أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - الأخلاق في الميزان السياسي في القرن 21.















المزيد.....



الأخلاق في الميزان السياسي في القرن 21.


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8422 - 2025 / 8 / 2 - 14:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


المقدمة: حين تموت الأخلاق في زمن الهيمنة.

لم تكن الأخلاق في السياسة يوما مسألة بريئة، أو محض فضيلة فردية تتسرب من ضمير الحاكم أو وجدان الحزب. بل كانت، ولا تزال، جزء من بنية السلطة ومن هندسة السيطرة ومن ماكينة الإنتاج الرمزي التي تشكّل وعي الشعوب. في القرن الحادي والعشرين، حيث تتكدّس الثروات في جيوب حفنة من الأوليغارشيات العالمية، وحيث يُختطف الفقراء كل صباح إلى حقول العمل القسري أو بحار الموت أو معسكرات اللجوء، تُطرح مسألة الأخلاق لا بوصفها قيمة بل كذريعة، لا كمنارة بل كسوط.
في هذا العصر المشبع بالنفاق السياسي، لا تُقاس الأخلاق بمقدار انسجام القول مع الفعل، بل بمقدار ما تستطيع الآلة الدعائية أن تغسله من دم، أو تُلبسه من قناع. صار بالإمكان أن يُشنّق شعب بأكمله باسم "القيم"، وأن تُدمّر دولة بأكملها تحت راية "حقوق الإنسان"، وأن تُحاصر أمّة بأطفالها وتجويعها تحت مسمّى "العقوبات الأخلاقية". إننا إزاء عصر يتم فيه استبدال المبادئ بالتقنيات، والمثل بالبرمجيات، والضمير العام باللوغاريتمات المالية. وكأن الأخلاق لم تعد ركيزة السياسة بل صدى باهتا لمسرحة العنف.
كتب برتولد بريخت ذات يوم: "في زمن الظلم، يصبح قول الحقيقة عملا ثوريا". ونحن نعيد هذه الجملة اليوم لا ترفا بل ضرورة، لأن الحديث عن الأخلاق وسط هذا التواطؤ العالمي مع الجريمة المنظمة، وسط تسليع الإنسان وتدجين الشعوب وترويض الغضب، هو بحدّ ذاته فعل مقاومة. لا حديث عن الأخلاق دون أن نعيد مساءلة النظام الرأسمالي العالمي، الذي جعل من الكذب عملة سياسية، ومن النفاق أداة دبلوماسية، ومن القتل وسيلة لبناء التحالفات.

01: النفاق السياسي بوصفه نظاما أخلاقيا قائما بذاته.

لم يعد النفاق السياسي حادثا عرضيا أو انحرافا فرديا عن قاعدة صلبة من المبادئ، بل غدا، في القرن الحادي والعشرين، هو النظام الأخلاقي الرسمي للمؤسسات الحاكمة، سواء في الديمقراطيات الليبرالية أو في الأنظمة الاستبدادية. إنه ليس فقط وسيلة للبقاء في الحكم، بل أصبح جزء لا يتجزأ من هندسة الشرعية، من خطاب الدولة، من أدوات صناعة "المقبولية العامة".
لقد رأينا قادة العالم "يتباكون" على الديمقراطية في أوكرانيا، بينما يدعمون الديكتاتورية في الخليج، ويُغدقون المساعدات العسكرية على أنظمة لا تعرف سوى لغة القمع. ورأينا وزراء يتشدّقون بحقوق الإنسان في المؤتمرات، ثم يصمتون على إبادة الشعوب في غزة واليمن والسودان. بل الأسوأ من ذلك، يُمنح الجلاد منبرا في الأمم المتحدة، ويُسحب الميكروفون من الضحية لأنها "تقلق التوازنات الجيوسياسية".
النفاق السياسي اليوم مُبرمج، مؤسّس، وله لغته، وطقوسه، وخبراؤه، وأجهزته. يقول نعوم تشومسكي:
"عندما تدعم الولايات المتحدة ديكتاتورا، فإن ذلك يُسمّى ‘استقرارا’، وعندما تعارض ديمقراطية شعبية، يُسمّى ذلك ‘مقاومة للاستبداد’".
هكذا تُقلب المعايير، ويُعاد تشكيل الوعي الجماعي كي يصبح الظلم مقبولا، والتواطؤ محايدا، والموت المجاني أمرا ثانويا. لم يعد هناك خجل. صار بإمكانك أن تُقدّم نفسك كمدافع عن العدالة وأنت تبيع الأسلحة لأنظمة ترتكب المجازر. صار بوسعك أن تدعو إلى السلم وأنت تموّل الحروب. هذا هو شكل "الأخلاق" في زمن الرأسمالية المتوحشة: قناع على وجه وحش.

02: حياد الدول الكبرى… أخطر أنواع التواطؤ.

