|
الحداثة والظلامية: وجهان لعملة واحدة في مأزق التاريخ العربي.
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8428 - 2025 / 8 / 8 - 16:17
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
مقدمة: حداثة بلا إنسان، وظلامية بلا أفق. عندما نبدأ الحديث عن الحداثة والظلامية في السياق العربي، من السهل أن نقع في فخ التقسيم السطحي البسيط، حيث نتصور الحداثة كقوة منيرة للحضارة، والظلامية كرجعية متحجرة تعيق التقدم. لكنّ الواقع الذي نعيشه في بلداننا العربية يكشف عن تعقيد أكبر وأشد إيلامًا، وهو أن كلا المشروعين ، الحداثي والظلامي ، يتقاسمان في جوهره مشروعا واحدا من الإقصاء والاستعباد، كلٌ باسمه ولغته وأدواته. هذا الواقع المزمن أفرز مأساة عميقة لمجتمعاتنا: الحداثة هنا ليست حداثة تحرر، والظلامية ليست مجرد تمسك بالماضي، بل هما وجهان لعملة مأزومة تعكس تعثّرا تاريخيا عميقا. مهدي عامل، المفكر والناقد الذي لم تخلُ كتاباته من جرأة نقدية متميزة، وضح هذه الحقيقة بشكل جلي حين قال: "الحداثة في مجتمعاتنا هي حداثة مضادة، تُنجز في سياق إعادة إنتاج التخلف، لا تجاوزه." هذا القول يلخص بعمق الظاهرة التي لا تزال تقود مجتمعاتنا نحو متاهات التخلف والاستلاب. في زمن يزخر بصخب التحولات والاضطرابات، حيث تلتقي الأمواج العاتية لعولمة تجتاح مجتمعاتنا من كل جانب، تبدو الحداثة والظلامية في العالم العربي كقطبين متقابلين على خارطة الصراع الاجتماعي والسياسي. وعندما ننظر إلى هذا الثنائي من بعيد، قد يخيل إلينا أنهما قوتان متصارعتان على قلب الحضارة، تحاربان من أجل فرض رؤيتهما للعالم والإنسان والزمان. الحداثة هنا تمثل ضوء العقلانية والعلم والتقدم، والظلامية هي العودة إلى الماضي المظلم، إلى التقاليد الجامدة والانعزال الديني. لكن، حين نغوص في عمق الواقع العربي، نجد أن هذه الثنائية ليست مجرد صراع بين الخير والشر، أو بين التنوير والتخلف، بل هي وجهان لمعاناة أعمق، مأزق تاريخي وسياسي واجتماعي يتسم بالتداخل والتشابك. فالحداثة التي وصلت إلى بلادنا ليست الحداثة التي وعد بها العقل، بل نسخة مشوهة فرضت من خارج الحدود، ترافقت مع مشاريع الاستعمار القديم والجديد، وعززت من هيمنة النخب السلطوية التي لم تزرع في مجتمعاتنا إلا بذور التبعية والاغتراب. من جهة أخرى، لم تكن الظلامية ببساطة رجعية تقليدية، بل هي تعبير عن فشل مشروع الحداثة نفسه في توفير العدالة والحرية، ونتيجة حتمية لهيمنة قوى سياسية واقتصادية استغلت الدين كغطاء لقمع الشعوب واستنزاف طاقاتها. إنها ظلامية تنتعش في فراغات السلطة الحقيقية، وتستثمر في اليأس الاجتماعي لتعزز سلطتها. وفي هذا المشهد المعقد، تكاد الحداثة والظلامية تتشابكان في مشروع واحد: استمرارية حالة القهر والاستلاب التي يعاني منها الإنسان العربي، حيث تصبح كل محاولة للحرية والتغيير محاصرة بين استبدادين، كلٌّ يلبس قناعًا مختلفًا، لكنه في النهاية يقصي الإنسان من مركز التاريخ. بهذا الفهم، تطرح هذه الدراسة سؤالا عميقا ومؤلما: هل نحن أمام صراع حضاري حقيقي، أم أننا غارقون في دوامة تاريخية من التكرار، حيث تُعاد إنتاج ذات الأنظمة والهيمنة تحت مظاهر مختلفة؟ كيف نقرأ الحداثة والظلامية في سياقنا، وكيف نخطو نحو مشروع تحرري فعلي يُعيد للإنسان كرامته ويحرره من كل أشكال العبودية الحديثة؟ لنبدأ، إذا، بفكّ شفرات هذا المأزق، عبر تتبع جذور الحداثة والظلامية، وفحص علاقتهما بالتاريخ السياسي والاجتماعي والثقافي في بلادنا، مستندين إلى أعمدة فكرية وأدبية وفلسفية تنير لنا الطريق نحو فهم أعمق وأكثر شمولا.
