|
وقّع بالقلم الرصاص (خارج الإرث، داخل النسب)
محمد عبد القادر الفار
كاتب في الفضاء والمعنى
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 8454 - 2025 / 9 / 3 - 16:01
المحور:
الادب والفن
في عام 1969 ولد اسم لا يخص أحداً بعينه: Alan Smithee ظهر لأول مرة على فيلم Death of a Gunfighter بعد أن تعاقب على إخراجه وخرجان، كل واحد منهما فضل أن يُمحى توقيعه بدل أن يرتبط بعمل خرج من يده مشوها. هكذا اخترعت نقابة المخرجين الأمريكيين اسما مستعارا يستخدم حين يصير الانسحاب أصدق من التوقيع. لم يكن الأمر شائعا على نطاق واسع لكنه تحول إلى علامة: رمز لحق المؤلف في أن يغيب عن عمله. لذلك لم يكن غريبا أن نجد لاحقا مخرجا مثل ديفيد لينش يترك اسم الان سميثي يحل مكان اسمه في النسخة التلفزيونية من فيلم Dune حين فقد الفيلم ملامحه الأصلية ولم يعد يعكس رؤية لينش نفسه. الاسم نفسه صار نوعا من الأسطورة لا مجرد غطاء قانوني، بل استعارة جاهزة لفكرة أن الغياب أحيانا أكثر حضوراً من أي توقيع. وكأن الفيلم الذي ينسب إلى سميثي صار بلا أب، أو كأن الأب نفسه فضل أن يُمحى أثره بدل أن يوقع على شيء مشوه. هنا نفهم أن الاسم ليس مجرد بطاقة تعريف بل علاقة معقدة بين هوية المبدع وصورة العمل النهائي، علاقة قد تصل إلى حد الانفصال التام. وعلى المستوى الأقل وهجا، كان هناك مخرجون في الثمانينيات والتسعينيات يمررون أفلاما تلفزيونية تجارية عبر هذا الاسم نفسه، كأنهم يتركون أعمالهم في غرفة جانبية مظلمة ويخرجون بلا رجعة.
وفي الأدب، فعل ستيفن كينغ شيئا مشابها حين كتب بأسماء مستعارة مثل ريتشارد باشمال، ليختبر كيف تستقبل كتبه إلى تحررت من ثقل اسمه اللامع، وكذلك بسبب الحدود التي تضعها دور النشر بخصوص نشر أكثر من كتاب واحد للكاتب نفسه في السنة. وظل القناع قائما إلى أن جاء ناقد اسمه ستيف براون وكشف الصلة بين الاثنين عام 1985. لم ينكر كينغ بل اعترف وجمع روايات باشمان في كتاب واحد بعنوان The Bachman Books وكتب في مقدمته نصا لافتا سماه Why I was Bachman كأنه يعري القناع من الداخل ويحوله إلى جزء من سيرة المؤلف بدل أن يكون مجرد حيلة تجارية.
فرناندو بيسوا ذهب أبعد من الاسم المستعار العادي وابتكر ما سماه “أسماء غيرية” heteronyms وهي شخصيات كاملة لها تواريخ ميلادها وأساليبها وأصواتها الخاصة. كتب كشاعر اسمه ألبرتو كاييرو مثلا، والذي يؤمن بالطبيعة المباشرة بلا ميتافيزيقا، ثم عاد وكتب كألفارو كي دامبوس، المهووس بالصناعة والحداثة، وريكاردو ريس الكلاسيكي الرزين. هؤلاء لم يكونوا أقنعة بسيطة، بل ذوات متكاملة تتجادل فيما بينها، وكأن بيسوا لم يعد مؤلفا واحدا بل مسرحا داخليا يقيم فيه أكثر من شاعر. رومان غاري أيضا تنكر في هيئة إميل آجار حتى فاز بجائزة غونكور مرتين متتاليتين، مرة باسمه الحقيقي ومرة باسمه المستعار! وقبلهم هناك كيركيغارد الذي أشرت إليه في مقالات سابقة وكيف جعل من الاسماء المستعارة مختبرا فلسفيا حين يكتب بها ضد نفسه ليختبر تماسك أفكاره في مواجهة نقد متخيل.
