أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي
(Ozjan Yeshar)
الحوار المتمدن-العدد: 8433 - 2025 / 8 / 13 - 00:37
المحور:
الادارة و الاقتصاد
حين يصنع القليل الفارق الأكبر
في أواخر القرن التاسع عشر، كان الاقتصادي الإيطالي فيلفريدو باريتو يتجول في حديقته بفلورنسا، حيث لاحظ ظاهرة بسيطة لكنها عميقة: 20% فقط من شجيرات البازلاء كانت تنتج 80% من المحصول. هذه الملاحظة لم تكن مجرد تأمل عابر، بل ألهمت فكرة ثورية غيّرت طريقة فهمنا لتوزيع الجهد والنتائج.
باريتو مدّ ملاحظته إلى المجتمع الإيطالي، فوجد أن 80% من الأراضي كانت مملوكة لـ20% من السكان. من هنا، وُلد مبدأ 80/20، أو قانون باريتو، وهو مبدأ أصبح أداة أساسية في الاقتصاد، الإدارة، وحتى الحياة الشخصية. هذا القانون ليس مجرد إحصائية، بل فلسفة عملية تدعونا إلى التركيز على القليل الذي يصنع الفارق الأكبر.
من البازلاء إلى الفلسفة العملية
مبدأ 80/20 ليس مجرد معادلة رياضية، بل أداة تحليلية تكشف عن عدم التساوي في توزيع الأثر. سواء في الأعمال، الحياة اليومية، أو حتى الطبيعة، نجد أن نسبة صغيرة من الأسباب تؤدي إلى الغالبية العظمى من النتائج. على سبيل المثال، دراسة أجرتها Harvard Business Review عام 2019 أظهرت أن 20% من المهام في بيئة العمل تحقق حوالي 80% من الإنتاجية، مما يبرز أهمية التركيز على الأولويات.
الفيلسوف الصيني كونفوشيوس عبّر عن هذه الفكرة بقوله:
“من لا يدرك أهمية الأمور الصغيرة، لن يُدرك عظمة الأمور الكبيرة.”
هذه الحكمة تلخص جوهر المبدأ: الانتقاء الواعي لما يستحق الجهد يمكن أن يغيّر حياتنا بشكل جذري.
في حياتنا اليومية: القليل الذي يغيّر الكثير
إذا تأملنا حياتنا بعمق، سنجد أن مبدأ 80/20 يتجلى في كل زاوية:
• العلاقات: 20% من الأصدقاء أو أفراد العائلة يمنحوننا حوالي 80% من الدعم العاطفي والسعادة، بينما الباقون قد يكونون أقل تأثيراً.
• الصحة: دراسة نشرت في Journal of Public Health عام 2020 أشارت إلى أن 20% من العادات الصحية – مثل النوم الكافي أو التمارين المنتظمة – تحقق ما يقارب 80% من الفوائد الجسدية والعقلية.
• العمل: 20% من القرارات أو المهام المهنية تحدد حوالي 80% من نجاحنا الوظيفي، كما يظهر في تحليلات إنتاجية الموظفين.
• الوقت: 20% من ساعات يومنا – تلك التي نقضيها في تركيز عميق – تنتج ما يصل إلى 80% من إنجازاتنا.
الفيلسوف الروماني سينيكا لخص هذه الحقيقة قبل ألفي عام بقوله:
“ليس لدينا وقت قصير في الحياة، بل إننا نهدر الكثير منه.”
المشكلة ليست في نقص الموارد، بل في تشتت جهودنا. قانون باريتو يدعونا إلى توجيه طاقتنا نحو ما يهم حقاً.
قصص واقعية حديثة عن مبدأ باريتو
أمازون: القلة التي تصنع المليارات
في بداياتها، اكتشفت أمازون أن نسبة صغيرة من منتجاتها – حوالي 20% – كانت تولّد ما يقارب 80% من إيراداتها. استغلت الشركة هذا المبدأ لتحسين إدارة المخزون والتركيز على الفئات الأكثر ربحية، مثل الكتب الأكثر مبيعاً والمنتجات ذات الطلب العالي. بحسب تقرير Forbes لعام 2018، ساعد هذا التركيز أمازون على تعزيز كفاءتها، مما جعلها اليوم أكبر منصة تجارة إلكترونية في العالم.
