|
اليسار التونسي: بين الأمس الإيديولوجي واليوم السياسي.
رياض الشرايطي
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 02:21
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عرف اليسار التونسي تحولات عميقة منذ نشأته كحركة فكرية وسياسية متأثرة بالموجات الأممية الأولى للماركسية والاشتراكية، مرورا بتجذّره في الفعل النقابي والطلابي، وصولا إلى تمزقه بين المراجعات الفكرية والتنازلات السياسية في العصر الراهن. لم يكن اليسار في تونس مجرّد ظاهرة حزبية، بل كان تعبيرا عن روح تمرّد اجتماعي ضد الاستعمار والفقر والتمييز الطبقي، وقد ارتبط اسمه بأسماء مقاومين ومثقفين ساهموا في تشكيل الضمير النقدي للمجتمع. غير أن سؤال الراهن يفرض نفسه بإلحاح: أين يقف اليسار اليوم من المعارك الاجتماعية والسياسية التي تعصف بالبلاد؟ وأيّ معنى تبقّى من اليسار إن لم يكن منحازا لآلام المهمّشين، رافعا شعارات التحرر والعدالة؟ يقول أنطونيو غرامشي: "الأزمة تكمن في أنّ القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر الوحوش". فهل أصبح اليسار التونسي ضحية لهذا الفراغ؟
1. البدايات الإيديولوجية: الجذور الثورية والرهانات الأممية .
تكوّن اليسار التونسي في رحم المعارك الكبرى للتحرر الوطني والاجتماعي، مستلهما أفكار ماركس وإنجلز، متأثرا بالتجربة السوفيتية وبالماوية و التروتسكية، وبالمد اليساري في أمريكا اللاتينية في أحايين أخرى. لم تكن الأحزاب اليسارية الأولى مجرد آلات انتخابية، بل كانت منابر للتثقيف والتأطير والنضال ضد بقايا الاستعمار ومنظومته الطبقية، حيث رفع الطلبة والنقابيون راية العدالة الاجتماعية، والمساواة، والتحرر من التبعية الاقتصادية والثقافية. وقد لعبت الجامعة التونسية، خصوصا في الستينات و السبعينات والثمانينات، دورا مركزيا في تبلور الفكر اليساري، حيث ظهر " تيار افاق " و"العامل التونسي"، وتمّ اجتراح تعابير ماركسية محلّية تسعى لتفسير الواقع التونسي وفق منطق الصراع الطبقي والتحليل البنيوي. يقول لينين: "لا حركة ثورية بدون نظرية ثورية"، وقد كانت هذه القناعة حاضرة بقوّة لدى المناضلين الذين رأوا في التثقيف السياسي واجبا نضاليا لا يقلّ أهمية عن التظاهر أو الإضراب. غير أنّ هذا الزخم الإيديولوجي، الذي اتسم أحيانا بنزعة دوغمائية وانغلاق على الذات، لم يُترجم دائما إلى تفاعل عضوي مع الطبقات الشعبية، وظلّ محصورا في أوساط الطلبة والنخب الفكرية، مما جعله عرضة للتشرذم والانقسام بفعل الخلافات النظرية والتكتيكية.
2. التحولات السياسية: من المقاومة إلى التشتت والترويض .
مع دخول البلاد في مرحلة ما بعد الاستقلال، وجد اليسار نفسه في مواجهة مع نظام سلطوي يُحسن استيعاب خصومه أو تفكيكهم من الداخل. بين الاعتقال والنفي والملاحقة، تراجعت فاعلية الأحزاب اليسارية وتحوّلت أغلبها إلى دوائر مغلقة تدور في فلك الشعارات دون تأثير يُذكر في القاعدة الاجتماعية. ومع اندلاع "الثورة" في 2010/ 2011، ظنّ البعض أنّ اللحظة التاريخية حانت لعودة اليسار إلى الساحة بقوّة، لكنّ الواقع كشف عن مفارقة مريرة: فقد عجز اليسار عن تأطير الحراك الشعبي أو قيادته، بل وجد نفسه مُهمّشا من قبل قواعد اجتماعية لم تعد ترى فيه الحامل الحقيقي لمطالبها. وكما قال روزا لوكسمبورغ: "من لا يتحرك لا يشعر بسلاسلِه"، فإنّ كثيرا من الأحزاب اليسارية بدت كأنها تخلّت عن تحريك السلاسل واكتفت بالتفرّج على صخب الشارع. في انتخابات ما بعد الثورة، شارك اليسار تحت واجهات مختلفة وتحالفات متضاربة (الجبهة الشعبية، تحالفات انتخابية مرتجلة ...)، فوقع في فخ المزايدات الإيديولوجية والخلافات الشخصية، مما أدّى إلى تآكل رصيده الجماهيري وانقسامه مجددا. لقد تحوّلت بعض القيادات اليسارية إلى رموز لليأس السياسي بدلا من أن تكون بوصلة للتغيير. ولم يكن تراجع اليسار مجرّد فشل تنظيمي، بل انعكاس لتحوّلات أعمق في بنية المجتمع التونسي، حيث تغيّرت أولويات الناس وتراجعت الثقة في الخطابات الكبرى، بينما استمرّت النخب اليسارية في تكرار شعاراتها القديمة دون تجديد في الأدوات أو الممارسة. ومع ذلك، لا تزال بعض البذور قائمة: مبادرات شبابية جديدة، تحالفات ميدانية في النضالات النقابية والبيئية، محاولات لاستعادة الصلة بالمهمّشين. فهل ينجح اليسار التونسي في إعادة ابتكار نفسه؟ أم سيظلّ أسير ماضيه الإيديولوجي وعاجزا عن معانقة المستقبل؟ اليسار التونسي يقف اليوم في مفترق طرق مصيري: إمّا أن يعيد بناء نفسه من رحم المعارك الاجتماعية الحقيقية، ويقطع مع الطهرانية الإيديولوجية والانتهازية السياسية، وإمّا أن يظلّ مجرّد صدى خافت لزمن مضى. لقد آن الأوان لأن يتحرّر اليسار من أسر النخبوية، وأن يستعيد موقعه الطبيعي في قلب المعارك اليومية للطبقات الكادحة، أن يتحوّل من الندوة إلى الحي، من التنظير إلى الفعل، من المعارضة الشعاراتية إلى التنظيم الشعبي. فكما قال الثائر إرنستو "تشي" غيفارا: "الثورة ليست تفاحة تسقط عندما تنضج. عليك أن تجعلها تسقط". وعلى اليسار التونسي أن يعيد الإمساك بغصن هذه التفاحة، لا من أجل السلطة في ذاتها، بل من أجل تحقيق مشروع تحرري يُعيد للسياسة معناها، وللشعب كلمته، وللثورة وعدها المؤجل.