في الفنون السردية يمكن للكاتب أن يغير اسمه أو ينسحب تاركا النص يتكفل بنفسه، أما في العمارة فلا يمكن للتوقيع أن يتبخر كما في السنيما والأدب، فالتوقيع ليس زخرفة بل التزام قانوني وأخلاقي وختم مسؤولية، لذلك لا يوجد في هذا الحقل معادل مباشر لآلان سميثي. ومع ذلك، يتسلل معنى الانسحاب بثغرات أو طرق جانبية، وإن كانت أكثر التواء: حين تنقسم الأدوار بين معمار تصميم ومعمار سجل (يضع توقيعه على المخططات ليمنحها صفة رسمية)، وهكذا يتحول الاسم إلى إجراء لا إلى أثر إبداعي، ويصبح التوقيع أشبه بواجهة زجاجية تلمع لكنها لا تكشف ما بداخلها. أو حين يعيد الممول والمقاول تشكيل المشروع عبر ما يسمى تخفيض الكلفة، وحين تحجب الاسماء الفردية تحت علامة الشركة، أو حين تستبدل التفاصيل الدقيقة في الورق بتفاصيل مختلفة في الموقع، فيصير المبنى كيانا يعلو على مقاصد من رسمه. هنا يتسع الفارق بين النية (بما فيها الكونسيبت) والنتيجة، بين المخطط والواقع، وتظهر فسحة يفقد فيها التوقيع بعض سيادته من غير أن يتلاشى. كأن العمارة تسمح بغياب جزئي فقط، غياب يترك أثرا لا يمكن محوه تماما، مثل لحن يستمر بعد أن يغادره قائده المنصة. هناك أيضا ذلك العميل الذي يصر على ذوقه الخاص ويدفع ثمنه، هذا العميل قد يفرض على المعماري أن يساير رغبات تقوض المنطق الجمالي أو حتى الوظيفي. هنا ينجز المعماري العمل ليعيش، لكنه يترك المبنى طفل غير مرغوب فيه، ولا يملك الشجاعة أن يعلن نسبه إليه. وفي خلفية المشهد يظهر وجه آخر أكثر صمتا: الموظفون الشباب الذين يكدحون في مكاتب كبرى، يصممون التفاصيل ويبتكرون الحلول، ثم ترفع أعمالهم باسم رئيس معماري واحد. هذه الأشباح غير المرئية تشكل كتاب الظل: يعملون بصمت كي يلمع توقيع غيرهم. المفارقة أن المبنى في النهاية قد يحمل اسما واحدا فوق مدخله بينما يعيش داخله صخب عشرات الأيدي التي ظلت بلا توقيع.
المبنى في النهاية ليس مجرد حجارة، بل نص يُعزف، أحيانا يتردد صداه كجملة كلاسيكية من شتراوس، رشيقة لكن مقيدة بإبداع لا يرحم، وأحيانا يتفتت إلى نبرات متقطعة تشبه ديبوسي حين يكتب الضباب أكثر مما يكتب النغم. العمارة هنا أقرب إلى مسرح صامت، يتبدل فيه الضوء مع حركة الشمس، وتتحول الواجهة إلى ستارة تفتح وتغلق، فتسمح للمشهد أن يتغير من دون أن يتغير النص. وفي هذا المسرح يصبح التوقيع أقل وضوحاً: من الذي كتب هذا المشهد أصلا؟ المعماري الذي خطط؟ المقاول الذي بدّل؟ الزبون الذي أصر؟ أم الأشباح التي عملت بصمت خلف الكواليس؟ كأن المبنى نفسه يتنصل من نسبته ويعيش مثل شخصية تبحث عن مؤلف، مكتفيا بأن يكون قائما على الخشبة، حتى لو محا اسمه من البرنامج.