منذ متى كان الحياد في وجه الإبادة أخلاقا؟ ومنذ متى كان الصمت أمام الظلم موقفا متزنا؟ إن حياد الدول الكبرى، وامتناعها عن الانحياز للعدالة عندما تُداس، ليس علامة على الرشد أو الحكمة، بل تعبير فجّ عن تواطؤها البنيوي مع منظومة القهر العالمية. إن حياد الدول الكبرى في القرن الواحد والعشرين لا يعني سوى شيء واحد: حسابات الربح والخسارة أهمّ من كرامة الإنسان.
حين تُرتكب المجازر في فلسطين، يُقال إن الموقف الرسمي "متوازن"، لأن الاحتلال له "مبررات أمنية"، ولأن المقاومة لا تمتثل لـ"القانون الدولي". وعندما تُغتال الحرية في بلد فقير يُحكم بالحديد والنار، تُصدر العواصم الكبرى بيانا باهتا يُدين العنف "من جميع الأطراف". أما حين يشتكي الفقراء من الظلم، يُقابلهم الحياد بالسكوت ، ويُعاملون كضجيج يُشوش على سوق المال.
هذا الحياد أخطر من التآمر، لأنه يشرعن القمع، ويغلفه بطلاء من الموضوعية الزائفة. إنه حياد يمارَس فوق جماجم المقهورين. حياد مسلح بالفيتو، وموثّق بالكاميرات، ومدعوم بترسانة من الإعلام الموجّه الذي يُقنع الشعوب بأن عدم التدخل هو "أقصى ما يمكن فعله". إنه حياد يخدم مصالح الشركات العابرة للحدود، لا مبادئ العدالة. حياد لا يسمو عن الصراع بل يحرّفه لصالح الأقوى.
كتب فرانز فانون:
"كل جيل يجد نفسه مضطرا لإعادة تعريف مهمته… إما أن يخونها، أو ينجزها".
وحين يعجز هذا الجيل عن تسمية الظالم بوضوح، ويقف في منطقة رمادية بين الجلاد والضحية، فإنه لا يخون مهمته فحسب، بل يخون أيضا ما تبقى من الأخلاق في عالم تسحقه البراجماتية العمياء.

3. في السياسة الحديثة، لم تعد الأخلاق مرجعية بل أصبحت وسيلة قابلة للشراء أو التوظيف.

في زمن تُفكّك فيه المعايير، لم تعد الأخلاق السياسية هي البوصلة التي تهدي المواقف، بل تحوّلت إلى سلعة تُعرض في المزادات، يُزايد بها الحاكم ويستعملها المعارض، ثم يُسحبها من التداول متى لم تعد مفيدة. لقد تراجع دور الأخلاق من منارة تقود الشعوب إلى سلطة تُستعمل كعصا لترويضها. صارت الأخلاق السياسية تُفصَّل على مقاس المصلحة، يُعاد إنتاجها في مختبرات الميديا، وتُباع في أسواق الخطاب الشعبوي أو الليبرالي، حسب الطلب.
الأنظمة النيوليبرالية، خصوصا في القرن الحادي والعشرين، لم تأتِ بمجرد انقلاب اقتصادي على دولة الرعاية، بل دشّنت عهدا من البراغماتية الفجّة التي تجعل من الأخلاق أداة خاضعة لقانون السوق. تُداس المبادئ باسم الواقعية، وتُبرَّر الخيانات باسم الضرورة، وتُعاد كتابة التاريخ السياسي بتقنيات المونتاج التي تنتج سرديات مزيّفة تُقنِع الجماهير بأن ما حصل هو "قدر لا بد منه"، وأن النذالة كانت شكلا من أشكال "الذكاء السياسي".
الاستبداد المعاصر لا يحكم بالرصاص فقط، بل يحكم بالإقناع الكاذب، بالخطاب المصقول، بالتصريحات التي تشبه البيانات الأخلاقية لكنها خالية من أي قيمة إنسانية حقيقية. تأمّل مثلا كيف تُستعمل مفاهيم مثل "السلام" و"الاستقرار" و"الحوار" في تبرير سحق الثورات، وقمع الصحافة، والتطبيع مع الديكتاتوريات. هذه المفردات لم تعد تنتمي إلى معجم الخير، بل صارت أقنعة تُرتدى على وجوه الفساد والإبادة.
إن الأخلاق السياسية اليوم تُعاد صياغتها لا على يد الفلاسفة أو المفكرين أو المصلحين، بل على يد شركات العلاقات العامة، وأجهزة الاستخبارات، وأصحاب المال الذين يقرّرون أي القيم يُسمَح لها بالظهور، وأيها يُلقى في المقابر الجماعية للضمير البشري. لقد رأينا من يحكم باسم الدين ويقتل باسمه، ومن يرفع شعار الحريات ليقصف به شعوبا بأكملها، ومن يتغنى بالديمقراطية بينما يُموّل الانقلابات.
وهنا يصبح من المشروع أن نسأل: أيّ أخلاق تلك التي تُبرّر التجويع الجماعي؟ أيّ أخلاق تلك التي تصمت أمام موت طفل في قارب هجرة؟ أيّ أخلاق تلك التي تصف العاملات الفلاحيات بـ"الرمز الوطني" ثم تُبقيهنّ تحت رحمة مقاول جشع لا يقدّم لهن سوى الأجور البخسة؟ لقد صارت الأخلاق لعبة في يد الساسة، والعبرة الآن ليست في مدى أخلاقية الموقف، بل في مدى نجاعة تسويقه للجماهير.
في هذا المناخ، يصبح الخطّ الفاصل بين الخير والشر غير واضح، لأنّ المعيار لم يعد القيم، بل المصالح. من يمتلك المال، يمتلك حقّ تعريف الأخلاق. ومن يمتلك الإعلام، يستطيع أن يُزيّن الجرائم ويحوّل المجرم إلى "بطل واقعي". وفي هذا الزمن الكالح، يصبح على الثوري أن يُعيد تعريف الأخلاق من جديد، لا وفقا لما تقوله النُخب أو القوى المهيمنة، بل انطلاقا من المعاناة الحقيقية للناس، من حاجاتهم، من أحلامهم البسيطة في الكرامة والخبز والحرية.

4. بين الخطاب الأخلاقي السياسي والممارسة: انفصام بلغ حدّ الانفجار.