3. مناضلو الأمس ومأزق الرمزية: حين تتحول الصور إلى متاحف نضال جامدة.
لقد أصبح جزء واسع من وجوه اليسار التاريخي اليوم رموزا بلا فاعلية، وصورا عالقة في ألبوم الذاكرة، تُستعاد في المناسبات، وتُقدّم كأيقونات نضالية "مؤسسة" بدل أن تكون نيرانا ثورية قابلة للاشتعال. لم تعد هذه الرموز تتقدم الصفوف، بل وقفت عند "أسطر الأمس"، تردد مقاطع محفوظة من أدبيات القرن العشرين دون أن تجترح مواجهة مع الحاضر المأزوم. فقد "أصبح بعض الثوريين حراسا للماضي"، كما قال أنطونيو غرامشي، يتداولون المجد القديم على أرصفة العجز الحالي. وهنا تكمن إحدى المآسي: أن تتحول "الثورة" إلى تمثال، والنضال إلى صدى. إن رموز اليسار التي خاضت معارك بطولية ضد الاستعمار والاستبداد، تُستدعى اليوم للتبرك، لا للتمرد. كثيرون منهم تحوّلوا إلى «مخزون شرف» محفوظ في خطابات المناسبات، في حين يُستعمل تاريخهم كـ"رخصة أخلاقية" للسكوت عن الفشل، أو تبرير الصفقات، أو تبرئة المسار الحالي من أي نقد. فـ"الشرعية التاريخية لا تضمن الأحقية السياسية" كما يكتب المفكر الماركسي دانييل بن سعيد، ولا تبرر الجمود ولا الانسحاب من المعركة الطبقية الراهنة. فما فائدة المناضل إن لم يكن حاضرا في قلب الصراع الاجتماعي والطبقي؟ ما جدوى الصور القديمة إن لم تُترجم إلى مواقف جديدة؟ إن الجيل الجديد لا يطلب أساطير، بل يتوق إلى قيادات حية تتحمل مسؤولياتها التاريخية من جديد، تُجدد الفكر، وتخوض الفعل، وتكفّ عن التلويح بأوراق الثورة الماضية كأنها شيك مفتوح.
4. هشاشة البنية التنظيمية: يسار مفتت في مشهد سياسي متشظي.
من بين أبرز الإشكاليات التي يعاني منها اليسار التونسي اليوم، ما يمكن تسميته بـ"الهشاشة البنيوية المزمنة". فحتى بعد مرور أكثر من عقد على اندلاع "الثورة" ، لم ينجح اليسار في توحيد صفوفه أو بناء جبهة شعبية حقيقية تستوعب تنوعاته الإيديولوجية، وتؤطر نضالاته الاجتماعية ضمن رؤية موحدة. وما زالت الانقسامات القديمة تتكاثر تحت مسميات جديدة، في تكرار رتيب لمأساة التنظيم اليساري. فكل تيار ينشطر إلى تيارات، وكل مبادرة وحدوية تُجهض بفعل الحسابات الصغيرة، والأنا المتضخمة، والتنافس المرضي على الشرعية التاريخية أو التحكم في الهياكل. وغالبا ما تكون خلافات شكلية، بينما التناقضات الحقيقية مع خصوم الشعب الطبقيين، من بورجوازية طفيلية ومافيات اقتصادية وتحالفات أمنية-سياسية، تمر دون مواجهة جذرية. وكما كتب لينين ذات يوم: "التنظيم هو السلاح الأهم للثوري"، فإن غياب البناء التنظيمي الفاعل والمتجدد، يجعل حتى الأفكار الثورية الأكثر صدقا، حبيسة المقالات أو الجدران، دون أي أثر على الأرض. فاليسار الذي لا يُهيكل ذاته ضمن أدوات نضالية مرنة وصلبة في آن، سرعان ما يتحول إلى مجرد ناد فكري أو تكتل نخبوية مفصولة عن الشارع. إن الجماهير لم تعد تنتظر "البيانات الطويلة" أو "اجتماعات التنسيقيات"، بل تبحث عن صوت يساري ميداني ينزل إلى الأحياء المهمشة، إلى المصانع، إلى الحقول، إلى الجامعات، ويخوض المعركة مع العاطلين عن العمل، مع الفلاحات المنسيات، مع التلاميذ الذين يسقطون في هوة التعليم الطبقي. فالهياكل إن لم تكن جسورا تربط الفكر بالحياة، فإنها تتحول إلى "مقابر سياسية".
05. اليسار بين الشعارات الكبرى واستحقاقات الواقع.
ظلّ اليسار التونسي، خاصة في أوجهه التاريخية، متمسّكا برمزية الشعارات الكبرى، التي كثيرا ما رفعتها الحركات الثورية عالميا من قبيل: "يا عمّال العالم اتّحدوا"، "لا صوت يعلو فوق صوت الجماهير"، "كلّ السلطة للسوفيات"، "إمّا الاشتراكية وإمّا البربرية"، شعارات مثّلت في زمنها منارات نظرية ورمزية ألهمت الفعل الثوري وساهمت في بناء الخيال السياسي الأممي. غير أنّ هذه الشعارات، رغم قوتها التعبوية والتأريخية، ظلّت في كثير من الأحيان مفصولة عن استحقاقات الواقع المحلّي، وخصوصية البنية الاجتماعية والسياسية التونسية، وهو ما خلق فجوة بين المثقّف اليساري الذي "يتكلم ماركسية" والواقع الذي يتكلم لغات أخرى، محلية ومعقدة ومتضاربة. لقد كان الشاعر والمناضل المصري أحمد فؤاد نجم يقول بسخرية مريرة: "الشعارات زي البخور... ريحتها حلوة بس ما تشبعش"، وهو توصيفٌ يمكن أن ينطبق على الحالة اليسارية التونسية لعقود. حيث ظلّ جزء كبير من النخبة اليسارية حبيس القوالب النظرية الكلاسيكية، عاجزا عن تطوير أدوات تحليل واقعية قادرة على تفكيك البنية السياسية ما بعد الاستعمار، ومفصولة عن هموم الطبقات المهمشة التي يدّعي تمثيلها. وفي ظلّ هذا الانفصام، ظهرت نخب يسارية أكثر اهتماما بإنتاج النصوص النظرية، وخوض الصراعات الهوياتية والثقافوية، على حساب القضايا الاجتماعية والمعيشية للفقراء والمعدمين، ما حوّل الخطاب اليساري إلى خطاب نخبوي عاجز عن التأثير في القاعدة الشعبية، وفاقد للشرعية الاجتماعية. هذا التناقض البنيوي بين الطموح الثوري والضعف التأثيري قاد كثيرا من الأصوات داخل اليسار إلى المراجعة والنقد الذاتي، ولكنّه لم يتحوّل إلى مراجعة شاملة واستراتيجية.