بيت البحيرة في فيلم The Lake House مثلا لم يكن مجرد سكن، ولا مجرد هدية من المعمار الأب إلى زوجته، بل توقيع معماري مقيد. وهو كادر سنيمائي قائم بذاته: واجهة زجاجية شفافة تطفو على أعمدة فوق الماء، كأنها فصل مسرحي كامل في عمارة مؤقتة، فالمبنى يبدو مهيأ للعرض أكثر من العيش: تصميمه البارد يضع من يسكنه في مواجه ذاته كما في مرآة، فلا جدران تحمي ولا ظلال تخفي. هنا تتجسد فكرة التوقيع المعماري بأوضح صورها، فالأب ترك البيت كتوقيع معلق على سطح الماء، أثرا معماريا يتحدى الطبيعة ليقول “كنت هنا”. لكن التوقيع يتحول إلى عبء حيث يرثه الابن. الشفافية التي قصدها الأب كتجسيد للفن تصبح سجنا بصريا للساكن حيث كل حركة فيه مكشوفة وكل ذاكرة مرسومة على الزجاج. صندوق البريد عند المدخل يكمل المشهد، فهو ليس مجرد أداة وظيفية، بل آلة زمنية تنقل الرسائل بين لحظتين متباعدتين. وكأن البيت نفسه، بواجهته الشفافة وصندوقه الحديدي الصغير يعلن أن العمارة قادرة على أن تحبس الزمن مثلما تحبس الجسد، وأنها لا تسجل حضور ساكنيها، بقدر ما تخضعهم لظل توقيعها الأول.
البيت الزجاجي على بحيرة المياه يغدو بمثابة نوتة موسيقية معلقة في الفضاء، تُعزف بالتساؤلات أكثر مما تعزف بالأجوبة. إنه مصنع للحن مفقود. بناؤه الشفاف المصنوع بأوامر الأب (وهو معمار نجح عبر سنوات وشهد له المجتمع) يمنح الابن واجهة لا تسكت. الأب شخص صارم وساع إلى الكمال، كان يقيس النجاح بعدد التصاميم المحسوبة بدقة، يراقب الإضاءة كما يراقب توقيع حفلة موسيقية، يوزع الأدوار بين البناء والخطوة وكأنها عناصر سيمفونية معمارية. الابن دخل اللعبة متأخرا نسبيا، وبدل أن يعلن نفسه، انغمس في ظل الأب، في قرارات استمرارية تتراوح بين الإخلاص والتمرد الصامت.
داخل هذا البيت، يتبدى العمل كلازمة ديبوسية: ضوء خافت يداعب الزجاج، وينسل عبر الفراغ وكما لو أن الأب يحضر تعليماته من فراش رحيله، يسلم الاب الابن قبيل موته مفتاح الضوء، ليس بالمعنى المباشر، بل عبر وصية عاطفية: راقب كيف يلتقط النور الزوايا، وكيف تحول الإضاءة الصوت الروحي للمساحات. هذه لم تكن نصيحة تقنية بل عزف أخير من الأب الذي لا يريد أن يُنسى اسمه، ولكنه يمنح الابن الإرث وفقا لكتابته الخاصة.
وفي أحد حوارات الفيلم، يتذكر المعماري الابن كيف صارحه الأب بأن العظمة لا تبنى فقط بالحجم، بل بالتوقيتات والتعبيرات الصادرة عن تفاصيل المكان. فالزاوية التي تضيء فيها في الوقت المنساب تجعل المبنى يختبئ في ذاكرة العابرين. وكذلك فإن المسارات الصوتية المصاحبة للفيلم نفسه في الخلفية (وهي لراشيل بورتمان) تعزف على كثير من المشاهد كلحن حالك يلتصق بالزمن ويقوده.
منزل البحيرة كان في النهاية مرآة لصراع داخلي، ليس فقط بين حاضر وغائب بل بين إرث ووريث. فالأب معماري صارم وناجح بمقاييس السوق والجوائز. كانت له معاييره الدقيقة للجدارة وكان يقيس حياة ابنه بمدى التزامه بتلك المعايير. ورغم أن نصائحه لابنه وهو على فراش الموت عن الضوء وروح المكان كانت أشبه بفلسفة حياة أراد أن يورثها إلا أن الابن لم يجد نفسه في تلك الحالة، لأنه رأى فيها قيدا وقسوة، فظل أسير ظل لا يسمح له أن يكون مؤلفا حقيقيا.