أولا: الجذور المشتركة ، حين تنبع الحداثة والظلامية من نفس التربة.
1. الحداثة: وجهٌ آخر للهيمنة: في السياق الغربي، وُلدت الحداثة كحركة تحررية ضد الاستبداد الإقطاعي والهيمنة اللاهوتية، وارتبطت بقيم العقلانية والعلم والتقدم. كانت الحداثة وعدا بحياة جديدة تستند إلى عقل حر ومجتمع متساو. ولكن مع مرور الزمن، أخذت الحداثة شكلا مختلفا في السياق العالمي، إذ سرعان ما تحولت إلى أداة للاستعمار والهيمنة الإمبريالية، استخدمت العقلانية والعلم لتبرير النهب والقمع. كما عبر عن ذلك هربرت ماركوز، الفيلسوف الماركسي، حين قال: "العقل التقني لا يحرّر الإنسان، بل يُحوّله إلى أداة ضمن منظومة الهيمنة." أما في الوطن العربي، فقد لم تكن الحداثة نتاجا لصراع داخلي ينبثق من إرادة شعبية حرة، بل فرضت غالبا عبر الاستعمار الغربي أو النخب المحلية التي ارتبطت بمصالح الإمبريالية. سمير أمين وصف هذا المشروع بدقة حين اعتبره "وسيلة لتطويع المجتمعات لصالح السوق العالمية، لا تحريرها من التبعية." أي أن الحداثة هنا صارت أداة لإعادة إنتاج التبعية والاستلاب، لا لتجاوزها. ونتيجة هذا التحول المأساوي، وجدت المجتمعات العربية نفسها في حالة تشويه مزدوج: تشويه من الداخل بتبعية النخب وانقلاب الحداثة على قيمها الأصلية، وتشويه خارجي بإخضاع الشعوب لهيمنة الإمبريالية، مستوردة ليس فقط التقنية والعلوم، بل الاستلاب الثقافي والسياسي.
2. الظلامية: ابنة مشوّهة لحداثة مشوّهة: الظلامية الدينية، التي تظهر في صور متعددة من سلفية جهادية إلى أصوليات دينية متشددة، ليست مجرد تراجع إلى الماضي أو رفضا صريحا للحداثة. بل هي في جوهرها رد فعل مريض على مأزق الحداثة في المجتمعات العربية. فالانهيار المتتابع للمشروع القومي، وسقوط الطموحات التحررية، إلى جانب تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، أوجدت حالة من الإحباط الشعبي الذي وجد في "الرجوع إلى الدين" ملجأ وأداة للرد على الفشل. صادق جلال العظم، في تحليله العميق، قال إن "الظلامية هي نتاج فشل العقل العربي في استيعاب الحداثة، لا رفضها فقط." وهذا يعني أن الظلامية ليست حالة رفض ساذج بل هي انعكاس لمسافة فشل في التواصل مع الحداثة الحقيقية، كما أنها تظهر نتيجة للفراغ العدلي والاجتماعي الذي خلّفته الحداثة المفروضة من فوق. فالظلامية تتحول هنا إلى أيديولوجيا قمعية تستخدم الدين، ليس كدعوة روحية إنسانية، بل كسلاح للهيمنة والسيطرة، تتحول الأديان من أنظمة رمزية للحياة إلى أدوات حرب ضد الإنسان والحريات، وتُستخدم لشل الحركة الاجتماعية والنضالات من أجل العدالة.
ثانيا: التطبيق العربي ، التركي، كيف تقاسما الخراب؟.