06. إخفاق الترجمة الاجتماعية: لماذا لم يصبح اليسار حزب الفقراء؟.
رغم تبنّيه المعلن لقضايا الكادحين، لم ينجح اليسار التونسي ، في مجمله ، في الترجمة الاجتماعية لهذا الالتزام السياسي والأخلاقي. فبقي حضور اليسار محصورا في المدن الكبرى، في الجامعات، وفي أوساط النخب الثقافية والطلابية، دون أن ينجح في التمدد الحقيقي إلى الفئات الاجتماعية التي يفترض أن تمثل قاعدته الطبيعية: الفلاحين الصغار، العمال الزراعيين، عمال المصانع، المهمشين في الأحياء الشعبية، النساء الريفيات، يقول المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي: "لا يمكن لأي حركة ثورية أن تكتفي بالفكر النقدي، بل عليها أن تخلق المثقف العضوي القادر على ربط النظرية بالممارسة وسط الطبقات الشعبية". ووفق هذا المنظور، لم يستطع اليسار التونسي أن يخلق هذا "المثقف العضوي"، بل ظلّ حبيس الجامعة أو مقر الحزب، يوزع البيانات وينظّر للثورة، دون أن يعايش تفاصيل البؤس الاجتماعي أو يشارك فيه. ولم يكن العائق ماديا فقط، بل ثقافيا أيضا: إذ فشل اليسار في تطوير خطاب بسيط وعميق في آن، قادر على النفاذ إلى الوعي الشعبي، بل إن خطابه ظلّ في كثير من الأحيان "مؤدلجا" بلغة أكاديمية مغلقة لا تصل إلى عمق الأوجاع اليومية لعاملات الحقول أو المواطن البسيط في السوق الأسبوعي. كما أنّه لم يقدّم حلولا ملموسة لأزمات الناس اليومية، وظلّ يتحدث عن الاشتراكية والمساواة كمثل عُليا مؤجلة. ولذلك بقيت الجماهير الشعبية، رغم غضبها واحتجاجها، تبحث عن بدائل أخرى، في أغلبها محافظة أو دينية، لا لاقتناع فكري بمرجعياتها، بل لعجز اليسار عن التجذّر داخل هذه الأوساط.
7: أزمة المشروع الثوري اليساري.
إنّ أحد أبرز أوجه أزمة اليسار التونسي اليوم تتجلى في غياب المشروع الثوري الواضح، المتكامل، القادر على أن يقود الجماهير في وجه الردة النيوليبرالية والتسلط السياسي. فبعد أن انحسر الحلم الاشتراكي الكبير عقب سقوط الكتلة السوفياتية، بدا وكأنّ اليسار التونسي فقد بوصلته، واكتفى بتمجيد تاريخه النضالي بدل أن يطوّر أدوات قراءة جديدة للواقع التونسي المتغير. لقد تحوّل الخطاب الثوري لدى العديد من مكونات اليسار إلى مجرّد شعارات جوفاء، يُعاد اجترارها في المناسبات، دون أن يُترجم ذلك إلى فعل تنظيمي شعبي وعملي. وهو ما أشار إليه المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي حين قال: "الأزمة تكمن في أن القديم يحتضر والجديد لم يولد بعد، وفي هذا الفراغ تظهر أعراض غاية في الخطورة". إنّ غياب المبادرة السياسية الراديكالية الملموسة التي تنبثق من صلب معاناة الكادحين يجعل من اليسار طيفًا صوتيًا لا أكثر. ولعلّ التجربة المصرية بعد 2011 تبرز هذا المأزق ذاته: حين تفككت قوى اليسار بسبب غياب قيادة موحّدة ومشروع بديل عن الدولة القديمة، فتمكّنت الثورة المضادة من إعادة إنتاج نفسها بسرعة وقسوة. وهذا المثال يمكن أن يُسقط على تونس، حيث لم يقدّم اليسار منذ 2011 خطابا جماهيريا متجذرا في قضايا الطبقات الشعبية، بل ظلّ حبيس المساجلات الإعلامية والبرلمانية. إنّ أزمة المشروع الثوري لا تتعلّق فقط بالتنظير السياسي، بل تشمل كذلك البنية التنظيمية المتآكلة لجلّ المكونات اليسارية، التي لم تعد قادرة على استيعاب الطاقات الجديدة من شباب الأحياء الشعبية والطلبة والنقابيين المستقلين. لذلك، فإنّ المهمة الملحّة اليوم لا تكمن في إعادة قراءة الماضي فقط، بل في صياغة أفق سياسي ثوري جديد، يستمد جذوته من الميدان، لا من أرشيف الأيديولوجيات الجاهزة.
08: ضعف الارتباط العضوي بالجماهير.
من بين الأعطاب الجوهرية التي يعاني منها اليسار التونسي المعاصر، غياب ذلك "المثقف العضوي" كما وصفه غرامشي، القادر على التواجد وسط الجماهير، والاشتباك معها في معاركها اليومية، وتفكيك الخطابات السائدة لتقديم بدائل ذات مصداقية. فاليسار، في العديد من تجلياته، انكفأ داخل فضاءات النخب، واكتفى بتحليل الواقع من موقع المتفرّج أو المعلّق السياسي، بدل أن يكون طرفًا فاعلا فيه. لقد تراجع اليسار عن دوره التأطيري وسط العمال والعاطلين والمهمّشين، وهو ما أفرغ خطابه من أيّ جاذبية جماهيرية. حتى النقابات التي كانت تشكل خزانا نضاليا لليسار، باتت بعيدة عنه، بسبب التكلّس الذي أصاب العمل القاعدي، وتراجع دور الخلايا اليسارية داخل الهياكل القطاعية. كما أنّ القرى والأرياف، التي تعاني من الإقصاء المزمن، لم تشهد حضورا فعليا لليسار يؤطّر احتجاجاتها العفوية، ويحوّلها إلى طاقة تنظيمية ثورية. قال لينين ذات يوم: "الحزب لا يربح الجماهير من خلال الخطب فقط، بل من خلال خوض معاركها اليومية"، وهذا ما غاب عن عقل ووجدان يسارنا، الذي بات يُنظر إليه بوصفه "نخبة محتجبة"، وليس "أداة تحرّر". إنّ ضعف الارتباط بالجماهير لا يعني فقط الابتعاد المادي، بل الفكري والرمزي أيضا. إذ لم يستطع اليسار أن يبلور خطابا يُلامس معيش الطبقات الدنيا، ويستبطن لغتها، وهمومها، وأحلامها. فغابت اللغة الشعبية من أدبياته، وغاب التحليل الطبقي الحيّ، وحلّ محلّهما التبسيط أو النخبوية المفرطة. إنّ بناء يسار جماهيري لا يكون إلا باستعادة الثقة من القاعدة، وبالوجود الحقيقي وسط الاحتجاجات، في الأحياء، في الحقول، في المعامل، في الأسواق. أي هناك، حيث تصاغ السياسة الحقيقية.
