أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8445 - 2025 / 8 / 25 - 13:49
المحور:
الادب والفن
في شتاء عام 1849، حين كانت روسيا القيصرية تفرض قبضتها الحديدية على عقول أبنائها وأجسادهم، جلس فيودور دوستويفسكي في زنزانة رطبة ينتظر مصيره بعد أن أدين مع جماعة “البترشيفيين” بتهمة التآمر ونشر الأفكار الخطرة. كان شابًا في الثامنة والعشرين من عمره، يعيش بين رعب الموت ورجاء النجاة، وقد اقتيد بالفعل إلى ساحة الإعدام، رُبط إلى عمود أمام فرقة الرماية، وأُعلن الحكم بتنفيذه رميًا بالرصاص، قبل أن يتدخل القيصر في اللحظة الأخيرة بتخفيف العقوبة إلى النفي والسجن في سيبيريا. تلك التجربة المروّعة لم تفارق ذاكرته قط، بل صارت الينبوع الأعمق لفلسفته الأدبية، ومنحت نصوصه ذلك البعد المأساوي الذي ميّزها عن سائر أدباء جيله. وفي سجنه كتب على الجدار حكاية قصيرة، لكنها مشحونة برمزية جارحة، عُرفت بعنوان “الكاهن والشيطان”. لم تكن قصة للتسلية، بل إدانة وجودية لنظام كامل من الظلم واللاعدالة.
في هذه القصة يتجلى الشيطان ليس كخصم خفيّ أو مجرّد غواية، بل ككاشف للحقائق. يخاطب الكاهن بتهكّم: “أيها الأب السمين، ما الذي يجعلك تكذب على هؤلاء الناس المساكين؟ أي جحيم ترسم لهم في العالم الآخر، بينما هم يرزحون فعلًا تحت جحيم حيّ في هذه الدنيا؟ ألا تدرك أنكم أنتم، الكهنة وسلطات الدولة، وكلاء هذا الجحيم على الأرض؟”. هنا تنقلب الأدوار على نحو ساخر ومرعب: الشيطان يظهر كصوت الحقيقة، بينما الكاهن يبدو كممثل لآلة القمع المموهة بخطاب ديني.
يمسك الشيطان بياقة الكاهن ويرفعه في الهواء، ثم يبدأ معه جولة في جحيم الأرض. أول محطة كانت مصنع الحديد. هناك، وسط أفران ملتهبة، يلهث العمال ذهابًا وإيابًا في حرارة تحرق الجلد وتخنق الأنفاس. ينهار الكاهن تحت ثقل الهواء الكثيف ويصرخ طالبًا الرحمة. لكن الشيطان لا يرحمه، فيسحبه إلى مزرعة شاسعة. في المزارع يرى العمال يطحنون الحبوب تحت شمس قاسية، والغبار يملأ الرئة حتى يكاد يخنقها. سوط المراقب يهوي بلا رحمة على ظهور من يسقطون من التعب أو الجوع. يزداد ارتعاش الكاهن، لكن الرحلة لم تنتهِ. يأخذه الشيطان إلى أكواخ العمال، حيث العائلات تعيش في جحور ضيقة مفعمة بالدخان والرطوبة، والروائح الكريهة تنضح من الجدران. يرفع الكاهن يديه متضرعًا: “هذا هو الجحيم! دعني أخرج من هنا!”. يبتسم الشيطان ويهز رأسه: “ليس بعد. هناك جحيم أشد”.
ثم يصل به إلى السجن. هناك، بين الزنازين المظلمة، يتكشف المشهد الأكثر وحشية: أجساد هزيلة عارية، محشورة في هواء فاسد، تتغذى الحشرات على عظامها، وتذبل الحياة ببطء من وجوهها. ينهار الكاهن وهو يصرخ: “لا، لا! هذا أقسى من أي جحيم آخر! دعني أخرج من هنا!”. عندها يواجهه الشيطان بصرامة: “ها قد رأيت. إنهم في الجحيم قبل موتهم. ومع ذلك تعدهم أنت بجحيم آخر! تقتلهم مرتين: مرة بالواقع، ومرة بالوعد الكاذب”.
