محمد بسام العمري
الحوار المتمدن-العدد: 8456 - 2025 / 9 / 5 - 10:23
المحور:
العلاقات الجنسية والاسرية
لم يكن حسان مجرد مهندس بناء، بل كان رجلًا يرى في الجدران أرواحًا، وفي الأعمدة قلوبًا نابضة. كان مهووسًا بالدقة، يزن كل طوبة، ويتتبع كل زاوية ميل، كأن البنايات كائنات قد تخونه إن لم ينتبه.
في المقابل، كانت سارة، زوجته، نقيضه المطلق. جميلة، اجتماعية، تعمل في شركة مرموقة، تضحك كثيرًا، وتتحدث بحرارة مع الجميع. كانت تعيش الحياة كما تُعاش… بينما هو كان يراقبها من خلف زجاج أفكاره، يخاف أن تُفلت منه كما تفلت الرمال من يد المُعماري الذي نسِي أساساته.
بدأت الشرارة الأولى عندما لاحظ تأخرها المتكرر، والضحكات التي تأتيها عبر الهاتف. كان شيئًا في نبرتها لا يُريح قلبه. قال لنفسه: "أعرف النبرة حين يكون الحديث مجرد عمل… وهذه ليست كذلك."
شيئًا فشيئًا، صار يسجل ملاحظاته في دفتر أسود.
“الجمعة – 18:47 – ضحكة غير معتادة بعد مكالمة استغرقت 6 دقائق.”
“الأحد – 20:21 – عطر جديد – لم يكن موجودًا أمس.”
حتى الهواء أصبح في نظره دليلًا.
ثم بدأ التثبيت.
كاميرات صغيرة أخفاها بخبرة مهندس. في الإنترفون، خلف التلفاز، في فتحة التهوية، حتى في إطار المرآة. لم تكن حياةً زوجية بعد ذلك، بل خريطة مراقبة خفية.
وكان يسهر ليلًا يراجع التسجيلات، يبحث عن علامات، عن نظرة شاردة، عن ابتسامة غير موجهة له.
وذات مساء… رآها تضحك بصوتٍ خافت بعد مكالمة صامتة. كتبت شيئًا على ورقة، مزقتها، ورمتها.
في اليوم التالي، نبش بين القمامة واستخرج نصف كلمة:
"الجم…"
كأنها قنبلة حروف.
الجميل؟ الجمعة؟ الجسر؟ الجامعة؟
في عقله، لم يهم ما كانت الكلمة. المهم أنها كتبتها خفية، ومزقتها.
بدأت الشكوك تأكل ما تبقّى من وعيه.
صار يشك في كل شيء. خطواتها. نبرة سلامها. نَفَسها حين تنام.
وفي كل مرة يُواجهها، كانت تبكي.
"أنت تتخيل، حسان. أنا زوجتك… كيف تفكر هكذا؟"
لكنه لم يكن يرى دموعها. بل يرى ما وراءها: ندمًا مزيفًا. خداعًا أنيقًا.
وفي إحدى الليالي، وجد كأسين فوق الطاولة… وعطرًا رجاليًا في الهواء.
قالت إنها كانت وحدها.
قالت إن الكأس الثاني فارغ منذ أيام.
قالت إن العطر يعود لزميلتها في المكتب.
لكنه لم يعد يسمع الكلمات.
بل يسمع الانهيار.
بدأ حسان يرسم مخطط شقته كما لو كانت مشروع جريمة.
كتب في دفتره:
"الخطة: ليلة الجمعة. قطع الكهرباء. تنفيذ بصمت. الجدران تحفظ الأسرار."
ليلة الجمعة. 01:26 صباحًا.
عاد مبكرًا.
قطع الكهرباء من العداد.
اختبأ في الصالة، سكين في جيبه، أنفاسه ثقيلة.
دخلت سارة مُنهكة، تئن من التعب.
أضاءت هاتفها. أنارت وجهها الخائف.
– "حسان؟"
صوته خرج من العتمة:
– "كنتِ مع من؟"
– "ماذا تقول؟ لم أكن مع أحد! أنت تهذي!"
– "بل أنا الآن أرى… للمرة الأولى."
