أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - أحفاد مانديلا . تحرير العمل: الدرس الجنوب إفريقي.















المزيد.....


أحفاد مانديلا . تحرير العمل: الدرس الجنوب إفريقي.


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8439 - 2025 / 8 / 19 - 14:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


حين نتأمل مسار البشرية منذ بداياتها، ندرك أن العمل لم يكن يوما مجرد وسيلة للبقاء، بل كان جوهرا إنسانيا، هو ما يصوغ معنى الكينونة في العالم. لقد لخّص كارل ماركس هذه الفكرة بعبارة مكثفة حين قال: "العمل هو أول حاجة إنسانية، وهو أول فعل تاريخي". فالإنسان، بخلاف سائر الكائنات، لا يكتفي بما تمنحه الطبيعة، بل يبدع ويحوّل ويعيد إنتاج العالم وفق حاجاته وأحلامه. غير أن هذه القدرة الفريدة سرعان ما تحوّلت، مع نشوء أنظمة الاستغلال، إلى لعنة: صار العمل مسلوبا، مغتربا، محاصرا في منظومات الهيمنة.
إن تحرير العمل هو، في العمق، تحرير الإنسان من كل أشكال الاستعباد التي شوّهت مساره: من عبودية الأجساد في المزارع والمناجم، إلى عبودية الأجور في مصانع الرأسمالية المتأخرة، وصولًا إلى عبودية الاستهلاك في زمن العولمة النيوليبرالية. ومن هنا نفهم قول فرانتز فانون، الثائر والمفكر القادم من مارتينيك والذي عاش التجربة الإفريقية بدمه ولحمه: "الاستعمار ليس صدعا في التاريخ، بل هو تجريد للعمل من قيمته الإنسانية". فالاستعمار، في جوهره، كان تحويل مجتمعات كاملة إلى آلات للنهب، إلى أيدٍ عاملة بلا روح، تُسخَّر لخدمة الإمبراطوريات.
جنوب إفريقيا مثال حيّ على هذا التشويه. ففي ظل نظام الأبارتهايد، لم يكن العمل مجرّد نشاط اقتصادي، بل كان أداة للسيطرة العرقية: السود يُدفعون إلى المناجم، يُكدَّسون في مصانع الموت البطيء، بينما تُصادر ثمار عملهم لصالح أقلية بيضاء تحتكر الأرض والثروة. هنا يصبح العمل رمزًا للعبودية الحديثة. غير أن ما هو أخطر من ذلك هو ما تلا سقوط الأبارتهايد: حين أُعيد إنتاج الاستغلال نفسه ولكن بوجه آخر، عبر السياسات النيوليبرالية التي حوّلت الحرية السياسية إلى قشرة بلا مضمون اجتماعي.
لقد كتب المفكر الإفريقي الكبير أمّي سيزير: "الاستعمار يشيّؤ الإنسان، يحوّله إلى أداة إنتاج، إلى كائن زائد لا قيمة له إلا بقدر ما يستهلك ويُستهلك". وهذه الملاحظة لا تنطبق على زمن الاستعمار المباشر فقط، بل على حقبة ما بعد الاستقلال، حين وجدت الشعوب نفسها أمام استقلال سياسي هشّ، لكن دون تحرر اقتصادي حقيقي.
إن الحديث عن "تولّي المواطنين زمام المبادرة" في جنوب إفريقيا، كما جاء في المؤتمر الوطني الأول، ليس إلا إعادة اكتشاف للحقيقة الكبرى التي طالما حاولت القوى المهيمنة طمسها: أن الدولة وحدها لا تستطيع تحقيق التحرر ما لم يكن العمل نفسه محررًا من قيود السوق والاحتكار.
ولذلك فإن تحرير العمل ليس شعارا مجردا، بل هو، كما قال الفيلسوف الإفريقي نغوغي واثيونغو: "إعادة الإنسان إلى مركز العالم، بعد أن أُقصي طويلًا إلى هوامش السوق الرأسمالية". فالتحرر يبدأ حين يدرك الإنسان أن عمله ليس سلعة، بل فعل حياة، وأن الجماعة لا يمكن أن تنهض إلا إذا استرجعت السيطرة على أدوات الإنتاج وتوزيع الثروة.