9. اليسار التونسي وأزمة الرؤية الاستراتيجية: البحث عن مشروع موحد.
مع تصاعد تعقيدات المشهد السياسي والاجتماعي في تونس بعد "الثورة"، وجد اليسار نفسه في أزمة عميقة على مستوى الرؤية والاستراتيجية. فالعديد من المكونات اليسارية، رغم تعدد ألوانها الإيديولوجية، لم تتمكن من تقديم مشروع سياسي واضح قادر على إقناع الجماهير باستعادة الثقة وإعادة صياغة الأهداف. هذا الفراغ الاستراتيجي أدى إلى انقسام اليسار إلى أجنحة متناحرة، غالبا ما تصبّ طاقاتها في صراعات داخلية على المناصب والتمثيل، بدلا من التركيز على قضايا الجماهير الحقيقية. كما قال الفيلسوف الايطالي ألبيرتو موراڤيا: "الانقسام لا يولد قوة، بل يضاعف الضعف"، وهذا ما وقع في تجربة اليسار التونسي الذي تفتّت ولم يستطع تحقيق الوحدة حول برنامج سياسي وطني اجتماعي يعيد الأمل لكادحي البلاد. هذه الأزمة تظهر بوضوح في التشتت بين جبهات وأحزاب يسارية كثيرة، منها من انخرط في السلطة، ومنها من اختار المعارضة ، وهناك من تراوح في وسط لا يملك قدرة على الفعل الجماهيري الفعّال. كان يمكن "للثورة" التونسية أن تكون منطلقا لإعادة بناء يسار موحد ومتجدد، لكن التردد والتنافر والانقسامات السياسية عرقلت هذا المسار، فظل اليسار يتأرجح بين الاستقطاب الإيديولوجي القديم والواقعية السياسية المترددة، مما أفقده جذوره الاجتماعية وأضعف موقعه أمام صعود التيارات الأخرى، خاصة الإسلامية والنيوليبرالية.
10. الجيل اليساري الشاب: تحديات وآفاق جديدة.
في وسط هذا الواقع المعقد، يبرز جيل جديد من الشباب اليساري في تونس، يختلف عن الأجيال السابقة في توجهاته، وأسلوب نضاله، واهتماماته بالقضايا الاجتماعية والثقافية والبيئية. هذا الجيل لا يتقيد بقوالب التنظيمات التقليدية ولا بالخطابات الأيديولوجية الجامدة، بل يبتكر أدوات نضالية جديدة، يستخدم فيها الوسائط الرقمية، ويتواصل بشكل مباشر مع فئات مجتمعية متنوّعة، من الطلاب إلى الكادح، ومن نساء الأحياء الشعبية إلى نشطاء حقوق الإنسان. ويشكل هذا الجيل قاطرة تجديد مهمة لليسار التونسي، فهو يرفض الانغلاق على الذات، ويرفض التراجع إلى خطاب الإيديولوجيات القديمة التي أثبتت محدوديتها في التفاعل مع الواقع الجديد. الشباب اليوم يطرح أسئلة جديدة، ويبحث عن يسار لا يُحتكر ولا يُقيد، يسار يؤمن بالتحرر والعدالة و الحرية وحق الاختلاف. لكن، يواجه هذا الجيل تحديات ضخمة، منها ضعف الموارد التنظيمية، التشتت بين مجموعات مختلفة، صعوبة الوصول إلى القواعد الشعبية، ومحاولات النظام السياسي لإقصائه عبر تشريعات قمعية أو عبر تهميش قضاياه في الإعلام. ورغم ذلك، فإنّ الحراك الشبابي اليساري لا يزال يحمل في طياته بذور مقاومة فاعلة قد تعيد لليسار التونسي دوره التاريخي في قيادة التغيير.
11. اليسار التونسي بعد "الثورة": لحظة الانكشاف والرهان على المستقبل.
كانت "الثورة" التونسية عام 2011 لحظة تاريخية استثنائية، رغم اسقاطها رأس النظام الاستبدادي فقط ، بل كشفت أيضا عن هشاشة وتجاذبات المشهد السياسي بأكمله، وبالذات عن مأزق اليسار التونسي. لم يكن اليسار في قلب الثورة فقط، بل كان من بين القوى التي ساهمت في إشعال شرارتها الأولى، لكن مع زوال نظام بن علي، واجه تحديات جساما. فالانفجار الشعبي الذي اجتاح الشوارع والساحات كان "ثورة" لم تُقنن بعد إلى مشروع سياسي واضح، وكان من المفترض أن يكون اليسار قادته الفكري والسياسي، لكن الواقع جاء مختلفا. فقد شهدت هذه المرحلة انقسامات داخلية حادة بين التنظيمات اليسارية التي كانت متنافرة قبل "الثورة"، فانفصلت بعض التيارات نحو مواقف أكثر انغلاقا وأخرى نحو مجالات أقل ثورية. تلك الانقسامات جعلت من اليسار في وضع ضعف تنظيمي وتشتت قيادي، بينما كانت القوى الأخرى، خصوصا التيارات الإسلامية والنيوليبرالية، تشتغل بخطى أسرع وأدوات أكثر فاعلية. عانى اليسار أيضا من فقدان ثقته الجماهيرية، خصوصا الشباب الذين لم يجدوا في الأحزاب اليسارية الخطاب العصري الحي الذي يعكس همومهم الحقيقية. وعبرت هذه الفجوة عن نفسها من خلال قلة تمثيله في الانتخابات، وضعف قدرته على ترجمة النضالات الميدانية إلى مكاسب سياسية ملموسة. المفكر المغربي محمد عابد الجابري كان يقول في إحدى محاضراته: "الثورة بدون مشروع واضح هي مثل السفينة بلا بوصلة، تنجرف في عرض البحر بلا وجهة"، وهذا بالضبط ما حدث مع اليسار بعد "الثورة"، حيث أضاع الزمن السياسي في محاولات تنسيق داخلية وصراعات على القيادة، بدلا من استثمار الزخم الشعبي لبناء مشروع اشتراكي ديمقراطي قادر على مقاومة موجات النيوليبرالية التي اجتاحت تونس. وبينما انخرطت بعض التنظيمات في الحوارات البرلمانية، غاب اليسار عن الساحات الشعبية التي كانت تتصاعد فيها مطالب العدالة الاجتماعية، وترك المجال فارغا لقوى غير يسارية استغلت حالة الإحباط والفقر للتمدد. يقول المفكر البرازيلي ألسيديس ميلير: "اليسار لا يموت لأنه فقد السلطة، بل يموت عندما يفقد روحه الجماهيرية". وهذا ما يواجهه اليسار التونسي في محطته الراهنة، إذ لا يكفي وجوده على منصات الإعلام أو داخل البرلمان، بل لا بد أن يكون متجذرا في معاناة الناس وفي معاركهم اليومية.