رفع المطرقة.
أرادت أن تهرب، لكنه سبَقها بضربة.
صرخة…
زجاج يتناثر…
وظلامٌ يعود.
اليوم التالي.
رجال الشرطة في المكان.
سكان العمارة يتحدثون عن صراخ غير مفهوم.
الضابط يفتح دفتر حسان، يقرأ:
"سارة كانت مشروعًا جميلاً… لكنه انهار تحت الشك."
الأساسات الهشّة
لم يكن جنون حسان وليد اللحظة، ولا حتى نتيجة زواجٍ هشّ.
كان الجنون، كما في كل بناء مشوّه، كامِنًا في الأساسات.
طفولته كانت امتدادًا لجدارٍ صُمّ، لا نوافذ فيه ولا منافذ للهواء.
نشأ في بيت لا تُقال فيه كلمة "حب"، حيث كانت القسوة نظامًا، والبرود تربية.
والده، عسكري متقاعد، رجل لا يرى في العيون إلا تهديدًا، وفي العاطفة ضعفًا يجب قمعه.
في تلك البيئة، تعلّم حسان أن الصمت أمان، وأن التفاصيل الصغيرة تُنقذ من العقاب.
حين ينسى أحدهم إغلاق الباب جيدًا، كان أبوه يُسجّل ذلك كخيانة.
وحسان… تعلّم التوثيق قبل أن يتعلّم الكلام.
لم يكن يبني أبراجًا من المكعبات كالأطفال، بل كان ينحتها نحتًا دقيقًا، يقيّم زواياها، ويُعيد هدمها إن مالت درجة واحدة.
في المدرسة، لم يثق في زملائه. كان يجلس في آخر الصف، يراقب، يُدوّن، يشك.
وعندما أحب فتاة في سنّ المراهقة، راقب من يُعجبون بها، وحين ضحكت في وجه صديقه، انسحب للأبد، مقتنعًا أنها خانته… حتى قبل أن تبدأ القصة.
ولمّا كبر، أصبح مهندسًا… لا لشيء، إلا لأن البناء الوحيد الذي يمكن السيطرة عليه هو الخرسانة.
أما الناس، فعالمٌ هشّ، لا يُعوّل عليه.
ثم جاءت سارة.
امرأة كأنها خرجت من كتاب لا يفهمه.
عفويتها كانت تربكه، وبهجتها تزعجه، لكنه أحبّها كما يُحبّ المهندس تصميمًا جريئًا… يتمنى لو صمّمه بنفسه.
وفي أول خلاف بينهما، لم يصرخ.
بل كتب.
"22:13 – رفعت صوتها أكثر من المعتاد – هل تمارس هذا مع غيري؟"
كل مرة كانت تغيب عن عينيه، يغيب معها الأمان.
كل مرة تضحك، يتساءل إن كانت تضحك على سذاجته.
ومع الوقت، أصبح زواجهما يشبه مبنى من الخارج متماسك… لكنه من الداخل يتآكل.
شقوق في الجدار
لم يكن الضابط نوري يثق بالجنون.
بالنسبة له، كان القاتل قاتلًا، مهما تلطّى خلف المصطلحات الطبية أو المرافعات العاطفية.
لكنه، حين دخل بيت حسان بعد الجريمة، شعر بشيء مختلف… شيء يُشبه الندم وقد تكلّس.
الجدران لم تكن مجرد إسمنت.
كانت خرائط.
خطوطٌ بالأقلام، دوائر، سهام، ملاحظات مكتوبة على الحواف.
كأنه لم يكن يعيش في شقة، بل داخل دماغه.
وجد دفترًا قرب الطاولة، مغلَّفًا بالجلد الأسود.
فتح الصفحة الأخيرة، فقرأ:
"حين تبتسم الجدران، اعلم أنك وصلتُ إلى الجنون."
هزّ رأسه. أغلق الدفتر.
نظر حوله، كأن البيت قد نطق، لكن بصمتٍ قاسٍ.
"لا أحد يُجن فجأة"، فكّر. "بل الجنون مثل الماء… يتسرّب، قطرةً قطرة، في الشقوق التي نغفلها."