نتفليكس: المحتوى المركز يفوز
تحليل بيانات نتفليكس لعام 2023 (يغطي بيانات 2022) كشف أن نسبة صغيرة من العناوين – حوالي 15-20% – تجذب ما يقارب 80% من المشاهدات. بدلاً من إنتاج آلاف العروض بشكل عشوائي، ركزت نتفليكس على تحسين جودة الأعمال الرائدة مثل Stranger Things وتطوير خوارزميات توصيات ذكية، مما عزز ولاء المستخدمين بنسبة كبيرة.
تسلا: الابتكار في الجوهر
في سوق السيارات الكهربائية التنافسي، ركزت تسلا على ثلاث ميزات أساسية: مدى البطارية، سرعة الشحن، والتحديثات البرمجية عن بُعد. هذا التركيز ساعدها على تحقيق تفوق تنافسي، حيث أظهر تقرير تسلا للتأثير البيئي لعام 2022 أن هذه الميزات ساهمت في تقليل 13.4 مليون طن من انبعاثات الكربون، مما عزز مكانتها كرائدة في السوق.
اقتصاد المبدعين على يوتيوب
في دراسة عن اقتصاد المبدعين لعام 2023 أجرتها Oxford Economics، تبين أن حوالي 20% من صناع المحتوى على يوتيوب يحصدون ما يقارب 80% من المشاهدات والإيرادات. هذا يعكس قوة التركيز على محتوى عالي الجودة وموجه بدقة للجمهور المناسب.
البعد الفلسفي: فن الانتقاء الواعي
قانون باريتو ليس مجرد أداة إدارية، بل فلسفة حياة تنسجم مع حكمة لاوتسه، مؤسس الفلسفة الطاوية، الذي قال:
“إتقان الحياة هو أن تعرف متى لا تفعل شيئًا.”
هذه الحكمة تدعو إلى التخلي عن الوهم القائل بأن كل شيء يستحق الجهد نفسه. الانتقاء الواعي يعني تحديد الأولويات بعناية، سواء في العمل، العلاقات، أو النمو الشخصي، لنحقق أكبر أثر بأقل مجهود.
كيف نطبّق المبدأ عمليًا؟
لتحقيق أقصى استفادة من قانون باريتو، إليك ستة محاور عملية لتطبيقه في حياتك:
1. إدارة الوقت: حدد الساعات التي تكون فيها في ذروة تركيزك – غالباً 20% من يومك – وخصصها للمهام ذات الأثر الأكبر، مثل تخطيط المشاريع أو اتخاذ قرارات حاسمة. دراسة من Harvard Business Review (2019) أظهرت أن التركيز على المهام ذات الأولوية يمكن أن يعزز الإنتاجية بنسبة تصل إلى 30%.
2. التعلّم: اختر مصادر معرفية عالية القيمة بدلاً من استهلاك محتوى مشتت. على سبيل المثال، قراءة كتاب متخصص واحد أو إتمام دورة مركزة قد يمنحك 80% من المعرفة التي تحتاجها في مجال ما، مقارنة بتصفح عشرات المقالات السطحية.
3. العلاقات: ركز على الأشخاص الذين يضيفون قيمة حقيقية لحياتك، سواء بالدعم العاطفي أو الإلهام. قلل من التفاعل مع العلاقات التي تستنزف طاقتك دون عائد ملموس.
4. الصحة: اختر عادات صحية بسيطة لكنها مؤثرة، مثل المشي 20 دقيقة يومياً أو شرب الماء بانتظام. بحسب دراسة من Journal of Public Health (2020)، فإن الالتزام بثلاث عادات صحية بسيطة يمكن أن يحسن الصحة العامة بنسبة تصل إلى 25%.
5. الجانب العائلي: خصص وقتاً للحظات عائلية ذات معنى، مثل وجبة عشاء مشتركة أو حوارات عميقة مع الأطفال. هذه اللحظات، التي قد لا تتجاوز 20% من وقتك العائلي، يمكن أن تبني ما يقارب 80% من الروابط الأسرية والسعادة. كتاب The 80/20 Principle لريتشارد كوخ (1998) يشير إلى أن التركيز على الأنشطة العائلية ذات الأثر العاطفي يعزز الترابط الأسري.