12. التحديات الاقتصادية والاجتماعية وأزمة الخطاب: مفترق الطرق.
بعد "الثورة ، دخلت تونس في دوامة أزمات اقتصادية واجتماعية معقدة، تفاقمت بفعل سياسات تقشف متعاقبة، ارتفاع معدلات البطالة، تفشي الفقر، وغلاء المعيشة. في هذا السياق، ظهر بوضوح عجز اليسار عن تقديم خطاب اجتماعي اقتصادي ملموس ومقنع، قادر على مخاطبة أوسع شرائح الشعب، خصوصًا الفئات المهمشة التي كانت من أهم الداعمين "للثورة". فاليسار، الذي يُفترض به أن يكون صوت الطبقات الكادحة، وجد نفسه محاصرا بين الخطاب الإيديولوجي النظري الصلب، الذي غاب في كثير من الأحيان عن الواقع اليومي المعقد، وبين هيمنة الخطابات النيوليبرالية التي استغلت الفراغ السياسي لتعميم مفاهيم السوق والربح الفردي على حساب التضامن الاجتماعي. يقول المفكر الفرنسي بيير بورديو: "الخطاب السياسي يجب أن يكون ذا صلة وثيقة بالحياة اليومية للناس، وإلا فإنه يصبح كلاما بلا وزن ولا تأثير". وهذا ما حصل مع اليسار التونسي، الذي ظل يتحدث عن العدالة الاجتماعية والاشتراكية، لكنه لم يكن قادرا على ترجمة ذلك إلى مشاريع واقعية تحسّن حياة الناس في المدن والقرى. كما أظهر اليسار ضعفا في قراءة تداعيات العولمة على الاقتصاد التونسي، وتأثيرات السياسات المالية الدولية التي فرضت على الدولة تراجعات في الخدمات الاجتماعية، وتفكيكا لنظم الحماية الاجتماعية. فبقي خطاب اليسار في إطار المقولات العامة، دون أن يقدم تحليلات عميقة ترتبط بتجارب التونسيين اليومية، مثل أزمة البطالة بين الشباب، وتدهور الخدمات الصحية والتعليمية، وتردي الأوضاع في المناطق الداخلية. وهذا الفشل في التجسير بين الخطاب والنضال الاجتماعي فتح المجال أمام قوى أخرى، مثل الحركات الإسلامية المحافظة أو التيارات الليبرالية الجديدة، التي استغلت هذه الثغرات لتوسيع قواعدها الشعبية، رغم التناقضات الواضحة في برامجها. علاوة على ذلك، أضافت الأزمة الاجتماعية بعد "الثورة" تعقيدات جديدة، إذ تحولت الاحتجاجات المطلبية إلى موجات متكررة من الغضب الشعبي، غالبا ما تكون خارج السيطرة السياسية، ما شكل تحديا إضافيا لليسار الذي لم يكن قادرا على احتضان هذه الحركات وتحويلها إلى قوة تنظيمية فاعلة. وهكذا، فقد اليسار أمام أعيننا فرصة تاريخية لإعادة بناء مشروع وطني ديمقراطي يعيد الأمل ويحقق مطالب العدالة الاجتماعية، لكنه لم يستطع حتى الآن تجاوز هذه العقبات الجوهرية.
13. التداخل بين القضايا: البيئة، النوع الاجتماعي، والهوية — ميدان جديد للنضال اليساري .