في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تظهر نماذج واضحة لكيفية مساهمة كل من الحداثة الظالمة والظلامية القمعية في إنتاج واقع قاتم: في تركيا، مثلا، تحولت الحداثة التي أرساها أتاتورك إلى مشروع عسكري سلطوي يطمس الهويات ويسيطر على المجتمع باسم العلمانية، لكنه في الوقت ذاته استبدادي وغير ديمقراطي. في السعودية، يستخدم النظام المؤسسة الدينية كقوة ظلامية تتحكم في مجالات الحياة باسم الدين، مع دعم سياسي واقتصادي قوي، لتكريس استبداد ديني بحت. وفي تونس، حيث سعى بورقيبة إلى "تحرير المرأة" عبر قرارات رسمية من أعلى، إلا أنه تحرير شكلي، لا يرافقه تحرير اقتصادي واجتماعي حقيقي، فظلّت المرأة أسيرة بيروقراطية الدولة، ولم تتغير علاقات الإنتاج التي تنتج التبعية والقهر. في مصر، حاول عبد الناصر مواجهة التيارات الإسلامية بالقمع، لكنه أبقى على بنية دينية محافظة تستخدم لتبرير القمع، فاستمر الاستبداد في غلاف حديث. وعندما وصل الإسلاميون إلى السلطة في بعض البلدان مثل السودان وأفغانستان، لم يقدموا بدائل إنسانية حقيقية، بل استنسخوا نفس آليات القمع باسم الدين، وهو ما عبّر عنه عبد الله العروي بقوله: "الأصولية والحداثة متلازمتان في المجتمعات التي لم تحسم علاقتها مع تاريخها وتبعيتها." هكذا، فإن الحداثة والظلامية ، وإن بدتا متناقضتين ظاهريا ، فقد تكاملتا في خدمة مشروع السلطة والنظام الاجتماعي الاقتصادي القائم، وخنق الوعي الشعبي ومنع الثورة الاجتماعية.
ثالثا: الخلفيات النظرية والسياسية ، تحالف غير معلن.
الحداثة والظلامية هما ليسا مجرد ظاهرتين متناقضتين، بل تحالف غير معلن يعمل على قمع كل مشروع تحرري حقيقي. الأولى تمارس القمع باسم العقلانية والتقنية، والثانية تجند الجماهير باسم الهوية والدين. وكلاهما يستهدفان تحجيم إمكانيات الثورة الاجتماعية وتحرير الإنسان. أنطونيو غرامشي، المفكر الإيطالي المعروف، لخص الوضع حين قال: "حين تفشل النخب في قيادة التغيير، تنبع الوحوش من الهامش." والوحوش في عالمنا العربي هي مزيج من بوليس الدولة المستبد وأمراء الحرب الدينيين، كلاهما يُقدم كمنقذ رغم كونهما أدوات للقمع. أما القوى الإمبريالية والمؤسسات الدولية الكبرى مثل البنك الدولي ووسائل الإعلام الغربية، فهي لا ترى في هذه التناقضات سوى فرص لتعزيز هيمنتها، فتعزز الحداثة الاستهلاكية في الأطراف، وتغض الطرف عن تحالفات النخب المحلية مع القوى الرجعية. فتصبح قوانين تجريم العمل النقابي "ضرورة وطنية". هذا ما فصّله فريدريك جيمسون بقوله: "الحداثة في الأطراف مجرد حيلة خطابية لتبرير العنف الرأسمالي."
رابعا: أزمة المفهوم ، أين الإنسان؟.
أكبر مأساة في هذا الصراع الكاذب هي إقصاء الإنسان نفسه. الحداثة الاستعمارية تُشيئ الإنسان كأداة في منظومة إنتاجية وتقنية بحتة، تُهمش ذاته وحريته. الظلامية من جانبها تقدّسه وتُقدّسه حتى تصل إلى شل قدرته على التفكير والحرية. في كلتا الحالتين، تختفي الحرية الفعلية، ويُغيب الإنسان عن مركز التاريخ. كارل ماركس أكد هذه الحقيقة حين قال: "ليس التحرر هو استبدال سلطة بأخرى، بل تحطيم كل علاقات الاغتراب." وهو ما يعني أن أي مشروع تحرر حقيقي لا يمكن أن يكون مجرد تبديل أشكال السلطة أو أيديولوجياتها، بل ثورة شاملة في العلاقات الاجتماعية. الوطن العربي اليوم ليس بحاجة إلى استيراد المزيد من التقنيات أو المواعظ، بل إلى ثورة تعيد تعريف الحداثة والهوية معا، بحيث تتحول الأدوات إلى وسائل لتحرير الإنسان من الاستغلال والاستلاب، لا إلى أدوات لقمعه وإخضاعه.