6. الجانب الروحاني: اختر ممارسات روحية بسيطة تناسبك، مثل الصلاة والتأمل لعشر دقائق يومياً أو زيارة مريض أو الحديث مع أشخاص يحتاجون دعمك أو مشاركة في عمل خيري أو حتى كتابة يوميات الامتنان. دراسة من Journal of Positive Psychology (2021) أظهرت أن ممارسات الامتنان البسيطة تحسن الرفاهية النفسية بنسبة تصل إلى 25%.
أمثلة تاريخية وإبداعية
• ستيف جوبز وآبل: عندما عاد جوبز إلى آبل في 1997، قلّص عدد المنتجات من عشرات إلى أربعة فقط (مثل iMac وPowerBook). هذا التركيز أعاد الشركة إلى صدارة الابتكار، حيث حققت هذه المنتجات حوالي 80% من إيرادات الشركة في غضون سنوات قليلة.
• BMW: تركز الشركة على طرازات فاخرة محدودة (مثل الفئة الثالثة والخامسة)، التي تشكل حوالي 80% من مبيعاتها، وفقاً لتقريرها السنوي لعام 2022.
• التاريخ السياسي: معاهدة فرساي (1919) كانت قراراً واحداً أعاد تشكيل العالم بعد الحرب العالمية الأولى، مما يبرز كيف يمكن لـ20% من القرارات أن تحدد 80% من المصير العالمي.
لماذا يفشل البعض في تطبيق المبدأ؟
رغم بساطة قانون باريتو، يواجه الكثيرون صعوبات في تطبيقه بسبب:
• الخوف من تفويت الفرص: يخشى البعض التركيز على القليل خوفاً من خسارة فرص أخرى.
• الانشغال بالعاجل على حساب المهم: المهام اليومية العاج LZلة غالباً ما تطغى على الأولويات الاستراتيجية.
• صعوبة قول “لا”: رفض المهام غير الضرورية يتطلب شجاعة وقوة قرار.
• الافتقار إلى التحليل: بدون تقييم دوري للأولويات، يصعب تحديد الـ20% الأكثر تأثيراً.
كما قال بيتر دراكر، الخبير الإداري:
“لا يوجد شيء عديم الجدوى أكثر من فعل شيء بكفاءة عالية وهو لا ينبغي فعله أصلًا.”
المخاطر المحتملة لتطبيق المبدأ
رغم فوائد قانون باريتو، فإن التركيز المفرط قد يحمل مخاطر:
• إهمال الجوانب الأقل وضوحاً: التركيز على 20% من الأولويات قد يؤدي إلى إغفال أمور أخرى مهمة على المدى الطويل، مثل الصحة العقلية أو العلاقات الثانوية التي قد تكون قيّمة بطرق غير مباشرة.
• تعزيز التفاوت: في الاقتصاد، قد يؤدي التركيز على الأقلية المربحة إلى تفاقم الفجوة بين الأغنياء والفقراء. على سبيل المثال، تركيز الشركات على 20% من العملاء الأكثر ربحية قد يهمل فئات أخرى.
• الإرهاق: إذا أُسيء فهم المبدأ، قد يدفع الأفراد إلى الضغط المفرط على أنفسهم لتحقيق “الكمال” في الـ20%.
• التبسيط المفرط: افتراض أن كل شيء يمكن تقليصه إلى 80/20 قد يؤدي إلى تجاهل التعقيدات في بعض المجالات.
للتغلب على هذه المخاطر، يجب مراجعة الأولويات بشكل دوري والتأكد من تحقيق توازن بين الجوانب المختلفة للحياة. على سبيل المثال، تخصيص وقت للراحة أو العلاقات الثانوية يمكن أن يمنع الإرهاق ويعزز الاستدامة.
المستقبل: باريتو في عصر الذكاء الاصطناعي
في العصر الرقمي، أصبح تطبيق مبدأ باريتو أكثر دقة بفضل التكنولوجيا:
• تحليل البيانات: تستخدم الشركات الخوارزميات لتحديد العملاء أو المنتجات التي تحقق حوالي 80% من الأرباح في ثوانٍ. على سبيل المثال، برامج مثل Tableau تتيح تحليل البيانات لتحديد الأولويات بسرعة وكفاءة.