في مسرح السياسة الحديثة، أصبحنا نشهد عرضا مستمرا لخطابات أخلاقية أنيقة تُلقى من على منصات المؤتمرات، من المنابر البرلمانية، ومن حسابات السياسيين على شبكات التواصل. خطابات تعِد بالعدالة والشفافية وحقوق الإنسان، بينما في الواقع ، الواقع الصلب، لا الافتراضي ، تُسحَق هذه المبادئ تحت عجلات الاستغلال والقمع والتحالفات القذرة. وكأن السياسي المعاصر يعيش في انفصام حادّ: عقل يخاطب الناس بقيم العدالة، ويدٌ توقع على صفقات سلاح تُقتل بها الشعوب.
خذ مثالا واحدا: الحكومات التي تندّد بجرائم الحرب في العلن، وتبيع السلاح للطغاة في السرّ. تأمّل تلك الدول التي تحتضن شعارات "الحرية" و"المرأة" و"الطفولة" في مؤتمرات الأمم المتحدة، لكنها تغضّ الطرف عن القصف والتجويع والاغتصاب حين ترتكبها أنظمة حليفة أو شركات راعية. في هذا الانفصام، تتحوّل الأخلاق إلى ديكور، والممارسة إلى طعنة في ظهر القيم.
ما يُقال في البرامج الانتخابية شيء، وما يُفعَل في الكواليس شيء آخر. هناك سياسة الواجهة وسياسة الخفاء، وهناك انفجار يوميّ بين ما يُقال وما يُنفّذ. وهذه الهوة ليست مجرد خلل عرضي، بل صارت جوهر اللعبة السياسية. الخطاب الأخلاقي يُصاغ بعناية لإرضاء الجماهير، أما الممارسة فتصاغ لإرضاء السوق، الرأسمال، المصالح الجيوسياسية، توازنات القوى.
هذا الانفصام ينتج جيلا من السياسيين الذين لا يخجلون من الكذب، بل يُتقنونه. لا يشعرون بوخز الضمير عند خيانة وعودهم، لأنّ الأخلاق عندهم أصبحت جزء من البرتوكول، لا من الوجدان. يبتسم لك السياسي ويعانقك على الشاشة، ثم يوقّع قرارا بطردك من بيتك لصالح مستثمر عقاري. يرفع شعارات مكافحة الفساد وهو يُحصّن نفسه في شبكة من الامتيازات. يقول لك: "نحن مع الفقراء"، وهو يتفاوض مع صندوق النقد الدولي لإلغاء دعم الخبز.
إن هذا الانفصام بلغ في بعض البلدان حدّ الانفجار. لم يعد المواطن يثق في كلمة تُقال. لم يعد يصدّق السياسي حتى لو كان صادقا. صار يرى في كل وعد خدعة، وفي كل تعبير عن القيم مجرّد تمويه للخراب. ومع تكرار هذا المشهد، يتآكل الرصيد الأخلاقي للسياسة حتى يصير رمادا، وتفقد السياسة ما يبرّر وجودها في الأصل.
ولأنّ الفراغ لا يدوم، فإنّ هذا الانفصام الأخلاقي يمهّد لظهور شعبويات متطرفة، أو حركات عنف، أو انسحاب جماعي من الشأن العام. وهنا تبرز مسؤولية اليسار الثوري لا في تكرار نفس الخطابات، بل في بناء أخلاق سياسية جديدة، أخلاق لا تُصاغ في بلاط السلطة بل تُستمدّ من نبض الفقراء، من مقاومة المهمّشين، من نضال العاملات، من كفاح الشعوب التي لا تملك إلا كرامتها.

05: المثقف والسياسي: من الضمير إلى وكيل الدعاية النظامية.

في عالم تحكمه السلطوية الاقتصادية والسياسية، لم يعد المثقف منارة للضمير أو صوتا للمقاومة، بل صار في كثير من الأحيان جزء من ماكينة التبرير التي تُعيد إنتاج الانحطاط الأخلاقي. المثقف الذي يُفترض أن يكون مرآة المجتمع وصوت الوعي، تحول لدى بعض النخب إلى مجرد وكيل دعاية، وناطق باسم النظام، بل وأحيانا إلى صانع خطاب يبرر الاستبداد ويغسل صورة القمع باسم "الواقعية السياسية" أو "الاستثناء الوطني".
في القرن الحادي والعشرين، حيث باتت الأسواق الإعلامية سوقا تنافسية لترويج الخطابات الرسمية، صار على المثقف أن يختار بين أن يكون "حارسا للهيمنة" أو أن يُقصى من المشهد. فالكثير من المثقفين الذين تمسكوا بالحرية الحقيقية والدفاع عن الفقراء والمقهورين، وجدوا أنفسهم ضحايا تشويه ممنهج، وتهم "الإرهاب"، أو "الشعبوية"، أو حتى "السذاجة السياسية".
يحذرنا إدوارد سعيد، ذلك المناضل المثقف الذي وقف صلبا في وجه الاستعمار الثقافي، بقوله:
"المثقف الحقيقي هو من يقف مع الحقيقة في وجه السلطة، لا من يكتب خطاباتها."
لكن للأسف، مع تسلط الرأسمالية العالمية، صار من المثقفين من يبيع ضميره ليكون جزء من منظومة "تقنين الانحطاط" التي تُبرر اللاعدالة وتُلبسها أزياء الحيادية. لقد تحوّلوا إلى كتاب بلاط جديدين، يكتبون في صحف ومجلات تمولها الشركات الكبرى، يروجون لخطاب يضع "الاستقرار" فوق الحرية، و"الواقعية" فوق العدالة.
هذا الانزلاق لا يقتصر على المثقفين فحسب، بل يشمل الأكاديميين الذين يقنعون الناس بأن كل مقاومة خارج الحدود الرسمية "خطر" و"تطرف"، ويرسمون الخرائط الفكرية التي تبرر التفرقة والتهميش. في هذا المشهد، يصبح المثقف الذي يُقاوم ليس فقط معزولا، بل مطاردا، وصوت المعارضة يُكمم، وتصبح صرخة الضمير صدى في وادٍ سحيق.
إن هذا التحوّل يفضح بؤس العصور التي تكتب فيها الثقافة للسلطة لا للناس، وحيث تصبح المعرفة أداة للسيطرة لا للاعتراف بالحقائق. لذلك، على المثقف الثوري اليوم أن يستعيد موقعه الحقيقي كوكيل تغيير اجتماعي، لا ككومبارس في مسرح السياسة المتعفّن، وأن يكون صوت الفقراء والمضطهدين، ليس صوت الأنظمة المتسلطة.