خامسا: من أجل حداثة تحررية ، المخرج من الثنائية الزائفة.
إن كسر الثنائية الزائفة بين الحداثة الظالمة والظلامية القمعية يبدأ بنقد جذري يدمج المسألة الثقافية بالمسألة الاجتماعية، ويعيد بناء مشروع حداثي شعبي يرفض السلطوية والرأسمالية، ويؤمن بالحرية والعدالة الاجتماعية. فرانز فانون، المناضل والمفكر الثوري، حلم بـ"ولادة إنسان جديد" قادر على مواجهة عالم يحتضر تحت أطنان من الركام السياسي والاجتماعي. هذا الإنسان الجديد لن يكون نسخة من الغرب أو نسخة من الماضي، بل هو نتاج نضالات الشعوب. الحداثة الحقيقية لا تُستورد ولا تُفرض، بل تُنتج في الشوارع، في النضالات الشعبية، في وعي الطبقات المسحوقة التي تدرك أنها ليست مجرد ضحايا، بل فاعلة في صناعة التاريخ. كما قال إرنستو تشي غيفارا: "الثورة ليست كلمة، بل فعل، والمستقبل يُبنى لا يُستورد."
سادسا: التعليم والإعلام: أدوات إعادة إنتاج الحداثة المشوّهة والظلامية المدجّنة.
لا يمكن فهم استمرار التبعية الثقافية والسياسية في الوطن العربي دون النظر بدقة إلى دور التعليم والإعلام، اللذين يعملان كأدوات مركزية في إعادة إنتاج الخطابات الزائفة، التي تصوغ الحداثة كترف استهلاكي وتروج الظلامية كهوية خلاصية.
1. التعليم: تكريس الحداثة المعلّبة والهوية المنغلقة: في معظم الأنظمة العربية، التعليم ليس مساحة للحرية أو النقد، بل أداة لتكريس الخضوع عبر منهج مزدوج يعلّم المواد العلمية والتقنية بطريقة جافة تجريدية، وفي الوقت نفسه يعزز الخطاب الديني الرسمي، الذي يقتل روح النقد والتفكير الحر. باولو فريري، في كتابه "تعليم المقهورين"، أشار إلى أن التعليم السلطوي لا يحرر، بل يحوّل الطلاب إلى أوعية فارغة تُملأ بمعلومات جاهزة. وهذا هو واقع معظم مدارسنا، حيث لا يُسأل الطالب عن معنى الحداثة أو الدين، بل يُطلب منه حفظ تعاريف رسمية ومقدسات مغلقة. النتيجة وعي مشوّه يخاف الحرية ويهاب التفكير. إبراهيم البليهي وصف هذه المأساة: "نحن لا نُربّي على التفكير، بل نُدرّب على الخضوع، فكيف ننتج حداثة أو نواجه ظلامية؟"
2. الإعلام: تسويق الخوف بدل الأمل: الإعلام في الوطن العربي، في كثير من الأحيان، لا يعيد إنتاج فقط الخطابات الرسمية، بل يؤطر وعي الجماهير داخل ثنائيات زائفة تبعدهم عن فهم أعمق لواقعهم. الحداثة في الإعلام تعني العُري والترف، والهوية تعني النقاب والتخلف، التقدم هو التطبيع مع القوى الإمبريالية، والمقاومة هي الإرهاب. نعوم تشومسكي قال: "الإعلام لا يحرّك الجماهير نحو الوعي، بل نحو ما تريد السلطة أن تفهمه كوعي." فالإعلام هنا أداة للهيمنة تكرّس التبعية، وتقتل الأمل.
