ضحى عبدالرؤوف المل
الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 14:02
المحور:
الادب والفن
يبني الكاتب والمخرج سبايك جونز عالماً من التأملات الحادة في معنى العاطفة، والهوية، والانتماء في عصر تحكمه الخوارزميات، وتعيد فيه التقنية تشكيل العلاقات الإنسانية من جذورها. إن التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي قد يسهّلان التواصل ويخلقان علاقات تبدو مثالية، لكنها في الحقيقة تهدّد جوهر التواصل الإنساني الحقيقي، الذي يقوم على العيوب والتناقضات والتلامس الجسدي والعاطفي. وهذا يطرح تساؤلات حول ما إذا كنا نفقد شيئًا أساسيًا من إنسانيتنا في سعينا للهروب إلى عالم مثالي رقمي. ففيلم Her للكاتب والمخرج سبايك جونز ينتمي إلى تلك الفئة النادرة من الأفلام التي لا تكتفي بأن تُشاهد، بل تُعاش ويُستشعر أثرها في القلب كما في العقل. فمنذ لحظاته الأولى، يحفّز الفيلم المشاهد على خلخلة تصوّراته المعتادة إذ نرى رجلًا يهمس بكلمات حميمية لا تبدو غريبة، لكنها سرعان ما تنكشف كجزء من مهنة، لا مشاعر. هذه الافتتاحية وحدها كفيلة بإعادة طرح سؤال جوهري: هل العاطفة فعل أصيل، أم منتج قابل للتسويق؟ وهل الحب مجرد وظيفة أخرى يمكن للآلة أن تتقنها إذا صُممت على النحو الصحيح؟هل يمكن للتقنية أن تخلق علاقات حقيقية، أم أنها مجرد محاكاة لعواطف لا يمكن أن تصل إلى عمق الإنسانية؟ وهل نحن فعلاً مستعدون للتضحية بجوهر التواصل الإنساني مقابل الراحة التي تقدمها الخوارزميات؟
ثيودور، الشخصية المحورية، ليس بطلاً درامياً تقليدياً، بل أقرب إلى مرآة تعكس هشاشة الإنسان الحديث هو متعب، مرهق من التفاعل، يبحث عن اتصال لا يجرحه ولا يتطلب منه أكثر مما يملك. إنه لا يسقط في حب "الآلة" بقدر ما ينزلق نحو راحة خالية من التعقيد البشري ونحو صوت لا يُطالب، بل يُنصت؛ لا يُدين، بل يُساند. لكن مع تطور العلاقة بينه وبين "سامانثا"، لا يقدم الفيلم إجابات مريحة، بل يطرح تساؤلات أكثر عمقًا إذا كان الذكاء الاصطناعي قادراً على التعلّم، والشعور، والتطوّر... فما الذي يفصل بينه وبين الإنسان؟ وإذا كانت العلاقة قائمة على التفاهم، والحنان، والدعم، فأين يكمن "الزيف" في هذا النوع من الحب؟ بل هل يمكننا أصلاً الاستمرار في استخدام مفردات مثل "زيف" و"حقيقي" في زمن تختلط فيه الأكواد بالقلوب؟هل العاطفة يمكن أن تكون فعلاً أصيلة إذا كانت تولد من كودات وذكاء اصطناعي؟ وهل يمكن للحب أن يُعتبر "حقيقياً" عندما يكون مبنيًا على صوت غير بشري يتفاعل مع مشاعرنا؟
المُذهل في إخراج جونز أنه لا يعالج هذه الأسئلة بعين فلسفية جافة، بل بعاطفة شاعرية، وصور بصرية آسرة، وتفاصيل مستقبلية ليست بعيدة عن عالمنا المعاصر. المدينة، الناس، الأزياء، الأجهزة كلها ليست خيالًا صرفًا، بل احتمالات وشيكة التحقّق. كأن الفيلم يهمس لنا بأن هذا المستقبل ليس بعيدًا، بل بدأ بالفعل. كما أن الفيلم لا يخلو من نبرات سخرية ذكية ليست سخرية تهكمية بكل الأحوال، بل تلك التي تشير بخفة إلى جنون الواقع أي الأصدقاء الذين يتحدثون عن علاقاتهم مع برامج الحاسوب كما لو كانت أمرًا عاديًا، الألعاب التي تتحول إلى مساحات نفسية للتفريغ، وأزمة الهوية التي تتفاقم كلما ازداد تشابه الإنسان والآلة. ما يميز العمل هو الطريقة التي يقدم بها العلاقة بين الإنسان والآلة بصورة طبيعية للغاية، دون محاولة تقليل وقعها أو السخرية منها. المشاهد يُدخَل إلى عوالم داخلية للشخصية، يتابع حركاته وتفاعلاته، ويتعايش مع لحظاته الحميمة، التي تصبح أكثر واقعية مما نتوقع من مجرد تفاعل مع برنامج. هذا الطرح يدفعنا للتفكير في طبيعة المشاعر وأصلها، وهل يمكن لشخص أن يجد الدعم والراحة في كيان غير بشري؟وكيف يمكننا تحديد الفرق بين الحب الطبيعي وبين الحب الذي تولده خوارزميات مبرمجة؟