لقد أدرك اليسار التونسي في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد تجارب "الثورة" وما تلاها، أن النضال الطبقي وحده لم يعد يكفي لاستيعاب تعقيدات الواقع الاجتماعي والسياسي المتغير. فقد برزت قضايا جديدة حاملة لأبعاد عميقة تتقاطع مع النضال الاجتماعي التقليدي، أبرزها قضايا البيئة، النوع الاجتماعي، والهوية الثقافية. هذه القضايا لم تعد مجرد موضوعات هامشية، بل أصبحت محورا لا غنى عنه لأي مشروع يساري يسعى للبقاء والتجديد. ففي ما يخص قضية البيئة، صار واضحا أن الأزمة البيئية، من تلوث المياه إلى التصحر وتدهور الأراضي الزراعية، لا تعني فقط تدهورا بيئيا بل هي أيضا أزمة اجتماعية واقتصادية تمسّ بشكل مباشر الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، خاصة الفلاحين والعاملين في القطاعات الزراعية والصناعية. لقد كشفت احتجاجات العديد من المناطق الداخلية، مثل احتجاجات "قفصة" و"قابس"، عن مدى ارتباط النضال البيئي بالنضال الطبقي، حيث كانت المطالب البيئية تتقاطع مع مطالب العمل الكريم، والحقوق الاقتصادية، والعدالة الاجتماعية. وهنا يواجه اليسار التونسي تحديا حقيقيا في بناء خطاب شمولي يدمج البيئة في قلب برنامجه السياسي، بعيدا عن الخطاب الاقتصادي الجاف الذي يغفل البعد الإيكولوجي. أما قضايا النوع الاجتماعي، فقد شهدت تونس تحولات بارزة خاصة بعد "الثورة"، حيث صار الحديث عن حقوق المرأة، والعنف القائم على النوع الاجتماعي، والمساواة بين الجنسين من القضايا المحورية على الساحة العامة. ورغم أن اليسار التونسي يحمل تاريخا من الدفاع عن حقوق المرأة، فإنه لم يكن دوما قادرا على مواكبة النضالات النسوية الحديثة، التي رفعت مطالب أكثر جرأة في مواجهة النظام الأبوي الذي لا يزال متجذرًا في مجتمعنا. يواجه اليسار هنا أزمة في الممارسة والخطاب؛ فمن جهة، هناك محاولات للانخراط في هذه القضايا، ومن جهة أخرى، ما زالت بعض التيارات تحمل تصورات تقليدية تحدّ من فاعلية الانخراط النسائي، أو لا تعطيه الأولوية الكافية. هذا التباين أحيانا يثير خلافات داخلية ويضعف القدرة على بناء جبهة نسائية يسارية متماسكة. إن النضال من أجل المساواة بين الجنسين وحقوق المرأة ليس ترفا فكريا، بل هو جزء لا يتجزأ من مشروع التحرر الطبقي والإنساني. أخيرا، تأتي قضايا الهوية الثقافية لتضيف بعدا جديدا آخر. فالتونسيون يعيشون في واقع متعدد الثقافات، مع تقاطعات بين العروبة، الأمازيغية، الإسلامية، والحداثة العالمية. هذا التنوع يتطلب خطابا يساريا جديدا قادرا على احتضان الاختلاف، والتصدي لسياسات التهميش الثقافي التي قد تستخدم كأدوات لتقسيم المجتمع وإضعاف قواه. الخطاب اليساري الذي يرفض الاختلافات أو يغلق الباب أمام تعدد الهويات يُخاطر بفقدان قاعدة واسعة من الجماهير. كما يقول المفكر الفرنسي ميشيل فوكو: "السلطة لا تُمارس فقط بالقمع، بل أيضا بتحديد من يُسمح له بالظهور والحديث". ومن هنا يبرز دور اليسار في فتح مساحة للهوية والتنوع، لا كبديل للنضال الطبقي، بل كرافد ضروري له.
14. الديمقراطية الاشتراكية: الطريق إلى النهوض الحقيقي.
في مواجهة كل هذه التحديات والتعقيدات، بات من الواضح أن النهوض الحقيقي لليسار التونسي لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال تبني نموذج الديمقراطية الاشتراكية، كنموذج يجمع بين الحريات السياسية والفردية، والعدالة الاجتماعية الاقتصادية. الديمقراطية الاشتراكية ليست مجرد كلمة أو شعار، بل هي رؤية شاملة تهدف إلى خلق نظام سياسي يضمن مشاركة فعالة لجميع المواطنين في تقرير مصيرهم، ويعزز دولة اجتماعية قوية قادرة على تنظيم الاقتصاد لصالح الجميع، وليس فقط النخبة أو رأس المال. تاريخيا، أثبت هذا النموذج في العديد من الدول الأوروبية – رغم عيوبه – قدرته على تخفيف حدة الاستغلال الطبقي، وتعزيز الخدمات الاجتماعية والتعليم والصحة، وتوفير فرص عادلة للعمل والعيش الكريم. كما أنه يوفر إطارا دستوريا وسياسيا يحمي الحقوق الفردية والجماعية، ويكفل وجود مؤسسات ديمقراطية شفافة وفاعلة. في السياق التونسي، الديمقراطية الاشتراكية تمثل أملا بديلا عن النظام النيوليبرالي الذي عمّق الفوارق الاجتماعية وزرع اليأس بين الجماهير. فبناء دولة اشتراكية ديمقراطية يعني تقوية مؤسسات المجتمع المدني، تمكين النقابات والمنظمات الشعبية، إعادة توزيع الثروة بشكل عادل، وتنمية القطاعات الحيوية بعيدا عن الرأسمالية الطفيلية. كما قال الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس: "لا ديمقراطية بدون مشاركة حقيقية، ولا عدالة بدون اقتصاد منظم يخدم الناس"، وهذه الكلمات تعكس جوهر النضال اليساري المعاصر الذي يجب أن يدمج بين الديمقراطية والاشتراكية في بوتقة واحدة. لكن لتحقيق هذا الحلم، يجب على اليسار أن يتجاوز أخطاء الماضي، وأن يضع برنامجه على أسس واقعية تراعي خصوصيات المجتمع التونسي، وأن يعمل على بناء تحالفات شعبية تضم الفلاحين، العمال، الشباب، النساء، والطبقات الوسطى المتعثرة. هذه الديمقراطية الاشتراكية لا تعني رفض السوق أو الاقتصاد الحر بالمطلق، بل تعني ضبط السوق وتنظيمه عبر سياسات عامة تراعي العدالة الاجتماعية، وتمنع احتكار الثروة، وتدعم التنمية المستدامة والعدالة البيئية.
15. العلاقات الدولية والبوصلات الأممية: شريان حياة اليسار التونسي .
في عالم يتشابك فيه الاقتصاد والسياسة والثقافة عبر الحدود، لا يستطيع أي مشروع يساري أن يبقى منعزلا في إطار وطني ضيق دون أن يربط نضاله بمعركة أكبر وأشمل على مستوى القضايا العالمية. لقد أدرك اليسار التونسي منذ البداية أن قضيته ليست فقط محلية أو وطنية، بل جزء من نضال عالمي ضد الاستعمار، الرأسمالية الجشعة، والهيمنة الإمبريالية. وتظل القضية الفلسطينية، على وجه الخصوص، بوصلة سياسية وأخلاقية لا يتنازل عنها اليسار التونسي عبر العقود. هذه القضية التي تمثل رمزا صريحا للمقاومة ضد الاحتلال والاستعمار، تذكّر اليساريين في تونس بأن النضال من أجل الحرية والعدالة يمتد خارج الحدود، وأن تضامنهم مع الفلسطينيين ليس مجرد موقف سياسي بل واجب أخلاقي يرسخ قيم التضامن الأممي. على مدار سنوات، كان اليسار التونسي من أوائل الداعمين للقضية الفلسطينية عبر مشاركاته في المظاهرات، حملات مناهضة التطبيع، ومناصرة حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. كما حافظ على علاقات متينة مع حركات التحرر في أمريكا اللاتينية، أفريقيا، وآسيا، مستفيدا من تجاربها في مقاومة الاستعمار ونماذج الاشتراكية العملية. يقول المناضل الفلسطيني جورج حبش: "نحن جزء من حركة التحرر العالمية، لا حدود لها ولا حدود لنا". وهذا القول يؤكد على ضرورة أن يرى اليسار التونسي في نفسه امتدادا لنضال أكبر، وأن يعيد ترتيب أولوياته وفقا لعلاقات القوة العالمية. لكن، وفي الوقت ذاته، يواجه اليسار التونسي تحديات كبيرة في هذا المجال، منها ضعف الموارد، محدودية التواصل، ومحاولات القوى الإمبريالية والإقليمية لاستقطاب النخب السياسية وإضعاف الروابط الأممية. كما أن تعقيدات النظام الدولي الحالي، وتداخل المصالح، تدفع باليسار إلى ضرورة تطوير استراتيجيات جديدة للانخراط في الحراك الدولي، لا تكتفي بالتضامن الرمزي، بل تساهم في بناء تحالفات قوية تدعم التغيير العالمي.