بعد رحيل الأب، ترسل حبيبة الابن إليه كتيبا مصورا يجمع إنجازات الأب كبورتفوليو أنيق يعترف بأهميته، وكوثيقة رسمية لسيرة معمارية حافلة. يصل الكتاب إلى الابن ضمن الفجوة الزمانية بينه وبين حبيبته، وهنا يتضاعف المعنى: فتوقيع الأب صار كتاباً، أثراً يوثق أعماله، لكنه أيضا عبء إضافي على الابن الذي لم يستطع بعد أن يضع اسمه بجانبه. والصندوق الحديدي عند مدخل البيت يتحول إلى مسرح للتواقيع المتأخرة. فمن يملك الحق في نسب هذا الإرث؟ ومن يعيش بثقله؟ ومن يحاول أن يعيد كتابته ببطء؟
العمارة كما ذكرت سابقا لا يمكن أن تستخدم أسلوب آلان سميثي حرفيا وإن كانت تعرف جيدا وجوها أخرى للغياب كالتي ذكرتها من متطلبات إجراءات ومقاول وزبون وجنود مجهولين وغيره. ولكن هناك أمثلة أخرى. فأبنية العصور الوسطى كثير منها حمل الغياب إلى أقصاه، فهناك كاتدرائيات قوطية ضخمة لا نعرف أسماء من خططوها. وهناك الكثير من المشاريع القومية الأحدث مثل كاتدرائية القديس بطرس في روما تشهد على هذا المحو المتدرج، برامانتي بترك ماكنه لرافائيل، ثم مايكل أنجلو، ثم آخرين. كل واحد منهم يضيف ويغير ويمحو أثر سابقيه أحيانا. النتيجة مبنى بلا مؤلف واحد، نص معماري كتبته سلسلة من الأيدي. وفي حياتنا اليومية هناك مبان تجارية وسكنية تمر عبر مكاتب خدمات شبه مجهولة تشبه الأفلام التلفزيونية الرديئة التي حملت توقيع سميثي: منجزة لتفي بغاية محدودة، لكنها بلا أب فخور.
وأنت نفسك صديقي قارئ المقال هل تعرف بالضرورة من صمم منزلك؟ سواء كنت في شقة سكنية أو حتى في بعض الحالات في بيت مستقل!
وإذا كانت العمارة تعكس هوية مبدعها عبر مادتها فإن السنيما المعاصرة قدمت صورا أخرى أشد قتامة لذات الفكرة. ففي Synecdoche, New York يحاول المخرج كايدن كوتارد أن يترك عملا مطلقا، مسرحا داخل مسرح داخل مسرح، مشروعا بلا نهاية يستهلك حياته. هنا يصبح التوقيع لعنة: فكل محاولة لوضع الاسم على العمل تكشف هشاشته أكثر، حتى يضيع المؤلف نفسه بين طبقات تمثيل لا نهاية له. والتوقيع الذي كان يفترض أن يضمن حضوره ينقلب إلى عملية محو بطيء، كأن المؤلف انسحب وهو يكتب نفسه إلى العدم.
أما عباس كيارستمي في Certified Copy فيضع المتفرج أمام سؤال صريح: هل الأصل أكثر قيمة من النسخة؟ وهل التوقيع يجعل العمل أكثر صدقا من صورته المستنسخة؟ هنا يتبدى أن النسخة قد تملك حياة خاصة، لحظة صدق لا تكرر في الأصل نفسه. وما يظهر على أنه تلاعب شكلي هو في عمقه تفكيك لفكرة أن العمل يحتاج دائما إلى اسم يؤصله. تلك الأعمال وغيرها يظهر فيها كيف يصبح الغياب عن التوقيع استراتيجية عوضا عن أن يكون مجرد انسحاب، استراتيجية ترك المتلقي يبني علاقة مع الموضوع من دون وسيط، أو أن يوقع هو بنفسه ويصير شريكا في السرد من خلال التذوق، لا مجرد متفرج أو قارئ أو مستخدم سلبي!
وبالعودة إلى فيلم The Lake House نفسه فهو كان أصلا نسخة معادة remake ولكن رائعة جدا عن فيلم كوري هو Il Mare، فنحن أصلا أمام فيلم عن بيت يلاحق إرث الأب، لكنه في حد ذاته فيلم مستعار من فيلم آخر!