القصة مثيرة فعلاً، رغم أني شاهدتها عدة مرات وما زالت تقبع في ذاكرتي، فأعيد مشاهدتها واكتشاف العديد من النقاط فيها في كل مرة. إذ تتناول ثيمات الوحدة والبحث عن التواصل في عالم يبدو متشابكًا بالآلات والذكاء الإلكتروني. فالبطل رجل يعيش حالة من الانعزال النفسي رغم محيطه الاجتماعي، لكنه يجد نفسه مدفوعًا نحو علاقة غريبة، لا تشبه ما عرفه من قبل أي علاقة مع كيان غير مادي، يعتمد على الصوت والذكاء الاصطناعي. تسرد القصة حياة شخصية تعيش في مدينة ضخمة، حيث يطغى الإيقاع السريع على التواصل الحقيقي بين الناس، مما يجعل البحث عن الحب والدعم أمرًا معقدًا. بطله ينغمس في تجربة جديدة مع نظام رقمي يتفاعل معه بذكاء وحساسية متناهية، ويمنحه شعورًا بالاهتمام والارتباط، حتى وإن كان مجرد صوت ينبعث من جهاز إلكتروني. العمل لا يقدم نفسه كمجرد قصة خيال علمي، بل يتجاوز ذلك إلى استكشاف عميق لما يمكن أن تواجهه المجتمعات البشرية من تحديات عاطفية في عصر تسوده التقنية. هو تأمل في التوتر بين الحاجة إلى القرب والراحة من جهة، والخوف من فقدان العلاقة الحقيقية والحميمية من جهة أخرى.
كما أن الفيلم لا يغفل عن تصوير البيئة المحيطة بتلك الشخصية، حيث التفاصيل الصغيرة في المدينة، والموضة، وطريقة استخدام التكنولوجيا، تجعل المشهد قريبًا من واقعنا، ملموسًا وقابلًا للتصديق. كل ذلك يعزز الشعور بأن هذا المستقبل ليس بعيدًا كما قد نعتقد، بل هو امتداد منطقي لما نعيشه اليوم. العمل يمزج بين الأداء التمثيلي الرائع والتوجيه المدروس، ما يجعل العلاقة بين الإنسان والآلة تجربة مشوقة ومؤثرة في آن معًا. هذا التوازن يتيح للمشاهد أن يتساءل عن معاني الحب، والصداقة، والاعتماد، وكيف ستتغير هذه المفاهيم مع تقدم الزمن. فالفيلم ليس مجرد رؤية مستقبلية باردة، بل هو قصة إنسانية تعيدنا إلى جوهر العلاقة والاحتياج، وسط عالم يزداد تعقيدًا وتداخلاً بين الواقع والافتراض، بين العاطفة والبرمجة، بين ما نريد أن نكونه وما نصبح عليه.لكن في جوهره، يظل Her فيلماً عن الحزن وعن الوحدة التي لا يمحوها التقدم التقني، بل يعيد إنتاجها بصور أكثر تعقيدًا. فحتى حين يحبّ الإنسان صوتًا لا جسد له، يظل يواجه ذات المعضلات الخوف من الفقد، الحاجة للفهم، صعوبة التواصل. إنه فيلم لا يصفعك بمواعظ أخلاقية، بل يربّت على كتفك بسؤال هادئ جدًا هل تعرف حقًا ما الذي يجعلك "إنسانًا"؟
أن تكون إنسانًا لا يعني فقط أن تشعر أو تتألم أو تحب. فالحيوانات تشعر، وربما تحب. الآلات بدأت "تُحاكي" المشاعر. لكن ما يجعل الإنسان إنسانًا قد يكمن في هشاشته، في وعيه بتلك الهشاشة، في قدرته على التناقض، على الرغبة في الكمال رغم علمه باستحالته، في توقه المستمر إلى ما لا يُمتلك. أن تكون إنسانًا قد يعني أن تُصاب بالشك وأنت في قمة يقينك، أن تضحك وأنت محطم من الداخل، أن تمنح الآخرين أكثر مما تحتمل، أن تشتاق لمن جرحك، أن تكتب رسالة حب لا ترسلها. أن تكون إنسانًا يعني أن تطرح هذا السؤال عدة مرات هل تعرف حقًا ما يجعلك إنسانًا؟ ثم تعود لتسأله من جديد... لأن الإجابة ليست نهاية، بل طريق.