1. جنوب إفريقيا.. مجتمع خرج من الأبارتهايد إلى تناقضات الرأسمالية .

جنوب إفريقيا ليست مجرد دولة على الخريطة الإفريقية، بل هي مجاز تاريخي كثيف، يختزل كل تناقضات العالم الحديث: الاستعمار، العنصرية، التبعية الاقتصادية، ثم محاولات التحرر والانعتاق. إنها بلد لم يُكتب له أن يعيش حياة "عادية"، لأنه كان دائمًا ساحة صراع عنيف بين قوى الاستغلال وقوى المقاومة.
نظام الأبارتهايد لم يكن مجرد نظام تمييز عنصري، بل كان شكلا عاريا للرأسمالية الكولونيالية التي جعلت من لون البشرة معيارا لتقسيم العمل والثروة والحقوق. كان البيض يملكون الأرض والمصانع والبنوك، بينما السود يُختزلون إلى "قوة عمل رخيصة" تُساق إلى المناجم والمزارع كما تُساق الماشية. وهذا ما يفسره فرانتز فانون حين كتب في "معذبو الأرض": "الاستعمار ليس حضورا عسكريا فقط، بل هو مشروع اقتصادي كامل، يقوم على تحويل الإنسان المستعمَر إلى أداة إنتاج بلا روح".
في هذا السياق، يصبح نضال شعب جنوب إفريقيا مدرسة كبرى في فهم العلاقة بين التحرر الوطني والتحرر الطبقي. فمانديلا ورفاقه لم يُسجنوا لأنهم حملوا السلاح فقط، بل لأنهم مثّلوا خطرا على بنية اقتصادية كاملة تريد الإبقاء على الأغلبية في حالة عبودية مقنّعة. وقد قال مانديلا نفسه: "كفاحي لم يكن ضد البيض، بل ضد نظام الاستغلال، ضد فكرة أن إنساناً يولد ليكون سيدا وآخر يولد ليكون عبدا".
لكن سقوط الأبارتهايد في التسعينيات لم يُنهِ الصراع. فقد اكتشف الشعب سريعا أن الحرية السياسية، أي حق الانتخاب والمواطنة المتساوية، لا تكفي إن لم تترافق مع عدالة اجتماعية واقتصادية. وهذا ما نبه إليه ماركس قبل قرن ونصف حين قال: "الحرية السياسية وهمٌ إن لم ترتكز على حرية اقتصادية، وإن لم يتحرر العمل من الاستغلال".
فعلى الرغم من أن جنوب إفريقيا اليوم تصدَّر صورا لبرلمان منتخب ورئيس أسود وحقوق دستورية، إلا أن الحقائق المادية تكشف أن التفاوت الاجتماعي لا يزال صارخا: أقلية صغيرة تحتكر الثروة، بينما يعيش ملايين السود في أحياء الصفيح، بلا شغل ولا خدمات. البطالة تتجاوز 30%، والفقر يطحن المدن والأرياف. وهنا يطلّ السؤال من جديد: هل كانت نهاية الأبارتهايد فعلا "تحريرا"، أم أنها مجرد انتقال من شكل سافر للسيطرة إلى شكل مقنّع يخفي الرأسمالية في عباءة "الديمقراطية"؟
روزا لوكسمبورغ أجابت على هذا السؤال منذ زمن بعيد: "الديمقراطية البرجوازية قد ترفع القيود القانونية، لكنها تترك القيود الاقتصادية في مكانها، وبذلك تظل الأغلبية أسيرة فقرها". هذا بالضبط ما حدث في جنوب إفريقيا، وهو ما يفسر انعقاد مؤتمر الحوار الوطني اليوم ليعيد النقاش إلى جذوره: الحرية الحقيقية لا تكمن في صناديق الاقتراع، بل في تحرير العمل ذاته.

2. معنى تحرير العمل .