16. دور الإعلام الجديد والتقنيات الرقمية: معركة الوعي في العصر الرقمي.
لم يعد الإعلام التقليدي هو الوسيلة الوحيدة لنشر الأفكار وبناء الوعي السياسي، إذ أتاح التطور الهائل في وسائل الاتصال الرقمية فرصة غير مسبوقة للتيارات السياسية، لا سيما اليسار الذي طالما عانى من إقصاء من وسائل الإعلام السائدة. وسائل التواصل الاجتماعي، المنصات الرقمية، والفضاءات الإلكترونية أصبحت ساحات حيوية لتعبئة الرأي العام، وتشكيل الخطاب السياسي، والتفاعل مع الجماهير، خصوصا الشباب. هذا التغيير لا يقتصر على التقنية فقط، بل يعكس تحولا في طبيعة السلطة والمعرفة، إذ باتت السيطرة على أدوات التواصل الرقمية تحدد بشكل كبير من يملك القدرة على التأثير في موازين القوى السياسية. اليسار التونسي، رغم بعض البطء في التكيف، بدأ يدرك أهمية هذه الأدوات، وظهرت مبادرات شبابية تستغل الفضاء الرقمي لإعادة صياغة الخطاب اليساري، من خلال حملات توعية، بث مباشر للتظاهرات، إنتاج محتوى ثقافي ونقدي، وتنظيم مجموعات نقاش افتراضية. كما أن هذا الإعلام الجديد يكسر حاجز الوصول إلى الجماهير التي غالبًا ما تستثنيها وسائل الإعلام التقليدية. في زمن المنصات الرقمية، القصة التي لا تُروى لا تُوجد، ومن يسيطر على السرد يسيطر على السلطة. وهذا ما يجعل السيطرة على الإعلام الرقمي جزء لا يتجزأ من استراتيجيات بناء القوة السياسية. لكن هناك تحديات كبيرة أيضا، منها ما يتعلق بالتشتت المعلوماتي، انتشار الأخبار الكاذبة، والحملات المضادة التي تستهدف تشويه صورة اليسار وتشتيت صفوفه. كما أن الاعتماد الكلي على الفضاء الرقمي لا يعوض عن الفعل الميداني المباشر، الذي يبقى ضرورة حتمية للحفاظ على الحضور الجماهيري الحقيقي. ولهذا، لا بد من استثمار الإعلام الرقمي بذكاء، بحيث يصبح جسرا بين الخطاب والتنظيم الميداني، وأداة لتفعيل المشاركة الشعبية الحقيقية، مع الحفاظ على النقدية والوعي لتفادي الوقوع في فخ الأخبار الزائفة والتشتت.
17. بناء يسار المستقبل: إعادة تأسيس المشروع الاجتماعي والسياسي من جديد .
يمر اليسار التونسي اليوم بفترة مفصلية، ليست فقط لحظة نقدية ليتوقف عندها ويقيم تجاربه، بل فرصة تاريخية حقيقية لإعادة تأسيس مشروعه الاجتماعي والسياسي على أسس متينة ومتجددة، قادرة على مواجهة تحديات العصر، والتعقيدات التي فرضتها العولمة، وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وصعود القوى الرجعية. إن إعادة بناء اليسار لا يمكن أن تكون مجرّد محاولات تنظيمية أو تغييرات سطحية، بل عملية عميقة تبدأ من الفهم الواقعي للظروف الحالية، وتمرّ عبر إعادة صياغة الأهداف والأدوات، وتنتهي بخلق حركة شعبية قوية متماسكة تُعيد الروح للحلم الاشتراكي الديمقراطي: -أولا، يجب أن ينبني اليسار على قاعدة اجتماعية صلبة، لا تقف عند حدود الأحزاب أو التنظيمات التقليدية، بل تمتد إلى العمال والفلاحين والفقراء والمهمشين في المدن والأرياف، الذين يمثلون القلب النابض للحركة الطبقية. لا يمكن أن يتحقق هذا بدون تعبئة اجتماعية متواصلة ومستمرة تعيد بناء الثقة بين اليسار والطبقات الشعبية، عبر تقديم بدائل حقيقية تعالج مشاكلهم اليومية، من البطالة إلى انعدام الخدمات الأساسية، ومن التهميش إلى قهر الفقر. -ثانيا، ينبغي أن يكون هناك تطوير فكري نقدي مستمر، قادر على دمج التحديات الجديدة مثل التغيرات المناخية، وحقوق المرأة، والتحولات الثقافية، مع النضال الطبقي التقليدي. فلا يجوز الانغلاق في خطاب تقليدي جامد، ولا التفريط في جوهر الاشتراكية الذي يربط بين الحرية والعدالة الاجتماعية. لا تحرر بلا عدالة، ولا عدالة بلا تحرر، هذه القاعدة لا تزال أساسا لكل مشروع يساري جاد. -ثالثا، لا بد من الانفتاح على التجارب الأممية الناجحة، والتعلم من تجارب دول واجهت تحديات مماثلة ونجحت في بناء أنظمة ديمقراطية اشتراكية تخدم مصالح الجماهير. هذا يتطلب تعزيز الروابط الدولية، والمشاركة في شبكات التضامن العالمية، التي يمكن أن تعزز قدرات اليسار التونسي وتزوده بالأدوات اللازمة لمواجهة أعدائه. -رابعا، على اليسار أن يضطلع بدور رائد في تعزيز الديمقراطية الحقيقية، لا الديمقراطية الشكلية أو التي تدار من أعلى، بل التي تمنح الشعب حق المشاركة الفاعلة في اتخاذ القرار، والتي تضمن حرية التعبير، وشفافية الحكم، ومساءلة السلطة. فقد أثبتت التجارب أن الديمقراطية بدون عدالة اجتماعية تصبح مجرد واجهة لتكريس الفوارق الطبقية. -خامسا، لا يمكن الحديث عن بناء يسار المستقبل دون الاعتراف بأهمية الشباب والنساء كقوة دافعة للتغيير. فالشباب يشكلون الغالبية الساحقة من المجتمع، وهم يحملون طاقات وأفكارا جديدة لا يمكن إغفالها أو تهميشها. أما النساء، فهن نصف المجتمع وهن الأكثر تضررا من الاضطهاد الاجتماعي والاقتصادي، ودمج قضاياهن في النضال الطبقي هو السبيل لإعادة توازن حقيقي في المجتمع. -سادسا، لا يمكن إغفال دور التكنولوجيا والإعلام الرقمي في هذا البناء، التي أصبحت أدوات لا غنى عنها في تنظيم الجماهير، ونشر الوعي السياسي، وبناء الشبكات الاجتماعية اللازمة للحركة الجماهيرية الفاعلة. إن بناء يسار المستقبل هو مهمة شاقة، لكنها ليست مستحيلة. هي نداء للعودة إلى الجذور، وإعادة بناء الجسور بين الفكر والممارسة، بين التطلعات والواقع، بين الماضي المجيد والمستقبل الواعد.