إن كل توقيع فني يتجاوز جمالياته ليصير مسؤولية، وفي العمارة يظهر ذلك على أوضح ما يكون. فاسم المعماري على المخططات لا يعني الاعتراف فقط بل يعني تحمل المسؤولية liability. لذلك فإن توزيع التصميم على أكثر من يد لا يوزع الجهد فقط بل يوزع المسؤولية أحيانا (وإن كان انكار الاعتراف ثمنا في بعض الحالات للإعفاء من المسؤولية). المبدع هنا لا يملك حرية مطلقة كما في رواية أو قصيدة، بل يعمل ضمن شبكة من القيود: مقاولون، موردون، سلاسل إمداد supply chains تقدم مقاطع جاهزة تفرض شكلها على المشروع، بل حتى برامج تصميم تحدد كيف يتم إخراج التفاصيل، وهي كلها workflows يضبطها السوق والوقت والميزانية. والنتيجة هي أن السؤال “من هو المؤلف؟” لا يعود واضحا. ففي بعض الحالات لا يعود المعماري وحده، بل يصبح التأليف موزعا بينه وبين سلاسل إمداد وبرامج وغيرها!
وهذه المعضلة تتسع أكثر مع دخول الذكاء الاصطناعي. ففي السنيما والأدب يمكن للمؤلف أن يختبئ خلف اسم مستعار. لكن في العمارة المستقبلية قد يختبئ خلف prompt. الذكاء التوليدي لا يكتب من فراغ لكنه يعيد تركيب ما تلقاه (في بعض الحالات منك ومن غيرك) ليمنح صورة جديدة تحمل أثر آلاف التواقيع المجهولة. وفي لحظة ما، قد يصير الإبداع ليس في الرسم أو الفكرة المعمارية نفسها، بل في صياغة السؤال للآلة، في تصميم الأمر prompt الذي يفتح نافذة لم تكن ممكنة من قبل. هنا يصبح التوقيع أكثر ضبابية: فمن صاحب الفكرة الآن؟ هل هو ذلك الذي أدار الخوارزمية، أم ملايين المجهولين الذين قاموا بتغذيتها؟
وبين السمعة التجارية التي تحتاج توقيعا لسويق العمل، والإرث الفني الذي يحب أحيانا أن يترك بلا اسم كي يعيش في استقلالية، وفي أحيان أكثر يحب أن يظهر ليحقق ذات المبدع أمام الجمهور، يقف المبدع اليوم أمام خيارين: أن يثبت نفسه على الحجر (أو الشاشة) كاسم لا يمحى، أو أن يوزع أثره بحيث يصير جزءا من شبكة لا اسم لها. وهذا التناقض هو بالضبط ما يجعل مسألة التوقيع، في زمن سلاسل الإمداد والبرامج والذكاء الاصطناعي، أكثر إلحاحا من أي وقت مضى.
ثمة حكاية غنوصية قديمة تروي أن صانع العالم نفسه لم يجرؤ على أن يضع اسمه على ما أبدع، حين نظر إلى ما خرج من يده امتلأ بالندم، ورأى الشر يتسرب إلى كل زاوية. ففضل أن يتنكر، تارة في صورة إله أعلى وتارة في هيئة أدنى، وأحيانا كشيطان أو ديميورج يعبث بالخلق، ليس لأنه يريد أن يعظم، بل لأنه لم يعد راغبا في أن يعرف بعمله. العالم صار بالنسبة له مثل نص مشوه، نسخة ناقصة، نسخة لا يريد أن يوقعها. كأنه صانع يترك لوحته في العراء ويغيب اسمه، أو معماري يبني بيتا ثم يختفي قبل أن يضع لوحة الرخام على واجهته.
تلك الاستعارة القديمة تشبه قلق المبدع: الخوف من أي يتحول العمل إلى مرآة للرداءة لا للعبقرية. فبدلا من أن يظل الاسم قرينا لما صنع، يتوزع على أقنعة متعددة، يتهرب من اللوحة إلى لوحة أخرى. من توقيع إلى توقيع آخر، حتى لا يبقى له أثر واضح يمكن تعقبه. وكأن الانسحاب هنا ليس ضعفا، بل استراتيجية بقاء: أن يترك العمل لمصيره، بينما يتوارى صانعه خلف ستائر مختلفة.