سابعا: نماذج واقعية من التعليم والإعلام: كيف يُعاد إنتاج الهيمنة في الواقع العربي؟
1. تونس: إصلاحات الحداثة الشكلية، وعودة التعليم الديني المموَّه: رغم المحاولات بعد 2011 لإصلاح التعليم، سرعان ما عاد التعليم التونسي إلى ثنائية معيبة بين الحداثة الدستورية والهوية الدينية الزيتونية. التعليم الرسمي ما زال يعتمد على مناهج تقليدية لا تُحفّز التفكير النقدي، بينما انتشرت الجمعيات الدينية غير النقدية التي تغذي الفكر الظلامي. الطاهر لبيب وصف الوضع بدقة: "نحن نعيش حداثة معلّبة تُباع في الأسواق، لا تُنتج في المختبرات الفكرية." وبالفعل، ينتج النظام طلابا يعيشون صراعا داخليا بين خطاب الثورة والخطاب الديني المحافظ، مما يفرز وعيا مشوشا ومرتبكا. الإعلام في تونس، خاصة مع تحرر المجال السمعي البصري، تحول من فضاء تحرري إلى سوق للفرجة السياسية، حيث يُقدم المثقف إما ساخرا منهزما أو كأداة، بينما يُعاد تقديم الإسلامي المحافظ في صورة إنسان واقعي قريب من الشعب، ما يعزز من ازدواجية الاختيارات القاتلة بين حداثة مفرغة وظلامية مسلطة.
2. مصر: من تعليم ناصري نقدي إلى تعليم نيوليبرالي يقتل الخيال: في عهد عبد الناصر، بالرغم من السلطوية، حاول النظام إنشاء مشروع تعليمي ينشئ مواطنا مثقفا وعاملا، لكن هذا المشروع انهار تدريجيا مع الانفتاح الاقتصادي والسياسي لاحقا. سمير أمين وصف التحول: "تحول التعليم في مصر من مشروع تنموي إلى مشروع تجاري، وأصبح العقل عبئا على السلطة." حيث غابت الفلسفة وقضايا الصراع الطبقي، وصارت العدالة الاجتماعية ممنوعة، والإعلام صار يروّج لخطاب "الإرهاب أو النظام"، ليخنق أي صوت نقدي.
3. الخليج: وفرة التكنولوجيا وغياب الفكر: رغم الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية والتكنولوجيا، لا يزال التعليم في الخليج يعاني من غياب الفلسفة والنقد الاجتماعي والسياسي، حيث تُنتج أجيالا متمكنة تقنيا، لكنها محرومة من أدوات التفكير النقدي. فهمي جدعان وصف الحداثة الخليجية بأنها "حداثة تقنية، لا حداثة قيم." هذا يسمح بالاستبداد السياسي والديني بالاستمرار دون مقاومة حقيقية. الإعلام الخليجي يروج للولاء والطاعة، ويركز على الاستهلاك والتسلية، ويصوّر الغرب كمرجعية تقنية فقط، مما يعزز وهم التقدم دون وعي نقدي.
4. المغرب: المدرسة كأداة "للحفر الصامت" في العقل: عبد الله العروي يرى أن التعليم في المغرب أداة "تطويع هادئ"، حيث تتذبذب الهوية بين لغات متعددة وتناقضات ثقافية، وينتج النظام التعليمي طلابا خاضعين للغرب وللتراث الديني، في تكرار مستمر للاعتماد والتخلف. الإعلام المغربي، مثل التعليم، يعيد إنتاج نفس الأوهام، مما يحرم المجتمع من وعي نقدي حقيقي.
ثامنا: التحالف بين الحداثويين والمحافظين.
كيف يتعايش المتناقضون على ظهر الشعوب؟ يبدو أن الصراع بين الحداثة والظلامية هو في الأصل استقطاب زائف يخدم نفس النخب السياسية والاقتصادية التي تسعى إلى استمرار السيطرة. محمود أمين العالم قال: "الحداثة الشكلية والإسلام السياسي وجهان لرفض العقل النقدي الحقيقي، فالأولى تحصره في السوق، والثاني في النص."
1. الحداثويون: رأسماليون في السوق، ليبراليون في الشعار: النخب الحداثية تتبنى سياسات نيوليبرالية تفقّر الطبقات الشعبية وتضعف أي تنظيم اجتماعي، وترفع شعارات حقوق الإنسان لكنها تصمت عن الحريات الطبقية الأساسية.
2. الإسلاميون: معادون للحداثة القيمية، خُدّام لها اقتصاديا: حركات الإسلام السياسي تقبل السوق الحرة وشروطها، لكنها تهاجم الحريات الفكرية وحقوق المرأة، وتستخدم الدين لتبرير القمع. فرانس فانون قال: "الرجعية تُلبس العمامة أو القبعة، لكنها دوما تقف ضد الشعب."