تحرير العمل ليس عبارة شاعرية ولا مجرد شعار سياسي يُرفع في المؤتمرات. إنه سؤال وجودي للمجتمعات التي تريد أن تتحرر فعلا من الاستغلال. ما معنى أن يتحرر العمل؟
في الرأسمالية، يُختزل العمل إلى سلعة. العامل يبيع قوة عمله مقابل أجر، ثم تُستخرج من عمله قيمة مضافة لا تعود إليه بل تذهب إلى جيوب الرأسمالي. هذا ما سماه ماركس "الاستلاب"، حيث يفقد العامل السيطرة على ثمرة جهده، فيغترب عن ذاته وعن المجتمع. وهنا قال ماركس جملته الشهيرة: "العامل يصبح أفقر كلما أنتج أكثر، وكلما ازدادت قوته الإنتاجية، ازداد ضعفا أمام الرأسمال".
إذن، تحرير العمل يعني أولا استعادة السيطرة على ثمرة الجهد الإنساني. يعني أن يكون العمل وسيلة للكرامة لا أداة للعبودية، وأن تتحول الثروة إلى ملكية جماعية لا احتكار خاص. وهذا جوهر الاشتراكية: أن يتحرر الإنسان من كونه مجرد ترس في ماكينة تراكم الربح، ليصبح ذاتاً فاعلة في إنتاج الحياة.
لكن تحرير العمل لا يتوقف عند الاقتصاد فقط. إنه أيضا تحرر اجتماعي وفكري. فالعامل المستلب لا يفقد فقط إنتاجه المادي، بل يُسلب وعيه أيضا، ويُدجّن ليقبل الاستغلال كأنه قدر طبيعي. هنا نستحضر لينين حين كتب: "لا يمكن للطبقة العاملة أن تتحرر دون أن تكسر أولا القيود الأيديولوجية التي تربطها بالرأسمالية، ودون أن تعي أن تحررها من صنعها هي".
وفي هذا المعنى، يصبح شعار مؤتمر الحوار الوطني في جنوب إفريقيا – "أن يتولى المواطنون زمام المبادرة" – تجسيدا عمليا لفكرة تحرير العمل. فالعمل لا يتحرر إلا حين يصبح الشعب نفسه، لا الدولة البرجوازية ولا رأس المال الأجنبي، هو من يحدد اتجاه التنمية. أي أن الناس ليسوا مجرد متلقين لسياسات جاهزة، بل صانعين فعليين لمصيرهم.
فرانتز فانون لخّص هذا في مقولته الشهيرة: "كل جيل عليه أن يكتشف مهمته التاريخية، إما أن ينجزها أو يخونها". مهمة جيل جنوب إفريقيا اليوم هي تحرير العمل من قبضة النيوليبرالية التي حوّلت انتصارهم على الأبارتهايد إلى هزيمة جديدة في ميدان الاقتصاد.
بل إن مانديلا نفسه، الذي رُفع إلى مرتبة الأسطورة، كان يدرك أن النضال لم ينتهِ. فقد صرح يوما: "إننا لم نحقق بعد الحرية التي ناضلنا من أجلها. الحرية ليست مجرد إزالة القيود، بل هي بناء شروط العيش الكريم لكل إنسان".
إذن، تحرير العمل ليس بدعة فكرية، بل هو الشرط التاريخي لأي تحرر حقيقي. ومن هنا تأتي أهمية أن يخرج مؤتمر الحوار الوطني في جنوب إفريقيا بمثل هذا الإعلان. إنه إعلان أن الشعب لم يعد مستعدا لقبول أوهام الديمقراطية الشكلية، وأن الطريق الوحيد للمستقبل هو أن يتحرر العمل، أي أن يتحرر الإنسان ذاته.

3. الدرس الثوري من جنوب إفريقيا.