06: هل للأخلاق في السياسة مكان اليوم؟ نعم، ولكن في قلب المقاومة.

رغم كل الظلام الذي يسود المشهد السياسي العالمي، لا تزال هناك بؤر ضوء تُشعّ من حركات المقاومة، ومن النضالات الشعبية التي تصنع من الأخلاق سلاحًا ضد الظلم. في هذا العالم الذي ابتلعه السوق وغطته لغة التبرير، تبقى السياسة الأخلاقية قائمة فقط في أماكن الهامش، في نضال الفقراء والمهمشين، في صوت اللاجئين، في احتجاجات العاملات، وفي حركات العدالة الاجتماعية والبيئية.
الأخلاق، في هذا الإطار، لا تعني مجرد نصوص وقواعد، بل تعني فعلا ثوريا. تعني التزاما بالحق في الكرامة، بغض النظر عن ما تراه الأنظمة أو تُعلنه المحافل الدولية. تعني التضامن مع المضطهدين، والوقوف ضد الأنظمة التي تحوّل الناس إلى أرقام في إحصائيات الفقر والبطالة والعنف. تعني النضال ضد كل أشكال الاستغلال والتمييز، حتى وإن كان ذلك يعني مواجهة السلطة المباشرة أو غير المباشرة.
اليسار الثوري، في هذا السياق، هو الخندق الأخلاقي الأخير. هو القلعة التي لا تقبل تزييف الحقائق، ولا تتساهل مع التبريرات الكاذبة، ولا تُساوم على مبادئ العدالة الاجتماعية. هو الحركة التي ترى في السياسة فضاءً لتحرير الإنسان، لا مجرد وسيلة للاستحواذ على السلطة أو الثروة.
كلما اقترب السياسي من بؤر الألم، من المخيمات، من المستشفيات المتهالكة، من ضحايا الحروب والجوع، كلما اقترب من الأخلاق الحقة. كلما ابتعد عن قصور الرأسمالية ومنابرها، كلما كان أقرب إلى الحقيقة. أما أولئك الذين يُمارسون السياسة من القمة، مستندين إلى وسائل الإعلام الكبرى، والبنوك، وأسواق الأسهم، فهم اليوم مسؤولون عن اغتيال كل حلم أخلاقي.
الأخلاق في السياسة، إذن، ليست رفاهية، بل ضرورة ملحة من أجل بناء عالم جديد. عالم يُعترف فيه بحق كل إنسان في الحياة الكريمة، في العدالة، في الحرية. عالم تُعاد فيه السيادة إلى الشعوب، وتُرفع فيه الأقنعة عن السياسيين الذين يبيعون الوطن والضمير.
كتب هربرت ماركوزه:
"الثورة الحقيقية لا تبدأ إلا عندما تستعيد الأخلاق مكانها في قلب السياسة."
وفي انتظار تلك الثورة، تبقى الأخلاق هي العدو الأول للحكام الجبناء، والعيون الساهرة التي لا تنام في وجه الظلم.

7. الدبلوماسية في القرن الواحد والعشرين: مسرح النفاق والتنميط المزدوج.

لم تعد الدبلوماسية أداة للحوار البناء، ولا جسرا لتقريب وجهات النظر، بل تحولت إلى قناع ناعم يغطي آلة حرب متوحشة تدار خلف الستار. في هذا القرن، تحولت اللقاءات الرسمية، والقمم الدولية، والمؤتمرات العالمية، إلى مسارح لبروباغندا أنيقة، تُسَوَّق فيها الكلمات الرنانة عن "الكرامة الإنسانية"، "حقوق الإنسان"، و"سيادة القانون"، في حين تُدار حقائق القتل والتدمير والتجويع في غرف مظلمة، بعيدًا عن الأعين.
إنها دبلوماسية المكر المؤدلج، حيث تُصاغ البيانات بتأنٍ لتغطي على المجازر، وتُتفق الصفقات العسكرية تحت طاولة السلام المزعوم. صارت السفارات، بدلا من كونها منارات للحوار، مراكز لتبييض جرائم الحرب، ومحطات بيع الأسلحة، ومواقع للمناورات السياسية التي لا تعرف سوى لغة المصالح والابتزاز.
في هذا السياق، يصبح من السهل فهم العبارة الساخرة التي تتداولها الحركات المناهضة للهيمنة:
"الدبلوماسية الحديثة هي فن التظاهر بمعارضة المجازر، بينما تكون أنت الممول لها."
فاللغة الدبلوماسية هذه أصبحت آلية لإعادة إنتاج الظلم باسم الشرعية الدولية، التي هي في الواقع أداة لفرض إرادة القوى الكبرى. تسمح هذه الشرعية المزدوجة للقاتل أن يصبح شريكا في السلام، وللمحتل أن يُدعى "طرفا في الحوار"، وللمعتدي أن يُمنح حصانة تحت غطاء القانون.
لكن ما هو أكثر خطورة أن هذه الدبلوماسية المُزيفة تستثمر في تضليل الشعوب، وترويج الأكاذيب بشكل ممنهج، فتخلق عالما من الصراعات المفتعلة، والحروب بالوكالة، والعداءات المفبركة التي تخدم مصالح النخبة العالمية على حساب ملايين الضحايا الذين يُرسمون على خرائط المصالح كأنهم أرقام إحصائية لا وزن لها.
الدبلوماسية في هذا العصر ليست سوى جزء من منظومة العنف المتكاملة التي تغلف الهيمنة بقناع الإنسانية. ومن هنا يأتي التحدي الأكبر للحركات التحررية: كيف تفضح هذا النفاق، وتكشف الوجه القبيح لهذه الدبلوماسية المزيفة، وتبني بدائل تضع كرامة الإنسان في مقدمة السياسة الدولية.