• التعليم الإلكتروني: منصات مثل Coursera تستخدم بيانات المتعلمين لتقديم محتوى مخصص يحقق ما يقارب 80% من الفائدة التعليمية بأقل وقت. دراسة من Coursera (2022) أظهرت أن المتعلمين الذين يركزون على الدورات الأساسية يكملون تعليمهم بنسبة نجاح أعلى بـ30%.
• الرعاية الصحية: دراسة من The Lancet (2022) أظهرت أن حوالي 20% من التدخلات الطبية – مثل التطعيمات والفحوصات الدورية – تمنع ما يقارب 80% من الأمراض القابلة للوقاية.
في الاقتصاد الرقمي، تدرك شركات التكنولوجيا أن نسبة صغيرة من الميزات – مثل واجهة المستخدم البسيطة أو التوصيات الذكية – تجذب حوالي 80% من المستخدمين، فتركز استثماراتها عليها.
التحولات الاجتماعية والاقتصادية
يعكس قانون باريتو التفاوت المتزايد في عصرنا، لكنه يقدم أيضاً خارطة طريق لتقليص الفجوة. من خلال تحديد الأفعال ذات الأثر الأكبر، يمكن للأفراد والمؤسسات تحقيق نتائج استثنائية حتى في عالم معقد ومتغير. على سبيل المثال، في التعليم، يمكن أن يحقق التركيز على تعليم المهارات الأساسية – مثل التفكير النقدي أو البرمجة – ما يقارب 80% من الفائدة التعليمية، مقارنة بالمناهج الواسعة التي قد تشتت الجهود.
على المستوى الاجتماعي، يمكن تطبيق المبدأ لتحسين المجتمعات. على سبيل المثال، استثمار 20% من الموارد في برامج اجتماعية مثل التعليم الأساسي أو الرعاية الصحية الوقائية يمكن أن يحقق حوالي 80% من التحسينات في جودة الحياة، كما أظهرت دراسات التنمية العالمية من الأمم المتحدة (2022).
في الختام لابد من تحالف العقل والفعل.
قانون باريتو ليس مجرد نسبة رياضية، بل دعوة إلى الحياة الواعية. إنه يحررنا من فخ الانشغال الفارغ، ويدعونا إلى توجيه طاقتنا نحو ما يصنع الفارق. السؤال الأهم يبقى:
إذا أردنا تغيير حياتنا، ما هو الـ20% من أفعالنا الذي سيحقق 80% من النتائج؟
إجابة هذا السؤال قد تكون بداية ثورة هادئة تصنع مستقبلاً جديداً. سواء كنت تسعى لتحسين إنتاجيتك، علاقاتك، أو سلامتك الروحية، فإن قانون باريتو يقدم دليلاً بسيطاً لكن عميقاً: ركز على القليل الذي يغيّر الكثير.
—————
المصادر:
1. Pareto, V. (1896). Cours d’économie politique. Lausanne: Rouge.
2. Koch, R. (1998). The 80/20 Principle: The Secret to Achieving More with Less. New York: Currency.
3. Drucker, P. F. (1967). The Effective Executive. New York: Harper & Row.
4. Amazon Annual Reports (2010–2023). متاح على: investor.amazon.com.
5. Netflix Engagement Report (2023, covering 2022 data). متاح على: about.netflix.com.
6. Tesla Impact Report (2022). متاح على: tesla.com/impact.
7. YouTube Creator Economy Report by Oxford Economics (2023). متاح على: youtube.com/impact.
8. “The Science of Gratitude” (2021). Journal of Positive Psychology. DOI: 10.1080/17439760.2021.1892587.
9. “Prioritizing Tasks for Productivity” (2019). Harvard Business Review. متاح على: hbr.org.
10. “Preventive Healthcare Interventions” (2022). The Lancet. DOI: 10.1016/S0140-6736(22)01234-5.
11. United Nations Development Programme (2022). Human Development Report. متاح على: hdr.undp.org.
#أوزجان_يشار (هاشتاغ)
Ozjan_Yeshar#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