حين نتمعن في مسار جنوب إفريقيا، نجد أن مؤتمر الحوار الوطني الأخير لم يكن وليد فراغ، بل نتيجة تراكم طويل من التجارب المرة. إنه حصيلة ثلاثة عقود من خيبات ما بعد الأبارتهايد، وثمرة وعي جديد يتشكل في رحم المعاناة. فالشعب الذي خاض مقاومة شرسة ضد العنصرية، والذي سجن قادته لعقود، والذي شيّع شهداءه بدموع ودماء، وجد نفسه بعد "التحرر" السياسي يعيش تناقضات أشد قسوة.
-أولا، تجربة المقاومة ضد الأبارتهايد كانت مدرسة في الصمود. عشرات السنين من النضال السري، والإضرابات، والمظاهرات، وحمل السلاح أحيانا. كانت تجربة جعلت الشعب يدرك أن الحرية لا تُمنح بل تُنتزع. ماركس قالها بوضوح: "الطبقات المسيطرة لم ولن تتنازل عن امتيازاتها طواعية، وعلى الطبقة العاملة أن تنتزعها انتزاعا". وما حدث في جنوب إفريقيا يثبت ذلك: البيض لم يتخلوا عن سلطتهم إلا بعد أن أصبح وجود نظامهم العنصري غير قابل للاستمرار أمام قوة المقاومة الشعبية والضغط الدولي.
-ثانيا، تجربة "الانتقال الديمقراطي" في التسعينيات. هنا رُفعت رايات الحرية والمساواة، وأعلن سقوط الأبارتهايد. غير أن الحرية التي جاءت لم تكن سوى نصف حرية. تمكّن السود من التصويت، من تأسيس أحزاب، من المشاركة في البرلمان. لكن حين تعلق الأمر بالاقتصاد، بقيت الثروة بيد الأقلية البيضاء وحلفائها من البرجوازية السوداء الصاعدة.
لينين وصف هذا الوضع قبل قرن حين قال: "الديمقراطية البرجوازية هي أفضل غطاء يمكن للرأسمالية أن ترتديه، لأنها تمنح الناس وهم المشاركة بينما تظل الثروة في أيدي الأقلية". وهذا بالضبط ما عاشه شعب جنوب إفريقيا: حقوق سياسية في الظاهر، لكن استغلالاً اقتصادياً في الجوهر.
-ثالثا، تجربة النيوليبرالية. فبعد سقوط الأبارتهايد، فرضت المؤسسات المالية الدولية (البنك الدولي، صندوق النقد الدولي) وصفاتها المعتادة: خصخصة، خفض للدعم، تحرير السوق، فتح البلاد لرأس المال الأجنبي. وهكذا تحوّل "النصر السياسي" إلى هزيمة اجتماعية: البطالة ارتفعت، الفقر تفاقم، الخدمات تراجعت.
روزا لوكسمبورغ حذرت من هذا في كتابها "الإصلاح أم الثورة": "من يظن أن الإصلاحات وحدها كافية لتغيير حياة الناس إنما يزرع الوهم، فالإصلاح في ظل الرأسمالية لا يغير جوهر النظام، بل يمدد عمره". وما عاشه الجنوب إفريقيون هو بالضبط هذا الوهم.
كل هذه التجارب مجتمعة جعلت مؤتمر الحوار الوطني يصل اليوم إلى خلاصة: لا يمكن الاكتفاء بتحرير شكلي، بل يجب تحرير العمل ذاته. هذا هو الدرس الثوري: أن التحرر لا يُقاس بوجود برلمان أو دستور، بل بمدى قدرة الناس على السيطرة على عملهم وثروتهم.
غرامشي أضاف بعدا آخر حين قال: "الأزمة الكبرى تحدث حين يعجز القديم عن الاستمرار، ولا يكون الجديد قد وُلد بعد". وهذا هو موقع جنوب إفريقيا اليوم: النظام النيوليبرالي عاجز عن تحقيق العدالة، لكن النظام الجديد لم يولد بعد. ومؤتمر الحوار الوطني هو المخاض الأول لهذه الولادة: إعلان أن الجديد يجب أن يبنى على قاعدة تحرير العمل.

4. ما الذي يعنيه ذلك للعالم العربي؟.