قد يكون العالم ضمن تلك الأسطورة أكبر نسخة مجهولة المؤلف: مسرح شاسع نلقى فيه دون أن نعرف من كتب نصه أو إن كان كتب أصلا. نشعر أحيانا أننا نعيش داخل عمل لم يوقّع، أو أن التوقيع تاه بين أسماء وأقنعة، وبين مؤلف ينسحب ثم يعود باسم آخر. ونحن، كمتلقين، نتعامل مع هذا النص كما نتعامل مع أي أثر معماري او فني: نعيد تأويله، نسكته، نرتب أثاثه بطريقتنا. وإذا كان المبدع قد تبرأ من عمله فإننا نصبح المؤلفين الجدد، من خلال قراءتنا له.
وفي النهاية، ربما قيمة العمل لا تقاس بما يصر صاحبه على ان يوقع عليه، بل بما يتركه فينا من أثر. توقيع الفنان قد ينسحب أو يتوزع أو يتنكر، لكن لحظة التلقي، عندما يدخل الضوء غرفة ما، أو حين يصدفنا مشهد يربكنا، أو جملة تهز ذاكرتنا، تصبح هي التوقيع الحقيقي.
وكأن المبدع، سواء كان معماريا أو كاتبا أو موسيقيا أو صانع صور، لم يكن يملك منذ البداية سوى أن يترك فراغا نتكفل نحن بملئه.
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هندسة الإنكار (داخل الكتيش، خارج الأثر)
-
هندسة الكشف (خارج النية، داخل الانبثاق)
-
لا تعبث بالكونسيبت (خارج البورتفوليو، داخل الاستعارة)
-
أعرب هذا المبنى (خارج الإدراك، داخل الاشتقاق)
-
افتح الكتالوج (خارج اللعبة، داخل الخطة)
-
خرائط لا تعترف بنا (خارج المركز، داخل الزقاق)
-
لا تدخل هذا الحيّز (خارج البنيان، داخل المقام)
-
لستُ جاهزاً بعد (خارج الرقعة، داخل التاريخ)
-
أين ذهبت بوهيميتي؟
-
أكملي الدور (خارج النص، داخل الصورة)
-
الجوكر في عين المخرج
-
حين تعود الدببة: عن الانهيار الحضاري الوشيك
-
لحم رقمي: وعي بلا دم
-
في البدء كانت الموسيقى: رحلة في طقوس الغناء ومقدساته
-
قبر اليراعات في غزة
-
الإيمان عند كيركيغارد: بلا وسادة
-
حين تهمس النجوم: من بيتكوين إلى مقياس كارداشيف
-
الأناركية الفردية سوف تخفي الذهب تحت البلاطة، فوق الدولة
-
ميم: رواية بضمير مستتر
-
الإيقاع الحلال: ماذا لو جاز الجاز؟
المزيد.....
-
شاهد..من عالم الأفلام إلى الواقع: نباتات تتوهج في الظلام!
-
مقاومة الاحتلال بين الكفاح المسلح والحراك المدني في كتاب -سي
...
-
دور الكلمة والشعر في تعزيز الهوية الوطنية والثقافية
-
لا شِّعرَ دونَ حُبّ
-
عبد الهادي سعدون: ما زلنا نراوح للخروج من شرنقة الآداب القلي
...
-
النّاقد السّينمائي محمد عبيدو ل “الشعب”: الكتابات النّقدية م
...
-
الرّباط تحتضن عرض مسرحيّة (البُعد الخامس) لعبد الإله بنهدار
...
-
والدة هند رجب تأمل أن يسهم فيلم يجسد مأساة استشهاد طفلتها بو
...
-
دواين جونسون يشعر بأنه -مُصنّف- كنجم سينمائي -ضخم-
-
أياد عُمانية تجهد لحماية اللّبان أو -كنز- منطقة ظفار
المزيد.....
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
-
. السيد حافظيوميات رجل مهزوم عما يشبه الشعر رواية شعرية مك
...
/ السيد حافظ
-
ملامح أدب الحداثة في ديوان - أكون لك سنونوة-
/ ريتا عودة
-
رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع
/ رشيد عبد الرحمن النجاب
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
المزيد.....
|