3. تحالف تكميلي لا تصادمي: النظام القائم يستفيد من الاستقطاب الزائف بين الحداثة والظلامية، حيث يقدم كل طرف كبديل للآخر، لكن لا أحد منهما يطرح مشروعًا ثوريًا يغير الواقع الاجتماعي. إدوارد سعيد وصف الأمر بقوله: "من المريح للسلطة أن تجعل الشعب يختار بين ثقافة بلا خبز، أو خبز بلا حرية."
تاسعا: البديل اليساري: مشروع للتحرر، لا للتماهي مع الثنائية الزائفة.
اليسار الثوري يرفض هذا التقسيم الزائف بين الحداثة الرأسمالية والماضوية الدينية، ويرى أن السؤال الأساسي هو: "لمن نحن؟" لا "من نحن؟" مهدي عامل قال: "كل فكر لا يُربط بالواقع الطبقي، هو فكرٌ يُعيد إنتاج القهر ولو ظنّ أنه يحرر."
1. نحو حداثة شعبية نقدية: الحداثة ليست موضة، بل مشروع متكامل ينبثق من قاع المجتمع، يحرر المرأة والإنسان من الاستغلال، ويُحرر التعليم والدين من أسر السوق والكهنوت.
2. هوية مقاومة لا خاضعة: الهوية الحقيقية ليست ما يُفرض علينا، بل ما نُعيد بناءه عبر النضال، ليس بالعودة إلى الوراء، ولا بالاستسلام للغرب، بل عبر مقاومة التبعية والهيمنة.
3. الثقافة والمجتمع والتعليم والإعلام أدوات للنضال: على اليسار أن يبني مؤسسات ثقافية وتعليمية وإعلامية تعيد بناء وعي الناس، تعزز حرية الفكر، وتفكك خطابات القمع.
خاتمة: كسر العملة... نحو إنسان جديد.
في نهاية المطاف، لا يكفي أن نختار بين الحداثة والظلامية، بل يجب أن نكسر العملة كلها. العملة التي تختزل الإنسان في أداة أو تقدسه حتى يصبح عاجزا. علينا أن نعيد بناء الإنسان كغاية، لا كوسيلة، ونبدأ بسؤال جوهري: كيف نحرر الإنسان في عالم يعج بالقمع والاستلاب؟ وكيف نبني حداثة حقيقية ترتكز على حرية وكرامة الجميع؟ بدون هذا التحرر، ستظل مجتمعاتنا محاصرة بين حداثة مشوهة وظلامية قاتمة، تدور في دائرة مفرغة من التبعية والقهر. في خضم هذه الرحلة التي عرجنا فيها على تعقيدات الحداثة والظلامية في المجتمعات العربية، نخرج بحقيقة مؤلمة وصادمة: إن الحداثة التي وصلتنا ليست حداثة حرية، والظلامية التي تنتشر ليست رجعية محضة، بل هما وجهان مختلفان لنفس الجرح الاجتماعي والسياسي العميق، لحالة مستمرة من الاغتراب والاستلاب التي تهدد روح الإنسان وهويته. إننا لا نعيش صراعا حقيقيا بين ضوء وظلام، بل معركة محتدمة داخل النفس العربية بين ما هو مفتعل من قوى خارجية وداخلية، وبين ما يمكن أن يكون فعلا مشروعا تحرريّا ينهض بالإنسان من قيود التبعية والظلم. كل من الحداثة الظالمة والظلامية القمعية كانتا ولا تزالان أدوات لقهر الإنسان وإبعاده عن مركز التاريخ، ليبقى أسيرا لتناقضات لا تنتهي، وصراعات لا تولد إلا المزيد من الخراب. إذن، لا بد من كسر هذه الدائرة المغلقة، لا عبر اختيار أحد الطرفين، بل عبر تأسيس مشروع تحرري جديد يدمج بين عقلانية نقدية حقيقية وإيمان بالحرية والكرامة الإنسانية، لا كقوالب جاهزة تُفرض من الخارج، بل كنضال جماعي ينبع من وعي شعبي واعٍ بأدواته وبحقيقة تاريخه. مشروع يرفض الهيمنة الثقافية والسياسية، ويؤمن بالعدالة الاجتماعية والحرية الفردية، ويرفض الإقصاء والتمييز تحت أي شعارات كانت. لقد حذّرنا مفكرون كبار مثل فرانتس