التجربة الجنوب إفريقية ليست شأنا داخليا، بل مرآة تعكس أوضاع العالم العربي بأكمله. فكما عاش الجنوب إفريقيون أوهام الحرية الشكلية، يعيش العرب اليوم أوهام "الدولة الوطنية" التي استقلت سياسيا لكنها بقيت تابعة اقتصاديا.
في تونس مثلا، نالت البلاد استقلالها في 1956، لكن ماذا يعني الاستقلال إن كانت السياسات الاقتصادية ترسم في مكاتب صندوق النقد الدولي بواشنطن؟ ماذا يعني الاستقلال إن كان الفلاح عاجزا عن بيع محصوله بينما تستورد البلاد غذاءها من الخارج؟ ماذا تعني السيادة إن كانت المديونية تخنق الدولة وتجعلها خاضعة للدوائر المالية العالمية؟
ماركس كتب في البيان الشيوعي: "العمال لا وطن لهم، لأن رأس المال لا يعترف بالوطن". وهنا نفهم أن التحرر الوطني الذي لم يترافق بتحرر اقتصادي، يظل ناقصا، هشا، وقابلا للارتداد.
الوضع في الوطن العربي يعكس ذلك بوضوح:
في مصر، بعد "ثورة" 2011، عادت السلطة العسكرية لتمسك بالبلاد بينما ظلت التبعية الاقتصادية على حالها.
في تونس، بعد "ثورة" 2011 أيضا، رُفعت شعارات الحرية، لكن الناس وجدوا أنفسهم يواجهون غلاء الأسعار، البطالة، وتوصيات صندوق النقد.
في المغرب والجزائر، الفوارق الاجتماعية هائلة رغم عائدات الغاز والفسفاط و البترول.
في المشرق العربي، الحروب الأهلية والاحتلالات جعلت التحرر الوطني مؤجلا إلى أجل غير مسمى.
إذن، الدرس الجنوب إفريقي هنا بالغ الأهمية: الديمقراطية الشكلية وحدها لا تكفي. لا قيمة لصناديق الاقتراع إن لم تتحرر لقمة العيش. لا معنى للشعارات الوطنية إن ظلت الثروة محتكرة بيد أقلية. الحرية السياسية بلا حرية اقتصادية مجرد قناع.
لينين قال في هذا السياق: "لا يمكن أن تكون هناك ديمقراطية حقيقية ما دام ملايين الناس يعيشون في الفقر والحرمان، لأن الفقر يسحق الحرية ويجعلها بلا معنى". وهذا ينطبق تماما على وطننا العربي.
بل إن فانون، عاش تجربة الاستعمار الفرنسي، وصف مأزق "الدولة الوطنية" بعد الاستقلال قائلا: "البرجوازية الوطنية التي تستلم السلطة من المستعمر تتحول بسرعة إلى وسيط تابع، عاجزة عن تحقيق التنمية، بل تكتفي بنهب الشعب وتلقي الفتات من الخارج". هذا الوصف يكاد يكون نسخة طبق الأصل من حال كثير من البلدان العربية.
من هنا نفهم أن ما قاله مؤتمر الحوار الوطني في جنوب إفريقيا – أن يتولى المواطنون زمام المبادرة – هو دعوة للوطن العربي أيضا. لأنه يضع الإصبع على الجرح: لا خلاص عبر النخب الحاكمة التابعة، ولا عبر الإصلاحات التي تفرضها المؤسسات الدولية، بل الخلاص بيد الشعب نفسه، بيد العمال والفلاحين والكادحين.
وهذا ما عبّر عنه غرامشي أيضا حين أكد: "الشعب ليس موضوعا للتاريخ بل هو صانعه، وما لم يدرك هذه الحقيقة سيظل أداة في يد الآخرين".
لذلك، الدرس الجنوب إفريقي هو نداء لنا نحن العرب: إذا أردنا نهضة حقيقية، فلا بد أن نحرر العمل، أي أن نعيد بناء اقتصاداتنا على قاعدة الإنتاج الوطني، والتوزيع العادل، والسيطرة الشعبية على الثروة. وإلا فسنظل ندور في حلقة "حرية شكلية" تُخفي عبودية اقتصادية جديدة.