8. ازدواجية المعايير الأخلاقية: جريمة متجددة باسم العدالة الانتقائية .

في عالم يسوده الهيمنة الإمبريالية، يصبح الانفصام الأخلاقي أكثر وضوحا ودموية. فكلما دُفع الثمن غاليا في منطقة معينة، يُعاد تسويقه كرمز للعدالة، وكلما استُهين بأرواح أخرى، تُغلف الجريمة بغلاف من الصمت أو التبرير.
المشهد الدولي اليوم يشهد معايير أخلاقية مزدوجة صارخة:
اللاجئ الأوروبي يستقبل بالأغاني والورود، بينما اللاجئ الأفريقي يُرغم على العيش في مخيمات نائية، أو يُرمي في قوارب الموت بلا رحمة.
المقاومة التي تقاوم الاحتلال تُسمى "إرهابا"، بينما الحرب التي تستهدف المدنيين تُوصف بـ"الدفاع المشروع".
الصحفي الذي يفضح جرائم دولة معينة يُعتقل ويُتهم بـ"التآمر"، بينما القتلة يُكافؤون بالأوسمة والسياسات.
إن هذه الازدواجية ليست فقط خللا أو خطأ، بل هي ميزة مضمرة للنظام العالمي الذي يُعيد إنتاج نفسه عبر هذه القسمة الظالمة للضمير العالمي. إنه نظام يُصنّف الحياة البشرية حسب جنسيتها، لونها، أو موقعها الجغرافي، ويُحدد قيمتها بناء على ذلك. ليس هناك عدالة حقيقية في هذه اللعبة، بل مصالح متضاربة تُغطي على أبشع الجرائم تحت مسميات مختلفة.
يقول نعوم تشومسكي:
"في هذا العالم، تُقاس الأرواح بالعملة الصعبة، لا بالألم."
ولا شيء أخطر من تبرير القتل. فحين يُسمح للمجرم بأن يُعرّف الضحية، ويُعيد صياغة الرواية، فإنّ العدالة تتحول إلى مسرحية هزلية، والضمير العالمي إلى محفل للعجز والفساد. هذه العدالة الانتقائية تقتل الإيمان بالقانون الدولي، وتفقد الشعوب الأمل في عالم أكثر إنصافا.
تلك الازدواجية تُظهر أن القانون الدولي ليس سوى أداة من أدوات القوى الكبرى، تُستخدم حسب ما تقتضيه المصالح، وتُنسى حين تعيقها الواقع. وتبقى الشعوب المقهورة، من فلسطين إلى سوريا، ومن السودان إلى اليمن، تدفع ثمن هذه القسمة الظالمة، لا دموعا فحسب، بل أرضا وكرامة وحياة.

09. الاقتصاد النيوليبرالي والأخلاق: تحوّل القيم إلى سلع وسقوط الضمير الطبقي .

مع هيمنة النيوليبرالية على المشهد العالمي في القرن الحادي والعشرين، لم تكن مجرد سياسات اقتصادية تُفرض، بل تحوّل شامل في القيم والمبادئ التي تحكم العلاقات الاجتماعية والسياسية. فقد تمّ تفكيك شبكة الحماية الاجتماعية التي كانت تقيمها دولة الرفاه، وتحويل كل شيء إلى سلعة تُشترى وتُباع في أسواق الربح والخسارة، حيث لم تعد الأخلاق معيارًا، بل أصبحت قيدا يُعيق تزايد الثروات وتكاثر الشركات العملاقة.
لقد أصبح التعليم حقا يُشترى، والصحة خدمة تُقدّم بحسب قدرة الدفع، والعمل مجرّد فرصة تُمنح لمن يرضخ لشروط السوق، لا حق يُكفله الدستور أو الضمير الوطني. الأخلاق التي تعني التضامن، العدالة، الكرامة، اختُزلت في حسابات ميزانيات وأرباح، وصارت تُقاس بمعايير مالية جافة، تفصل بين من يستحق ومن يُستبعد.
يقول ديفيد هارفي:
"النيوليبرالية جعلت من اللا أخلاق معيارا للتقدم."
وهكذا، نرى كيف تُمارَس أبشع أشكال العنف الطبقي تحت ستار "النمو الاقتصادي"، وكيف يُضرب الفقراء بلا رحمة، وتُترك مجتمعات بأكملها تعاني من الإقصاء والتهميش، بينما تنمو أرباح الشركات وتُضاعف ثروات النخبة المالية.
في هذا العالم، الأخلاق لم تعد حجر الزاوية في الاقتصاد، بل أصبحت عائقا يجب إزالته. منظمات دولية تمارس السياسة الاقتصادية التي تحطم النسيج الاجتماعي، وتترك الملايين بدون سكن أو غذاء أو دواء، كل ذلك باسم التنافسية وتحسين بيئة الأعمال. فهل يمكن أن يكون هناك اقتصاد أخلاقي في نظام يسوده الطمع والاحتكار؟
الأخطر من ذلك، أن هذه السياسات تُغذّي التوترات الاجتماعية، وتزيد من الهوة الطبقية، فتنتج توترات وانفجارات قد تتحول إلى عنف مسلح، فيما تعجز الأنظمة عن تقديم حلول جذرية. ويصبح السؤال المشروع: كيف يمكن للأخلاق أن تصمد أمام آلة النيوليبرالية المتوحشة؟ كيف يمكن للعدالة الاجتماعية أن تُحقق في ظل اقتصاد يرى في الإنسان مجرد رقم وربح وخسارة؟

10. الإعلام في زمن الرأسمالية: صناعة الأكاذيب وترويج الوهم.