فانون وإرنستو تشي غيفارا من مخاطر استبدال قوى القهر، مهما كان لونها، بدعوى التحرر. فالتحرر الحقيقي لا يمكن أن يكون مجرد تبديل الأقنعة أو التمكين لقوى جديدة تُعيد إنتاج القهر تحت مسميات أخرى. علينا أن نعيد تعريف الإنسان، لا بوصفه مجرد كائن تابع أو عبد، بل كفاعل حقيقي في صنع التاريخ، قادر على الانعتاق من قيود الماضي وقيود الهيمنة. ولكي يكون هذا ممكنا، يجب أن تنطلق الحداثة الحقيقية من داخل المجتمع، من داخل شعوبها، لا كنسخة مستوردة أو فرض خارجي. عليها أن تكون حداثة تستوعب خصوصياتنا الثقافية، وتجمع بين العقل النقدي والفهم الإنساني العميق، تعيد بناء هويتنا على أساس العدالة والحرية، وتعيد للأمة دورها كفاعل حر، لا كرهينة تاريخية أو سلعة على طاولة مصالح القوى الكبرى. في الختام، تبقى المسألة مفتوحة، والتحدي الأكبر أمامنا هو أن نكون نحن، نحن فقط، من يكتب فصول هذا التاريخ الجديد، الذي يكسر العملة القديمة، ويرفع الستار عن الإنسان الحقيقي، الإنسان الذي لا يُقهر.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ما بعد الجمهورية: زمن الوحوش أم زمن الاحتمال؟
-
الخديعة الأمريكية الكبرى: الإمبريالية وخراب فلسطين.
-
اليسار التونسي: بين الأمس الإيديولوجي واليوم السياسي.
-
الأخلاق في الميزان السياسي في القرن 21.
-
الشعبية: من التحرير الرمزي إلى بناء السيادة الفعلية
-
قراءة في رواية -1984- لجورج أورويل.
-
الكتابة فعل نضال
-
جنوب يخرج من ظلّ الأمم المتّحدة: مقترحات للفكاك من نظام الغل
...
-
الحرف ساحة صراع طبقيّ: تفكيك الخطاب وتحرير اللغة من الهيمنة.
-
بيان نواة مجموعة يسارية متمرّدة
-
الرّأس
-
الى الرفيق جورج ابراهيم عبدالله مباشرة
-
اليسار المتحزّب واليسار المستقل: بين البيروقراطية والمقاومة.
...
-
عالم متعدد الأقطاب الإمبريالية: خرافة التوازن وخطر التجزئة.
-
صدى النازية في قلب الحداثة.
-
قراءة سريعة في كتاب معذّبو الأرض لفرانز فانون
-
ردّ على تفاعل نقدي من رفيق مع مقال- هل لا يزال لليسار معنى ف
...
-
هل لا يزال لليسار معنى في ظل العولمة النيوليبرالية؟ .
-
من اضغاث حقيقة متّهمة بالحلم. من المجتمع المدني إلى الجبهة ا
...
-
الرّئيس العربي : حين يتحوّل الصندوق الانتخابي إلى بوّابة للع
...
المزيد.....
-
رصدتها كاميرا بتقنية الفاصل الزمني.. حريق سريع الانتشار يشتع
...
-
ما الذي يحدث في مدينة الفاشر السودانية؟
-
هل يسمح حزب الله للحكومة اللبنانية بحسم ملف السيادة لصالح ال
...
-
رفض دولي لخطة إسرائيل للسيطرة على مدينة غزة
-
نائب الرئيس الأمريكي يؤكد عدم وجود خطط لدى واشنطن للاعتراف ب
...
-
هآرتس: الصمت أمام كابوس غزة استسلام
-
خبير عسكري: هذا خيار المقاومة بعد إقرار احتلال غزة
-
لماذا يحذر الخبراء من خطة نتنياهو احتلال كامل لقطاع غزة؟
-
تقرير يكشف آثار حرب الإبادة بغزة على الرياضيين الإسرائيليين
...
-
رسوم ترامب تدفع الهند لوقف صفقة أسلحة أميركية
المزيد.....
-
المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد
/ علي عبد الواحد محمد
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|