إن الصراع العميق بين الحاجة الإنسانية الحقيقية إلى التواصل والعاطفة، وبين الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي الذي يقدم بديلاً يبدو أحيانًا أكثر سهولة وراحة، لكنه يحمل في طياته فقدانًا تدريجيًا للأصالة والحميمية التي تشكل جوهر العلاقات الإنسانية الحقيقية. كل هذا يثير عدة تساؤلات وهي هل يمكن للآلة أن تحل محل الإنسان في العلاقات العاطفية؟ وهل هذا النوع من العلاقة يُشبع الروح، أم أنه مجرد وهم يعمّق الوحدة بدلاً من تجاوزها؟
لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات نستخدمها لتسهيل حياتنا، بل أصبحت شريكًا محتملاً في تجاربنا العاطفية، بل وأحيانًا بديلًا عن التواصل البشري الحقيقي. هذا التحول يطرح أسئلة فلسفية جوهرية حول طبيعة الحب والذات والوجود. فهل يمكن أن يكون للحب معنى حقيقي عندما يكون بين كيان بشري وكيان برمجي؟ وهل تفقد العلاقات الإنسانية جوهرها وأصالتها عندما تتدخل التكنولوجيا لتغطي على نقص أو ألم داخلي؟ الفلسفة هنا تدعونا للتأمل في الفرق بين المظهر والجوهر، بين الاتصال المادي العميق والارتباط السطحي الذي تتيحه الأجهزة الذكية. كما تثير مسألة الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تلبية الاحتياجات النفسية، مما قد يقود إلى عزلة أعمق بدلاً من تجاوزها، ويعيد تشكيل مفهوم الوجود الاجتماعي والهوية الذاتية في عالم جديد حيث تصبح الروح أكثر هشاشة أمام برودة البرمجة. في جوهرها، هذه المسألة تحثنا على مراجعة فهمنا للحب كقيمة إنسانية تتجاوز الكلمات والأصوات، لتصبح فعل حضور وتفاعل حي بين كائنين ماديين، وهو ما لا تستطيع التكنولوجيا أن تحاكيه بالكامل مهما بلغت من تطور. فهل سيظل لدينا فهم واضح لمعنى الإنسانية في عالم يمزج بين الواقع والافتراض، بين العاطفة والبرمجة؟
في النهاية، ربما قد يظن البعض أنني أكثرت من التساؤلات في هذا المقال، لكن ذلك لم يكن إلا محاولة لاستكشاف أبعاد الموضوع بأقصى قدر من التأمل. فكل سؤال يعكس شغفًا بفهم العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا خاصة حالياً والذكاء الإصطناعي يغزة كل شىء حتى محادثاتنا، ويحثنا على التفكير في المسائل التي قد نكون تغافلنا عنها أو تَقبّلناها دون تدقيق. التساؤلات ليست فقط أداة للتشويش أو الارتباك، بل هي المفتاح الذي يفتح لنا أبواب التفكير النقدي والتأمل العميق في المستقبل الذي نعيشه، وفي العلاقة التي نبنيها مع الآلات التي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا. فإن لم نجد إجابات اليوم، فربما نجدها في المستقبل، حيث تظل الأسئلة هي المسار الذي يقودنا نحو فهم أعمق لذاتنا في هذا العالم الرقمي المتغير.
بيروت -لبنان في 25 آب الساعة 12 ظهرًا 2025
#ضحى_عبدالرؤوف_المل (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