في المصحة النفسية، كان الدكتور مراد يراجع ملف حسان للمرة العاشرة.
صور الأشعة، رسومات من الجلسات، تقارير الممرضين… كلها تؤكد تشخيصًا حادًّا: بارانويا متقدمة مع مؤشرات ذُهانية.
لكن مراد، بخلاف الضابط، لم يكن يبحث عن "المذنب".
كان يبحث عن "النداء الضائع".
أعاد قراءة ما كتبه حسان على الحائط في إحدى نوبات الهذيان:
"الجدران تنصت… لكنها لا تحذر أحدًا."
كم مرة قالها حسان؟ كم مرة طلب النجدة بلغة لا تُفهم؟
كان هناك في كلامه رموز. إشارات. حتى في سلوكه الغريب، كان يحاول أن يقول شيئًا… أن يُشير إلى شرخٍ داخلي يزداد عمقًا كل يوم.
كان مراد يعلم أن المجتمع لا يُنصت لهؤلاء.
من يتحدث عن شكوكه، يُتهم بالمبالغة.
من يطلب المساعدة، يُقال له: "شدّ نفسك، كن رجلًا."
والآن… كانت سارة تحت الأرض، وحسان في زنزانة مبطنة بالإسفنج.
في تقريره الأخير، كتب الطبيب:
"حسان ليس وحشًا. بل هو بناءٌ شُيّد فوق خوف قديم، وتصدّع بصمت.
لم نسمع صوته حين كان يهمس، فاضطر للصراخ… ثم للضرب."
أما الضابط نوري، فأغلق الملف وهو يتمتم:
"لو أن أحدًا قرأ الجدار قبل أن ينقضّ… لربما بقي الطابق الأخير."
الطابق الأخير
لم يكن في الغرفة شيء سوى الجدران.
لا نوافذ، لا ساعة، لا ظلّ يتحرّك.
لكن حسان لم يكن يرى الجدران فقط… بل شيئًا آخر، كأنه يعيش داخل تصميمٍ لم يُكتمل بعد.
في رأسه، كانت العمارة شاهقة.
كل طابق فيها يحمل ذكرى، شُرفة معلّقة، صدى ضحكة، خطأ في القياس.
يصعد السلالم حافيًا، يشعر بخشونة الخرسانة تحت قدميه، يضع يده على الجدار وهو يصعد، كما لو كان يتحسّس عمره حجرًا حجرًا.
وفي كل طابق، يرى سارة.
مرةً تضحك،
مرةً تبكي،
مرةً تُدير له ظهرها وتمشي في الممر الطويل دون أن تلتفت.
يصعد أكثر.
أصبح الهواء أرقّ.
الضوء شاحب.
صوت المطر بعيد، كأنه ذكرى لا تمطر.
وفي الطابق الأخير…
وجد نفسه وحيدًا.
كانت الغرفة واسعة، بلا سقف.
الجدران نصف مكتملة، مفتوحة على سماء رمادية.
في الزاوية، مكتب رسم.
وعليه خريطة… لكنها هذه المرة ليست لمبنى.
بل لقلب.
قلب مشروخ، محفور عليه اسم "سارة"، يتفرّع منه خطوط… كل واحدة تنتهي بكلمة:
"ظنّ" – "صمت" – "انتظار" – "ضرب" – "نهاية".
اقترب، سحب قلم الرصاص، وبدأ يُعيد رسم القلب…
كأنّه يحاول إصلاحه.
لكن الخطوط لا تستقيم.
كلّما عدّل زاوية، انحرفت أخرى.
كلّما محا شقًّا، ظهر شرخ جديد.
توقّف.
ألقى القلم.
ورفع رأسه نحو السماء المفتوحة.
همس لنفسه:
– "ربما لم تكن المشكلة في الخرسانة… بل في المهندس."
في المصحة، يستفيق حسان فجأة.
يهمس للممرّض الواقف:
– "لا تصعد إلى الطابق الأخير… لا شيء هناك سوى الهواء."
يبتسم الممرض برفق، يعدّل الغطاء عليه.
ويمشي بعيدًا.
#محمد_بسام_العمري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