الرعب النفسي وفلسفة الجمال في قالب درامي نفسي مميز جداً . إذ لا يمكنك التغافل عن أسلوب القاتل في الطهو وارتباط كل ذلك بعلم الجريمة النفسي العميق بتفاصيله، فالطبخ ليس وسيلة للبقاء، بل أداة فلسفية وجمالية تعيد تشكيل الجريمة في هيئة فن.مما دفعني إلى التساؤل وكتابة هذا المقال. إذ كيف تتحول مائدة الطعام إلى لحظة وجودية تقف بين الحياة والموت، وكيف يمكن للطهو أن يصبح مرآة لروح القاتل. وهل يمكن أن تكون جريمة القتل لوحة فنية؟ وهل يمكن أن يُطهى الشر على نار هادئة، ويُقدَّم في أطباق البورسلين الأبيض على مائدة مضاءة بشموع مع موسيقى باخ؟ والأهم هل الطبخ هو فعل فلسفي عندما يصبح الطعام أداة للسيطرة؟
هنيبعل ليكتر، الطبيب النفسي البارع، ليس مجرد قاتل متسلسل يهوى الطبخ فقط بل هو فيلسوف الطهو الدموي، يطبخ كأنّه يؤلف مقطوعة موسيقية، ويقتل كأنّه يرسم لوحة سريالية بدم إنساني.لا يأكل من يقتلهم فحسب، بل يُطعمهم للآخرين من ضيوفه، أصدقاءه، زملاءه في العمل ودون علمهم. وهنا يكمن أحد أعقد تفاصيل المسلسل على مدار حلقاته كلها، فالتحكم الكلي في الجسد، والذوق، والإرادة. نشهده ونسمعه باستمرار في الحلقات وبوجوه مختلفة "عندما تُطعم شخصاً ما من جسد آخر، فإنك تمنحه أكثر مما يظن" فالطبيب النفسي هانيبال ليكترالطبخ لديه ليس غذاءً للجسد، بل تمرين سلطوي على "تشكيل" الآخر فأنت لا تأكل فقط، بل تتحول إلى ما تأكله، وتُصير بغير وعي جزءاً من ضحاياه. فهل الطبخ من الجماليات في خدمة الجريمة في هذا المسلسل الأكثر من رائع والمستوحى من رواية التنين الأحمر لتوماس هاريس ؟
من الناحية البصرية، يقدم المسلسل تجربة نادرة في تصوير الطعام. الكاميرا تتسلل برفق على يد هانيبال وهو يفرم الكبد، يقطّع الكلى، يطهو اللسان، يغلي العظم كل ذلك وسط ألحان كلاسيكية ناعمة، وإضاءة شبه رومانسية. فالطعام يُقدّم في أطباق فرنسية، مزينة بأوراق الريحان أو زهور صالحة للأكل، في طاولة مستوحاة من أساليب الأرستقراطية الأوروبية.لكننا نعلم ونحن نستمتع بفن الطبخ في المشهد بإعجاب متوتر أن اللحم في الطبق هو لحم بشري. فما المقصود من كل هذا واحساس المشاهد في دهشة لا يمكن تفسيرها. هذا التوتر المقصود بين "الشهوة البصرية" و"الاشمئزاز الأخلاقي" يُعد من أذكى أدوات المسلسل لإشراك المشاهد نفسياً في الجريمة، دون أن يكون جانياً مباشراً. فنحن نُفتن، ثم نخجل من افتتاننا. فماذا عن فن القتل من الاستيتيقا إلى الإثم؟
من الناحية الفلسفية، يرتكز المسلسل على مفهوم "الجمال في الجريمة"، كما طرحه بعض المفكرين مثل بودلير وباتاي، الذين اعتبروا أن الجريمة قد تحتوي بعداً جمالياً لأنها تكشف عن جوهر الإنسان العاري، وتحرره المؤقت من سلطة القوانين ويقول جورج باتاي عن هذا . "الجريمة عمل من أعمال الحرية، ومن مظاهر الإرادة المطلقة" هانيبعل يتبنى هذا المنظور بوضوح، لكن بنسخته الخاصة الجريمة عنده ليست فوضى، بل نظام صارم من الذوق، والتخطيط، والرمزية. وكأن كل وجبة يعدّها هي طقس طهوري، يعيد فيه كتابة العدالة على طريقته، ويُطهّر من خلاله العالم من "الرداءة". فهل القاتل يمارس السيطرة بتوجهات فنية متعددة من الطهو إلى اللوحات إلى علم الجريمة النفسي؟
من منظور علم الجريمة، فإن شخصية هانيبال تُمثّل صورة فريدة للقاتل المتسلسل النرجسي من النمط "النخبوي"، الذي لا يقتل بدافع الحاجة أو الغضب، بل من أجل "تحقيق ذاته العليا".إنه يرى نفسه فناناً، وكل ضحية هي مادة خام. الطبخ بالنسبة له ليس وسيلة للهروب من الجريمة، بل هو وسيلة ارتكاب الجريمة ببطء، بهدوء، وبأناقة .في علم النفس، قد نُسمي هذا "القتل الرمزي" أو "القتل الطقسي"، حيث يتحول جسد الآخر إلى وسيلة إسقاط أو تطهيروكما قيل" السيطرة المطلقة تبدأ من السيطرة على الجسد"، وخصوصاً حين يُختزل إلى لحم. فما هو سر هذا التناقض المقصود في المسلسل والذي دفعني لكتابة هذا المقال هل أناقة الطهو ومشهد الأطباق ووحشية المصدر؟