في عصر وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي، لم يعد الإعلام سلطة رابعة تراقب وتحاسب، بل أصبح أداة بيد رأس المال والسلطات السياسية لصناعة الأكاذيب والتضليل. تحوّل الإعلام من ناقل للحقائق إلى مصنع للخبر المُلفّق، ومن منصة للنقاش الحر إلى ساحة للصراع من أجل النفوذ المالي والسياسي.
يقول الكاتب جي جي بالارد:
"الإعلام اليوم لا يبحث عن الحقيقة، بل عن الزبون."
وهكذا، لا تنقل الوسائل الإعلامية الأخبار فحسب، بل تنتجها وتلعب دور الراوي الرسمي الذي يحدد ما هو مهم وما هو هامشي، ما يُقال وما يُحجب. أصبحت القيم الأخلاقية مثل حرية التعبير وحقوق الإنسان أدوات تُستخدم بشكل انتقائي، تُسلط على خصوم الأنظمة أو تُسحب منها حين تُفضح مصالح النخب.
الصحافة الاستقصائية التي تحاول كشف الفساد أو فضح الظلم تُواجه بحملات تشويه وتضييق، بينما يتم ترويج القصص التي تخدم أجندات الشركات والدول الكبرى. وتصبح وسائل الإعلام، بدلا من أن تكون منصة للوعي والتحرير، ماكينة ضخمة لإعادة إنتاج القمع، وتحويل الشعوب إلى جمهور سلبي يستهلك المعلومة الجاهزة ويُلهى بالأحداث التافهة.
في هذا السياق، يصير التضليل الممنهج وسيلة لبقاء الأنظمة والدول العظمى، التي تخاف من الحقيقة التي قد تُحرّك الجماهير أو تُلهم النضالات الشعبية. الإعلام إذن ليس حياديا أو موضوعيا، بل هو قوة من قوى الهيمنة، وأداة من أدوات السوق، يتنافس فيها الفاعلون على السيطرة على العقول والقلوب.
في ظل هذه المعطيات، يظل السؤال مطروحا: كيف يمكن للأخلاق أن تنتصر في فضاء إعلامي يدار من قبل أسياد المال والسلطة؟ كيف يُمكن للحق أن يُسمع وسط هذا السيل اللامتناهي من الأكاذيب؟ وكيف يستعيد الجمهور دوره كفاعل اجتماعي مدافع عن الحقيقة والعدالة؟

11. السياسة البيئية: من الخطابات الخضراء المزيفة إلى الكارثة المنظمة.

في زمن تشتعل فيه كوكب الأرض بحرائق لم تشهد لها البشرية مثيلا، وتذوب الأنهار الجليدية بوتيرة متسارعة، تُعقد قمم دولية ومؤتمرات بيئية تُطلق فيها الشعارات الرنانة عن "العدالة المناخية" و"الاقتصاد الأخضر". لكن الحقيقة خلف هذه الخطابات المؤدلجة أكثر سوداوية وأشد خيانة مما يُقال.
ما يُطرح تحت شعار "الاقتصاد الأخضر" ليس سوى إعادة تهيئة للنظام الرأسمالي ذاته، لكن بقناع نباتي يهدف إلى إطالة عمر النظام نفسه لا إنقاذ الكوكب فعليا. تلك المشاريع التي يُفترض أنها تحارب التلوث وتقلل انبعاثات الكربون، في واقع الأمر تفتح مجالات جديدة للاستثمار في التكنولوجيا الكبرى، وتسمح لشركات النفط والبنوك الكبرى بفرض هيمنتها على الموارد الطبيعية، عبر صفقات ضخمة تحمل في طيّاتها المزيد من الاستغلال والنهب.
يقول الناشطة غريتا تونبرغ بمرارة:
"الكوكب يحترق بينما تُعقد صفقات لشراء الوقت."
فبدل أن تُوجَّه الجهود الحقيقية نحو الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، والتخلي عن نمط الإنتاج الاستهلاكي الجائر، تتحول القمم البيئية إلى حفلات خطابية تُصدر بيانات مبهمة تُسقط فيها المسؤوليات على الشعوب الفقيرة والمهمشة، وتُبرر استمرار لوبيات الطاقة الأحفورية في سيطرتها. الكارثة ليست فقط في انبعاث الغازات، بل في المنظومة الاقتصادية والسياسية التي تتعامل مع الأزمة باعتبارها فرصة جديدة للتجديد الرأسمالي، لا مشكلة إنسانية بيئية يجب حلها بشكل جذري.
في هذا السياق، تزداد أعباء الشعوب الأكثر تضررا، تلك التي لا حول لها ولا قوة أمام العواصف والفيضانات والجفاف، وتُترك في مهب الكوارث، بينما تستمر الطبقات الغنية في تعزيز نمط حياة مستهلك ومهدد للكوكب. وهنا تظهر أبشع صور انعدام الأخلاق: قتل الكوكب باسم التنمية، وإلقاء اللوم على الضحايا باسم "الاستدامة".
إن مقاومة هذه السياسة البيئية الزائفة ليست فقط معركة بيئية، بل هي نضال من أجل العدالة الاجتماعية، من أجل إنهاء الاستغلال الطبقي والبيئي، من أجل بناء اقتصاد جديد يتعامل مع الكوكب كبيت مشترك، لا كمصدر لا ينضب للثروات التي تُستغل بلا رحمة.