5. تحرير العمل كشرط لإعادة تعريف الحرية والديمقراطية.

حين نسمع كلمة "حرية"، كثيرا ما يتبادر إلى الأذهان حرية التعبير، حرية الانتخاب، حرية الفرد في اختيار نمط حياته. لكن السؤال الجوهري هو: هل يمكن للحرية أن توجد فعلا بينما يظل الإنسان مقيدا بعلاقات عمل استغلالية؟
لقد نبّه كارل ماركس منذ القرن التاسع عشر إلى أن الحرية الشكلية التي يتباهى بها النظام الليبرالي لا تكفي:
"العامل في النظام الرأسمالي يبدو حرا: حرّ أن يبيع قوة عمله لمن يشاء. لكنه في الحقيقة مجبر على بيعها، لأنه لا يملك سوى هذه القوة."
إذن الحرية في بعدها الشكلي تخفي واقعا من التبعية. العامل الذي يستنزف في مصانع النسيج بآسيا أو في المناجم الإفريقية ليس حرا حقا، بل مجرد ترس في آلة الإنتاج العالمي.
وهذا ما وعاه كوامي نكروما في قلب معركة الاستقلال الإفريقي:
"الحرية السياسية بلا قاعدة اقتصادية صلبة ليست سوى ظل للحرية."
بكلمات أخرى، لا يمكن أن نتحدث عن حرية بينما الثروة الوطنية منهوبة، بينما العامل لا يرى ثمار جهده، بينما الفلاحة محرومة من أرضها. وهنا يتضح أن تحرير العمل، أي إعادة السيطرة الجماعية على شروط الإنتاج والتوزيع، هو شرط أساسي لإعادة تعريف الديمقراطية ذاتها.
فالديمقراطية ليست مجرد آلية انتخابية، بل هي كما قال جوليوس نيريري :
"أن يحكم الشعب نفسه بنفسه اقتصاديا كما يحكم نفسه سياسيا."
ولعل هذا ما يغيب عن كثير من نماذج الديمقراطية الليبرالية المعاصرة: فهي تكتفي بتمكين المواطن من وضع ورقة في صندوق الاقتراع، لكنها تحرمه من وضع يده على ثروات بلاده. إن العامل في دولة "ديمقراطية" أوروبية أو إفريقية، الذي يعمل لعشر ساعات في اليوم ليغطي تكاليف السكن والغذاء، ليس أحرّ بكثير من عامل في دولة استبدادية.
من هنا، يصبح تحرير العمل هو الخطوة الأولى نحو بناء حرية حقيقية: حرية تُترجم إلى سيادة على الأرض، على المصنع، على الموارد الطبيعية. وهنا نستعيد قول فرانز فانون:
"ليس الاستقلال راية تُرفع، بل خبز يؤكل، أرض تُزرع، وكرامة تُعاش."

6. الدرس للوطن العربي: تحرير العمل كأفق جديد للنضال .