في هذا السرد القصير، يفضح دوستويفسكي النظام الاجتماعي والسياسي في روسيا القرن التاسع عشر. الفلاحون كانوا عبيدًا للأرض في ظل نظام القنانة، يعيشون في ظروف أقسى من الماشية، والعمال يكدحون بلا حقوق، بينما الكنيسة الأرثوذكسية تُبارك كل هذا باسم الصبر والإيمان، وتَعِد المظلومين بجنّة مؤجلة. لقد كان الكاهن في القصة رمزًا لهذا التواطؤ الديني مع السلطة، بينما الشيطان، بعكس صورته التقليدية، بدا أرحم بالإنسان لأنه على الأقل كشف الحقيقة ولم يموّهها.
لكن المغزى يتجاوز نقد الكنيسة والدولة. فالقصة تُقدّم طرحًا فلسفيًا عميقًا: الجحيم ليس موضعًا أسطوريًا ينتظر البشر بعد الموت، بل حالة وجودية محسوسة يعيشها الإنسان في ظل الظلم. الجحيم هو العمل بلا كرامة، هو الجوع حين يصبح هوية جسد، هو السجن الذي يسلب الاسم والحرية، هو الفقر الذي يحول البيت إلى حفرة. بهذا المعنى ينقل دوستويفسكي الجحيم من الماوراء إلى الواقع، من الغيب إلى الحياة اليومية.
ما يجعل القصة أكثر قوة أنها لم تكن تنظيرًا مجردًا، بل صدى لتجربة شخصية. دوستويفسكي نفسه ذاق طعم الجحيم. اعتُقل، سُجن، عاش تحت سيف الإعدام، نُفي إلى سيبيريا، وقاسى سنوات في معسكرات العمل. رأى المساجين ينهارون من الجوع والبرد، وسمع أنين السلاسل الثقيلة في الليل، وعرف كيف يتبخر معنى الحياة في الزنازين المظلمة. لهذا كانت القصة اعترافًا أكثر من كونها خيالًا. لقد تحدث بلسان الشيطان لأنه لم يجد صوتًا أصدق من هذا الكائن الملعون ليُدين الواقع الذي تفوّق قسوته على الجحيم اللاهوتي.
المفارقة الكبرى أن دوستويفسكي، رغم كل ذلك، لم يتحول إلى ثائر ضد الدين ذاته. لم يكن ملحدًا بالمعنى المباشر، بل ظل يعيش توترًا دائمًا بين الإيمان والشك. كان يرى المسيح رمزًا للرحمة المطلقة، لكنه كان يرى أيضًا كيف انحرفت الكنيسة عن رسالته وتحوّلت إلى ذراع للسلطة. وفي أعماله اللاحقة، ولا سيما في مشهد “المفتش الكبير” في الإخوة كارامازوف، سيتكرر هذا الموقف: المسيح حاضر بصمته، بينما رجال الدين يفرضون سلطانهم باسم الخلاص. يمكن القول إن قصة “الكاهن والشيطان” كانت البذرة الأولى لهذا التصور.
حين نقرأ النص اليوم، نشعر أنه ما زال معاصرًا بشكل مؤلم. فما أكثر المصانع التي لا تزال تحوّل العمال إلى آلات بلا حياة، وما أكثر المزارع التي تشبه معسكرات الأشغال، وما أكثر الأحياء الفقيرة التي ليست سوى جحور مكدسة، وما أكثر السجون التي تحولت إلى مقابر للأحياء. كل ذلك يجعلنا ندرك أن الجحيم الأرضي لم يكن مجرد صورة روسية من القرن التاسع عشر، بل هو بنية تتكرر عبر الزمن والجغرافيا.