12. الذكاء الاصطناعي والعالم الرقمي: تحديات أخلاقية في زمن التكنولوجيا العمياء.

يُقدم الذكاء الاصطناعي في القرن الحادي والعشرين كأحد أهم محركات التغيير الحضاري، يحمل وعودا بتحسين حياة البشر وتطوير العلوم والفنون. لكن خلف هذه الوعود، يكمن تهديد أخلاقي خطير يتطلب وقفة نقدية صارمة.
الذكاء الاصطناعي، بحكم طبيعته القائمة على البرمجة والتحليل البياني، لا يملك حسا أخلاقيا أو وعيا إنسانيا. وما يزيد الأمر خطورة هو أن هذه الأنظمة تُبرمج وتُدار من قبل بشر، غالبا ما يحملون تحيزات ثقافية واجتماعية، أو مصالح اقتصادية وسياسية ضيقة. لذا، بدلا من أن يُصبح الذكاء الاصطناعي أداة لتحرير الإنسان، يتحول إلى آلة لإعادة إنتاج الظلم والقمع و القتل.
يقول الباحث إيليزر يودكوفسكي:
"الخطر ليس في الآلة الذكية، بل في البشر الأغبياء الذين يشغلونها."
ففي ظل غياب ضوابط أخلاقية حقيقية، تتحول تقنيات الذكاء الاصطناعي إلى أدوات مراقبة شاملة، تصنيف الناس بناء على بيانات قد تكون منحازة أو خاطئة، وإقصاء المجتمعات والأفراد من الوصول إلى الخدمات أو حتى من حقوقهم الأساسية. هذه التكنولوجيا تستخدم في مراقبة الحركات الاحتجاجية، وفي ترسيخ أنظمة الرقابة الرقمية التي تقضي على الخصوصية وتفرض الرقابة المشددة على الحريات.
كما يُهدد الذكاء الاصطناعي مجالات العمل التقليدية، فيزيد من معدلات البطالة ويعمق الفجوات الاجتماعية، دون وجود سياسات واضحة تحمي حقوق العمال وتعيد توزيع الثروة بشكل عادل. في ظل هذه الظروف، يتحول الإنسان إلى مجرد رقم في قاعدة بيانات، والشعوب إلى كتل بيانات تُدار من مراكز التحكم العالمية.
هذا التحدي الأخلاقي يتطلب تطوير أطر جديدة للحوكمة الرقمية، تضع الإنسان والكرامة الإنسانية في مقدمة الاهتمام، وتفرض على المطورين والحكومات احترام حقوق الإنسان، والشفافية، والمساءلة. فبدون ذلك، سنصبح في مواجهة عالم رقمي عميق، يحكمه الذكاء الصناعي لكن تقوده مصالح قوى المال والسيطرة، وليس ضمير العدالة.

13. السوق والطبقات الاجتماعية: إذلال الفقراء تحت شعار "الحرية الاقتصادية" .

في قلب النيوليبرالية، تختبئ مأساة عميقة تُعيد إنتاج الطبقية والتهميش بأكثر صورها عنفا وقسوة. تحت ذريعة "الحرية الاقتصادية"، التي تُسوَّق كقيمة عليا تحرّر الفرد، تتحول الجماهير إلى ضحايا محكوم عليهم بالخضوع لقوانين السوق الوحشية، حيث يُعتبر الإنسان مجرد سلعة تُباع وتُشترى، لا كائنا ذا كرامة وحقوق.
هذا النظام يُفكك كل أشكال التضامن الاجتماعي التي شكّلت أساس الدولة الحديثة، فيُفقد التعليم والدواء والسكن وحق العمل قيمتها الاجتماعية لتصبح سلعا منقوصة تُقدّم فقط لمن يملك القدرة على الشراء. وفيما تُهدَّر أعداد هائلة من البشر في فقر مدقع وعوز، تُضاعف النخبة المالية ثرواتها بشكل غير مسبوق، عبر سياسة التقشف والتهميش التي تُفرض على الفقراء باسم "الإصلاحات الاقتصادية".
كما يقول ماركس في نقده للرأسمالية:
"الرأسمالية ليست سوى نظام يستغل فيه الإنسان الإنسان، حيث يصبح المال سيدا والإنسان عبدا."
هذا الإذلال الاجتماعي يتعمّق حين تُفرض "الحرية الاقتصادية" في دول الجنوب كشرط للتمويل الدولي، فتتحول الشعوب إلى ساحة معركة بين قوى السوق والطبقة العاملة، ويُفرض عليها أن تختار بين الجوع والذل، وبين فقدان الكرامة والعيش تحت رحمة البنوك والشركات العابرة للقارات.
ويؤكد الناشط والباحث في الاقتصاد السياسي ديفيد هارفي قائلا:
"النيوليبرالية ليست حرية، بل استبداد السوق الذي يُعيد إنتاج الفقر واللامساواة."
في هذا السياق، تتآكل أواصر التضامن، وينتشر اليأس، ويصير الكفاح من أجل العدالة الاقتصادية والاجتماعية ضرورة ملحّة. فالأخلاق، التي يجب أن تكون أساس العلاقات الاجتماعية والسياسية، تصبح جرحا مفتوحا بين الطبقات، تُروى بدماء الفقراء وتُدفن في صمت المدن الكبرى.

14. النظام السياسي كآلة قمع أخلاقية: قانون الظلم المنظم.