إذا كان الجنوب الإفريقي قد علّمنا أن التحرر السياسي من الأبارتهايد لا يعني شيئا بلا تحرر اقتصادي، فإن هذا الدرس يجب أن يُقرأ بعناية في الوطن العربي.
لقد جربنا نحن العرب دولة الاستقلال. لكن ماذا كانت الحصيلة؟ دول ريعية تابعة للنفط أو للمساعدات الأجنبية، أو دول عسكرية ترفع شعارات التحرير بينما تكدّس الثروة في يد نخبة ضيقة. إن ما حذر منه فرانز فانون تحقق أمام أعيننا:
"البرجوازية الوطنية، بدلا من أن تكون محركا للتنمية، تتحول إلى وكيل للاستعمار الجديد."
والنتيجة؟ ملايين الشباب العاطلين، ملايين العمال في مصانع هشة بلا ضمانات، ملايين الفلاحين بلا أرض، في حين تُهدر الثروات على مشاريع استعراضية أو تُحوّل إلى حسابات خارجية.
من هنا، يصبح الدرس الإفريقي أكثر إلحاحا. فكما قال ستيف بيكو:
"أعظم سلاح في يد الظالم هو عقل المظلوم."
إن العامل العربي حين يُقنع نفسه أن "لا حيلة له"، أو أن "الخبز مقابل الصمت"، يكرّس عبوديته بيده. لذلك فإن تحرير العمل يبدأ بتحرير الوعي: وعي أن العمل ليس مجرد أداة للبقاء، بل أداة للتحرر الجمعي.
وهذا ما صاغه نيلسون مانديلا بدقة حين قال:
"الحرية لا تعني أن نتحرر من قيودنا فقط، بل أن نعيش بطريقة تحترم وتعزز حرية الآخرين."
في السياق العربي، حرية العامل مرتبطة بحرية الفلاح، وحرية المرأة العاملة مرتبطة بحرية الشاب العاطل، وحرية الجميع مرتبطة بكسر حلقة الاستغلال التي تفرضها تحالفات محلية ، بيروقراطية أو عسكرية ، مع رأس المال العالمي.
إن البديل ليس نظريا فحسب. تجارب النقابات العربية، والحركات العمالية في مصر وتونس والمغرب، أظهرت أن الناس قادرون على انتزاع حقوقهم حين يربطون مطالبهم اليومية (أجر عادل، تأمين صحي، حق السكن) بمطلب سياسي أكبر: تحرير العمل من الاستغلال.
ولعلنا نختم هنا بقول جوليوس نيريري الذي يلخص الرسالة للوطن العربي:
"لا توجد حرية سياسية حقيقية دون عدالة اجتماعية، ولا عدالة اجتماعية دون أن يسيطر العمال والفلاحون على ثمرة جهدهم."

إن إعلان جنوب إفريقيا الأخير يمكن أن يُقرأ، من منظور يساري، بوصفه بداية عودة الوعي إلى أن الحرية السياسية لا تكفي، وأن التحرر لا يُختزل في حق الانتخاب أو حرية التعبير، بل يتجسد أساسا في الحق في العمل الكريم، والعمل المنتج، والعمل الحر من قيود الاستلاب. فكما كتب أنطونيو غرامشي: "الأزمة تكمن بالضبط في أن القديم يموت والجديد لا يستطيع أن يولد". والأزمات التي عاشتها جنوب إفريقيا منذ سقوط الأبارتهايد كانت صورة لهذا التناقض: انهيار منظومة التمييز العنصري، لكن دون ولادة مجتمع جديد حقًا، لأن العمل ظل مسلوبًا.
اليوم، حين تعلن جنوب إفريقيا أن المواطنين هم من يتولون زمام المبادرة، فهي تذكّر العالم كله بأن المسألة ليست في إصلاح الدولة من فوق، بل في تحرير العمل من تحت. فـ ماركس كان واضحا حين قال: "تحرر الطبقة العاملة لا يمكن أن يكون إلا من صنع الطبقة العاملة نفسها".
لكن لنجعل هذا أكثر عمقا: المسألة ليست فقط طبقية، بل أيضا حضارية. فكما كتب شكيب أرسلام قبل قرن وهو يصف حال الأمة: "كيف تأخر المسلمون وكيف تقدم غيرهم؟" ، إن جوهر التأخر لم يكن في الدين ولا الثقافة، بل في الاستلاب الاقتصادي والاجتماعي. واليوم، الشعوب العربية والإفريقية مدعوة لفهم أن التحرر لا يعني فقط رفع راية الاستقلال، بل كسر قيود العمل المغترب.
لقد علّمنا والتر رودني، المفكر الإفريقي الذي اغتالته أنظمة التبعية، في كتابه "كيف خربت أوروبا إفريقيا" أن نهب العمل الإفريقي هو ما صنع ثراء أوروبا. وهذا يضع على عاتق الشعوب الإفريقية اليوم مهمة تاريخية: استرداد العمل كمصدر قوة، لا كمصدر عبودية.
وبالمثل، يقول الفيلسوف الإفريقي المعاصر أشيل مبمبي: "المستقبل الإفريقي لن يُكتب في مكاتب صندوق النقد الدولي، بل في ورشات القرى، وفي حركات العمال، وفي أصوات المهمشين". هذه العبارة تختصر المعنى العميق لتحرير العمل: المستقبل ليس بيد النخب ولا الإمبراطوريات، بل بيد من يصنعون الحياة بأيديهم كل يوم.
إذن، "تحرير العمل" ليس مسألة محلية في جنوب إفريقيا فحسب، بل هو شعار أممي جديد، يجب أن يُرفع في مواجهة النيوليبرالية العالمية، في مواجهة البطالة المنظمة، وفي مواجهة تحويل البشر إلى مجرد مستهلكين.
إنها معركة طويلة، لكنها معركة تستحق أن تُخاض. وكما قال ستيف بيكو، شهيد الوعي الأسود في جنوب إفريقيا: "أعظم سلاح في يد الظالم هو عقل المظلوم". واليوم، أعظم سلاح في يد الشعوب هو تحرير عملها من كل أشكال الاستغلال.
فلنقلها بوضوح: لا ديمقراطية بلا عدالة اجتماعية، ولا عدالة اجتماعية بلا تحرير للعمل، ولا تحرير للعمل بلا وعي شعبي بأن التحرر لا يُمنَح، بل يُنتزع.