إن الشيطان في القصة ليس سوى تجسيد لوعي ناقد، رفض أن يخضع للخداع. إنه صوت الاحتجاج على الكذب الممنهج. أما الكاهن، فقد جسّد دور من يزخرف الظلم بخطاب أخلاقي. لذلك، لم تعد القصة مجرد حكاية، بل بيانًا وجوديًا وسياسيًا: إنها تدعونا إلى الاعتراف بأن العدالة لا يمكن أن تؤجل إلى عالم آخر، وأن كرامة الإنسان على هذه الأرض هي المعيار الأول لكل خطاب ديني أو سياسي.
لقد ظل سؤال الجحيم يلاحق دوستويفسكي في كل رواياته اللاحقة. في الجريمة والعقاب نرى راسكولنيكوف ممزقًا بين الذنب والخلاص، وفي مذلون مهانون نواجه صورًا من الانكسار البشري، وفي الإخوة كارامازوف نسمع التساؤل المرعب: لماذا يتألم الأبرياء، ولماذا يُسمح بدموع الأطفال؟ هذه الأسئلة لم تكن بعيدة عن ما كتبه في زنزانته. كانت كلها محاولات للإجابة عن سؤال بدأ هناك: ما معنى الجحيم؟
اليوم، بعد أكثر من قرن ونصف، تبقى القصة صرخة. ليست دعوة إلى الكفر، بل إلى وعي أعمق. صرخة تقول إن الإنسان لا يجب أن يقبل الجحيم على الأرض باسم وعود مؤجلة. صرخة تضعنا أمام مسؤوليتنا الأخلاقية: أن نرفض أن يتحول الإنسان إلى مجرد رقم في معسكر أو عامل مسحوق أو جسد منسي في زنزانة.
قصة “الكاهن والشيطان” ليست مجرد نص قصير نُقش على جدار زنزانة، بل مرآة للواقع الذي يتكرر بأشكال متعددة. فيها يتجلى السجال الأبدي بين السلطة والرحمة، بين الدين كخلاص والدين كأداة قمع، بين الجحيم كرمز لاهوتي والجحيم كحياة يومية. دوستويفسكي أراد أن يضعنا أمام هذه الحقيقة بلا أقنعة: لا تبحثوا عن الجحيم في كتب اللاهوت أو في تهديدات الكهنة، بل انظروا إلى المصانع والمزارع والأكواخ والسجون. هناك يكمن الجحيم.
وإذا كانت رسالة القصة تفترض أن الشيطان قد يبدو أحيانًا أكثر صدقًا من بعض رجال الدين، فإن رسالتها الأعمق أن الإنسان لا ينبغي أن يرضى بجحيم يعيشه هنا على الأرض، بينما ينتظر جنة أو نارًا في مكان آخر. إن العدالة الحقيقية تبدأ من الأرض، من رفض الظلم ومن الدفاع عن كرامة الإنسان في حياته الراهنة. وربما هذا ما يجعل هذه القصة، رغم بساطتها الظاهرية، من أعظم النصوص التي كشفت جوهر مأساة الإنسان الحديثة: أن يعيش في جحيم صنعه بيده، ثم يُخدّر بخطاب يوهمه أن الجحيم الحقيقي لم يبدأ بعد.
⸻
المصادر والمراجع:
• دوستويفسكي، فيودور. مذكرات من بيت الأموات. ترجمة سامي الدروبي، دار دمشق، 1983.
• دوستويفسكي، فيودور. الإخوة كارامازوف. ترجمة سامي الدروبي، دار دمشق، 1990.
• دوستويفسكي، فيودور. رسائل من السجن والمنفى، مكتبة الأسرة، موسكو، 1975 (بالروسية).
• جوزيف فرانك، دوستويفسكي: السيرة الفكرية. مطبعة برنستون، 1976.
• رينيه ويتك، دوستويفسكي: سيرة حياة ونقد. باريس، 1960.
• روبرت بيرد، فلسفة دوستويفسكي: بين الإيمان والشك. جامعة شيكاغو، 2012.
• مقالة: “The Priest and the Devil by Dostoevsky” منشورة في موقع The Public Domain Review، 2014.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