في معظم أنظمة العالم اليوم، لا يقتصر القمع السياسي على استخدام العنف المباشر فقط، بل يُشيد النظام ذاته على بناء "أخلاق" سلطوية تبرر الاعتقال التعسفي، منع التظاهر، قمع حرية التعبير، وإلغاء الحقوق الأساسية تحت مسميات فضفاضة مثل "الأمن القومي" أو "حماية الاستقرار".
يُصوغ النظام سلطته من خلال فرض قانون انتقائي، يُسمى أحيانا "الديمقراطية"، لكنه في جوهره آلة لإعادة إنتاج القمع، تضمن استمرار النفوذ والهيمنة فوق الجماهير. الحقوق تُمنح أو تُسحب حسب المصالح السياسية، والمواطن يُعامَل وفقا للهوية السياسية، وليس بناء على كرامته الإنسانية.
في هذا السياق، تتحول "الأخلاق" إلى ذريعة للاضطهاد، حيث يُبرر النظام أفعاله ويُصوّر معارضيه على أنهم أعداء "الأخلاق الوطنية"، ويصادر بذلك كل معنى للعدالة والحرية، ليبقى الشعب أسيرا لمفهوم مزيف يُسقَط من أعلى إلى أسفل.
يقول المناضل والفيلسوف أنطونيو غرامشي:
"الدولة لا تحكم فقط بالقوة، بل تتحكم بالعقول والقلوب عبر البنية الفوقية للأخلاق والسياسة."
وهذا القانون القمعي، بدلا من أن يكون ضامنا للعدالة، يُصبح أداة لاستدامة الظلم. هذا الانحراف الأخلاقي يُولّد أزمة شرعية عميقة تزداد حدتها مع تعمّق الفقر وتوسع القمع، ويؤدي إلى انفجارات اجتماعية ثورية لا مفر منها.

الخاتمة: الأخلاق شرط نهائي لتحرير السياسة والإنسانية .

في عصر يبدو فيه الفساد والتسلط والازدواجية الأخلاقية القاعدة، لا الاستثناء، تبقى الأخلاق الشرط الضروري لإنقاذ السياسة من قاع الانحطاط، ولإنقاذ الإنسان من مأزق الاستلاب والظلم.
الأخلاق ليست مجرد شعارات تُرفع في المناسبات، بل فعل مقاوم، والتزام يوميّ، وشرط لا غنى عنه لبناء مجتمع جديد يُحترم فيه الإنسان وكرامته، وتُكسر فيه قيود الرأسمالية الظالمة.
يقول الفيلسوف برتراند راسل حكمة لا تزال صالحة لكل زمان ومكان:
"الشر ليس في وجود السلطة، بل في غياب الضمير داخل السلطة."
وأمام هذا الواقع المأزوم، يكمن الأمل في نضال الجماهير، في صرخة الفقراء، في مقاومة المهمشين، الذين لا يملكون سوى صوتهم وكرامتهم. عليهم أن يستعيدوا الأخلاق من بين أنياب السلطة الفاسدة، ليصنعوا من السياسة أداة تحرر وتغيير حقيقي.
فالأخلاق هي البوصلة التي لا تخطئ طريق الحرية والعدالة، وهي الشعلة التي تنير درب الإنسانية في وجه الظلام.



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشعبية: من التحرير الرمزي إلى بناء السيادة الفعلية
- قراءة في رواية -1984- لجورج أورويل.
- الكتابة فعل نضال
- جنوب يخرج من ظلّ الأمم المتّحدة: مقترحات للفكاك من نظام الغل ...
- الحرف ساحة صراع طبقيّ: تفكيك الخطاب وتحرير اللغة من الهيمنة.
- بيان نواة مجموعة يسارية متمرّدة
- الرّأس
- الى الرفيق جورج ابراهيم عبدالله مباشرة
- اليسار المتحزّب واليسار المستقل: بين البيروقراطية والمقاومة. ...
- عالم متعدد الأقطاب الإمبريالية: خرافة التوازن وخطر التجزئة.
- صدى النازية في قلب الحداثة.
- قراءة سريعة في كتاب معذّبو الأرض لفرانز فانون
- ردّ على تفاعل نقدي من رفيق مع مقال- هل لا يزال لليسار معنى ف ...
- هل لا يزال لليسار معنى في ظل العولمة النيوليبرالية؟ .
- من اضغاث حقيقة متّهمة بالحلم. من المجتمع المدني إلى الجبهة ا ...
- الرّئيس العربي : حين يتحوّل الصندوق الانتخابي إلى بوّابة للع ...
- الإمبريالية في جسد جديد صراع الغاز، والمضائق، والعقول...
- الحرب التي تعيد ترتيب الجحيم: حين لا يكون الاصطفاف كافيا.
- قراءة لرواية -1984- لجورج أورويل. رواية ضدّ الزّمن ومركّبة ع ...
- قراءة تفكيكية في رواية - ورقات من دفاتر ناظم العربي - لبشير ...


المزيد.....




- معلومة قد تذهلك.. كيف يمكن لاستخدام الليزر أن يصبح -جريمة جن ...
- عاصفة تغرق نيويورك: فيضانات في مترو الأنفاق وانقطاع كهرباء و ...
- هيركي عائلتي الكبيرة
- نحو ربع مليون ضحية في 2024 .. رقم قياسي للعنف المنزلي في ألم ...
- غضب واسع بعد صفع راكب مسلم على متن طائرة هندية
- دراسة: أكثر من 10 آلاف نوع مهدد بالانقراض بشدة
- بين الصمت والتواطؤ.. الموقف التشيكي من حرب غزة يثير الجدل
- تركا ابنهما خلفهما بالمطار لأجل ألا يخسرا تذاكر السفر
- في تقرير لافت.. الاستخبارات التركية توصي ببناء ملاجئ وأنظمة ...
- لماذا أُثيرت قضية “خور عبد الله” الآن؟ ومن يقف وراءها؟


المزيد.....

- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي
- ذكريات تلاحقني / عبدالاله السباهي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - الأخلاق في الميزان السياسي في القرن 21.