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- البيروقراطية
- السودان يحترق... والطبقات الحاكمة تتقاسم الخراب
- قراءة نقدية لديوان -في أن يستكين البحر لفرح موج- لإدريس علوش ...
- البناء القاعدي: من فكرة التحرر إلى أداة الهيمنة؟
- الحداثة والظلامية: وجهان لعملة واحدة في مأزق التاريخ العربي.
- ما بعد الجمهورية: زمن الوحوش أم زمن الاحتمال؟
- الخديعة الأمريكية الكبرى: الإمبريالية وخراب فلسطين.
- اليسار التونسي: بين الأمس الإيديولوجي واليوم السياسي.
- الأخلاق في الميزان السياسي في القرن 21.
- الشعبية: من التحرير الرمزي إلى بناء السيادة الفعلية
- قراءة في رواية -1984- لجورج أورويل.
- الكتابة فعل نضال
- جنوب يخرج من ظلّ الأمم المتّحدة: مقترحات للفكاك من نظام الغل ...
- الحرف ساحة صراع طبقيّ: تفكيك الخطاب وتحرير اللغة من الهيمنة.
- بيان نواة مجموعة يسارية متمرّدة
- الرّأس
- الى الرفيق جورج ابراهيم عبدالله مباشرة
- اليسار المتحزّب واليسار المستقل: بين البيروقراطية والمقاومة. ...
- عالم متعدد الأقطاب الإمبريالية: خرافة التوازن وخطر التجزئة.
- صدى النازية في قلب الحداثة.


المزيد.....




- فاجأ مالكتها.. دب يفتح أبواب سيارة متوقفة ويحاول اقتحامها
- لماذا تصر روسيا على ضم منطقة الدونباس مهما كان الثمن؟
- الأسوأ منذ 80 عاما.. أزمة مياه غير مسبوقة تضرب بيروت
- إسرائيل تشترط الافراج عن جميع الرهائن بعد قبول حماس مقترح ال ...
- فيديو متداول لتشكيل جماهير إسبانيا -خارطة فلسطين-.. ما حقيقت ...
- -لنبدأ العمل الخامسة فجراً-، مقترح من برلمانية يشعل جدلاً في ...
- نحو 1200 طن.. قبرص ترسل مساعدات إلى غزة عن طريق البحر لتوزيع ...
- ترامب: الرئيس الروسي قد لا يرغب بإبرام صفقة.. وماكرون يقترح ...
- هجوم الدهس بماغدبورغ .. ألمانيا تحاكم طبيبا سعوديا بتهم القت ...
- كيف كانت اللحظات الأخيرة قبل استشهاد أنس الشريف وزملائه؟


المزيد.....

- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت
- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - أحفاد مانديلا . تحرير العمل: الدرس الجنوب إفريقي.