هذا التناقض بين أناقة الطعام ووحشية مصدره هو ما يُشكل العمود الفقري في تجربة المسلسل. لأننا في كل حلقة نحن نُجبر على أن نسأل أنفسنا عن سر كل طبق في كل جريمة ترتكب و هل من الممكن أن يكون شيء بهذا الجمال شريراً ؟ وإذا كان الشر يُقدَّم على هذا النحو، فهل سنلاحظه أصلًا؟ و أين تنتهي اللذة وتبدأ الجريمة؟
يمكن القول إن المسلسل يحاكي تجربة أوسكار وايلد في "صورة دوريان غراي"، حيث ينزلق البطل نحو الشر تحت غطاء الجمال. فالمائدة هي المسرح الحقيقي والانتقال بنا من الفخامة إلى الفخ. فمن الناحية الرمزية، تمثل مائدة هانيبال مسرحاً للسيطرة الاجتماعية، حيث يُجلس ضيوفه، يطهو لهم، يختار نوع النبيذ، الموسيقى، موضوع الحديث و بينما هو الوحيد الذي يعلم أنهم ربما يلتهمون إنساناً آخر.الضيوف، وهم غالباً من الطبقة العليا (قضاة، أطباء، موسيقيين)، يصبحون أدوات في لعبته.إذ يأكلون لحماً، دون أن يعلموا. يستمتعون، دون أن يشكّوا. يتواطأون، دون أن يدركوا.في لحظة مفصلية في المسلسل، يقول أحد الضيوف لهانيبال" ؟ إنه طبق استثنائي." فيقول: "إذا أخبرتك، قد لا يعجبك."وبهذا المسلسل يطرح أيضاً العديد من الأسئلة إذ كيف يمكن أن يُصبح الإنسان شريكاً في الإثم، لمجرد أنه قرر ألا يسأل. لكن أيضاً الموسيقى المصاحبة للطهو هل تتبع سيمفونية الجريمة؟
لا يمكن تجاهل دور الموسيقى الكلاسيكية المصاحبة لمشاهد الطبخ، خصوصاً أعمال باخ وهاندل وديبوسي. هذه ليست مجرد خلفية صوتية، بل عنصر دلالي.فالموسيقى تنقلنا من الواقع إلى حالة أقرب إلى الطقس الديني ، حيث يصبح كل طبق قرباناً، وكل وجبة فعل عبادة، لكن عبادة ماذا؟ وهل كل هذا هو نوع من عبادة الذات. لكن هانيبال لا يعبد أحداً... إلا نفسه. فهل يسخر من العدالة بكل هذا الفن في الطهو والتذوق حتى في الفن والشراب والمأكل والملبس وهل كل هذا يؤثر بالمشاهد فعلاُ؟
في إحدى الحلقات، يُطعم هانيبال أحد المحققين فطيرة محشوة بكِلية صديقه المفقود. لا يعلم الرجل أنه يأكل جزءاً من شخص يعرفه.هذه ليست مجرد سادية، بل بيان سياسي ضد العدالة الرسمية: "أنتم لا تعرفون ما تأكلون... كما أنكم لا تعرفون من تلاحقون." "أنتم تتحدثون عن الأخلاق... بينما تستهلكون الشر بكل لذة." فهل يصاب المشاهد بافتتان لا واع مما يجعلنا شركاء معه لمجرد متابعة المسلسل والاعجاب نفسياً بفنونه ؟
نُفتن بمشاهد الطبخ في المسلسل. رغم علمنا بمصدر الطعام، ورغم فظاعة الأفعال،نُعجب بالتقديم، بالإضاءة، بالأناقة، بل ربما نشعر أنه يجعلنا نعجب باختياره لضحاياه فهو يرى نفسه فناناً في اختيار ضحاياه ونحاتاً في تقديم أجسادهم. بل وفيلسوفاً في تبرير ما يفعل . إذ يقول القتل فعل نقي..حين يُفعل بإتقان،يصبح أقرب للموسيقى من الخطيئة." فالجريمة عنده ليست اندفاعاً بل هي طقس معقد من الجمال الانضباط والعمق. والطبخ تحديداً وهذا ما أتناوله في مقالي هذا هو فعل خلاق بالنسبة له يشبه التكوين الفني الأكل الجماعي مشاركة للهوية ، أو فرض للسيطرة، فإطعام الآخر من لحم إنسان هي كإعادة تدوير للعدالة على حد تعبيره "إذ أكلت عدوك ، فأنت تهضمه وتعيد تشكيله كما تريد" وهذا ربما مفهوم رمزي في الفلسفات القديمة والسحر البدائي ومن أشهر أطباقه في نهاية مقالي هذا هو كبد على الطريقة الفلورنسية كبد إنسان فاخر وناعم. فطائر الكلى كلى بشرية تقدم كتحفة فنية كما أن التصوير السينمائي يجعل من التحضير مشهداً شعائرياً مثل سكاكين مرصوفة بعناية توابل موزونة بدقة ضوء خافت وموسيقى كلاسيكية. فلماذاالتركيز على الطبخ بهذه الطريقة المثيرة للإشمئزاز والإعجاب معاً ؟
الشيف الحقيقي خلف أطباق المسلسل هو خوسيه أندريس، أحد أشهر الطهاة الإسبان . كل طبق صمم ليكون قابلا للتصوير، آمناً، لكن يبدو حقيقياً ومريباً في آن معاً . فهل كل طبق من أطباق هنيبعل ليكتر هو لغة نفسية شاعرية أو حكم بالإدانة أو بالقبول؟ وهل كل مائدة هي مسرحية تدور بين الذوق والموت؟ وهل الجمال في الطهو يمكنه فصل الجريمة عن نيتها؟ وهل كل هذا كاف لفعل مروع؟ ومتى يصبح الفن مرضاً؟ ومتى يصبح المرض فناً؟
بيروت- لبنان في 10 أيلول الساعة السابعة والنصف مساء 2025
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