اليسار التونسي، عبر تاريخ طويل من الكفاح والتضحيات، لم يكن مجرد حركة سياسية بل كان روح النضال من أجل كرامة الإنسان والعدالة الاجتماعية. لقد واجه قوى القمع والظلم، وحمل على عاتقه أعباء الدفاع عن الفقراء والمهمشين، ولم يتردد في مواجهة الاستبداد مهما بلغت التضحيات. لكن مع مرور الزمن، واحتدام الصراعات السياسية والاجتماعية، وُضع اليسار في مفترق طرق قاتم، تهدد وجوده ذاته. لكن، كما يؤكد التاريخ، لا يمكن لقوى الظلم أن تغلب روح التحرر التي لا تموت. فاليسار ليس فقط هو الذي يمسك بالأوراق والتقاليد، بل هو ذلك التيار الحيّ الذي يتجدد مع كل جيل جديد، وينبض بالروح الثورية التي لا ترضى بالواقع القائم. نحن اليوم على أعتاب مرحلة جديدة، مرحلة تحتاج إلى إرادة حقيقية وجماعية، تعيد لليسار مكانته كقوة نضالية من أجل الشعب، لا مجرد فصيل سياسي منقسّم. مرحلة تستدعي أن يتحرر اليسار من قيود الأيديولوجيات الجامدة، وأن يتبنّى خطابا نابضا بالحياة، يعبر عن آلام الناس وتطلعاتهم، يتحدى الفقر والظلم والفساد، ويرسم مسارا نحو مجتمع أكثر عدلا وإنسانية. وفي هذا السياق، يبقى شعار تشي جيفارا خالدا وملهما: "لا يوجد طريق ملكي إلى الحرية؛ على الثورة أن تُخلق كل يوم". هذه الكلمات تلخص روح اليسار الحقيقي، روح لا تعرف الاستسلام، ولا ترضى إلا بتحقيق الحلم الجماعي: تونس الحرية، تونس العدالة، تونس الإنسان. إن الثورة لم تكتمل بعد، والمعركة لم تنتهِ، ولكن الأمل لا يزال ينبض في قلوب المناضلين، وفي شوارع الأحياء الشعبية، وفي عقول شباب يبحثون عن طريق جديد، طريق التحرر والكرامة. هذه هي دعوة لكل من يؤمن بالعدالة، لكل من يحلم بغد أفضل، لكل من يريد أن يجعل من تونس وطنا لكل أبنائه، وطنا ينعم فيه الجميع بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأخلاق في الميزان السياسي في القرن 21.
-
الشعبية: من التحرير الرمزي إلى بناء السيادة الفعلية
-
قراءة في رواية -1984- لجورج أورويل.
-
الكتابة فعل نضال
-
جنوب يخرج من ظلّ الأمم المتّحدة: مقترحات للفكاك من نظام الغل
...
-
الحرف ساحة صراع طبقيّ: تفكيك الخطاب وتحرير اللغة من الهيمنة.
-
بيان نواة مجموعة يسارية متمرّدة
-
الرّأس
-
الى الرفيق جورج ابراهيم عبدالله مباشرة
-
اليسار المتحزّب واليسار المستقل: بين البيروقراطية والمقاومة.
...
-
عالم متعدد الأقطاب الإمبريالية: خرافة التوازن وخطر التجزئة.
-
صدى النازية في قلب الحداثة.
-
قراءة سريعة في كتاب معذّبو الأرض لفرانز فانون
-
ردّ على تفاعل نقدي من رفيق مع مقال- هل لا يزال لليسار معنى ف
...
-
هل لا يزال لليسار معنى في ظل العولمة النيوليبرالية؟ .
-
من اضغاث حقيقة متّهمة بالحلم. من المجتمع المدني إلى الجبهة ا
...
-
الرّئيس العربي : حين يتحوّل الصندوق الانتخابي إلى بوّابة للع
...
-
الإمبريالية في جسد جديد صراع الغاز، والمضائق، والعقول...
-
الحرب التي تعيد ترتيب الجحيم: حين لا يكون الاصطفاف كافيا.
-
قراءة لرواية -1984- لجورج أورويل. رواية ضدّ الزّمن ومركّبة ع
...
المزيد.....
-
فرنسا ترحل طالبة من غزة إلى قطر بعد اتهامها بكتابة منشورات -
...
-
الشرطة الإسرائيلية تقمع مظاهرة بتل أبيب تطالب بصفقة تبادل
-
الاحتلال يقتحم مقر شبكة الجزيرة برام الله ويمدد إغلاقه
-
تقرير: الاحتلال يعتقل 18 ألف فلسطيني بالضفة منذ طوفان الأقصى
...
-
استمرار فعاليات التضامن مع غزة في ألمانيا
-
جامعة بجنوب أفريقيا تطلق مشروعا لحماية وحيد القرن من الصيد ا
...
-
توترات بين الأطراف المسلّحة بإقليم تيغراي الإثيوبي
-
ما دلالات تصاعد الأحداث المتزامن في السويداء والشمال السوري؟
...
-
نقاط انتظار المساعدات.. كمائن قتل للمجوعين في غزة
-
قادة أجهزة أمنيون سابقون بإسرائيل: إنجازاتنا محدودة وحرب غزة
...
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|