حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 14:02
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
د.حمدي سيد محمد محمود
المتخيل الاجتماعي كنظام لإنتاج المعنى لا يمكن فهمه بمعزل عن سياق إنتاج الخطاب الرمزي؛ فالمجتمع يوظف مفاهيم، صورًا، وأساطير ليفسّر بها ذاته ويبني قواعد التعاقد الاجتماعي. في هذا الإطار، تتيح لنا قراءة ما بعد الحداثة رؤية مفيدة: حيث لم يعد هناك مركز واحد للمعنى أو سردية موحّدة، بل ساحة متعددة الأصوات تتنافس فيها روايات متنازعة، وتُعاد فيها صياغة الحقيقة بوصفها عملية ديناميكية. مفكّرو ما بعد الحداثة (مثل ليون أوستين، جان فرانسوا ليهوتار، جاك دريدا) ركّزوا على تشظّي السرديات الكبرى، وعلى انهيار القناعات التأسيسية التي كانت تمنح المعنى شرعيته المطلقة. هذا التشظّي يحرّر طاقات إبداعية لكنه يترك أيضًا فراغًا يسهل استغلاله سياسياً وثقافياً بواسطة قوى ليست بالضرورة قادرة على الحفاظ على المصلحة العامة.
من منظور السلطة والمعرفة، يظل ميشيل فوكو مهمًا في تفسير كيفية تشكيل المتخيل عبر آليات الخطاب والمؤسسات. فوكو يعلّمنا أن المتخيل مرتبط بما يُقال وما يُمنع قوله، وبما تُقننه المعرفة من جهات مؤسسية (التعليم، الإعلام، القانون، الطب). بالتالي، أي تحويل في آليات إنتاج المعرفة —كالتحول الرقمي أو التكنولوجي— يصاحبه بالضرورة تحول في المتخيل. أما بيير بورديو فقد أضاف بُعدًا ممارسياً: المجال الرمزي يحوز سلطة حقيقية تُترجَم إلى رأس مال ثقافي واجتماعي يُوزِّع الفرص والامتيازات. لذا، عندما تتغير قواعد إنتاج الرمز، تتبدّل خرائط التوزيع الاجتماعي للسلطة.
وبالانتقال إلى بعد الإنتاج التقني للمعنى، تبرز الآن وسائط رقمية جديدة —خوارزميات التخصيص، منصات التواصل، محركات التوصية— كوسطاء فاعلين بين الفرد والعالم. هذه الوسائط لا تكتفي بنقل المتخيل بل تشكّله بنشاط: فهي تقوّي أنماطًا نصية وبصرية معينة، تعطي أولوية لسرديات تجذب الانتباه، وتُبقي المستخدم في حلقات تكرار معرفي تعزّز اختياراته المسبقة. هذه العملية تؤدي إلى ما يمكن تسميته «أقطاب متخيلية» متباعدة داخل المجتمع: مجموعات متماسكة داخليًا لكنها معزولة معرفيًا عن بعضها البعض. النتيجة: تراجع المساحات المشتركة للخطاب العام وصعوبة إنتاج متخيل جامع يتسع للاختلاف.
هنا يظهر دور الذكاء الاصطناعي خصوصًا في مرحلتين متلازمتين: الأول —الوساطة التنبؤية— حيث تقرر الخوارزميات أي محتوى يصل إلى أي مستخدم، والثاني —الإنشاء الصناعي— حيث بات الذكاء الاصطناعي قادرًا على توليد نصوص وصور وفيديوهات تبدو بشرية الطابع (النصوص الاصطناعية، الصور المزيّفة، الفيديوهات العميقة). الأول يميل إلى تقوية الأصداف المعرفية (filter bubbles) والثاني يهدّد مصداقية الرمز ذاته، لأن المعرفة المرئية/السمعية تصبح قابلة للتزييف بإتقان. عندما يلتقيان، يتحول المشهد إلى بيئة تكون فيها الحدود بين الحقيقة والتمثيل قابلة للاهتزاز، ويتضاءل ثمن الثقة—الذي هو حجر الزاوية لأي متخيل اجتماعي مستقر.
على مستوى الهوية، هذه التحولات تفتح أفقًا مزدوجًا: من جهة، تمنح أفرادًا ومجموعات قدرة أكبر على تشكيل صور ذاتية جديدة، والتجريب بصيغ للانتماء والهوية (هويات هجينة، متعددة الطبقات، افتراضية). من جهة أخرى، تخلق أزمة في إحدى وظائف المتخيل الكلاسيكية: توفير إحساس بالاستمرارية والارتباط عبر الزمن. إذ يصبح الفرد عرضة لانفصام بين هوية رقمية تتحرك في فضاءات افتراضية ومتخيلات محلية مرتبطة بالتجربة المعيشة. هذا الانقسام يمكن أن يولد شعورًا بالعزلة أو بالاغتراب، وقد يصبح أرضًا خصبة للتطرف الرمزي عندما تقدم جهات فاعلة روايات قوية وواضحة، حتى لو كانت مضللة.
على الصعيد السياسي، المتخيلات الحديثة المتأثّرة بالذكاء الاصطناعي تجعل من السرد أداة استراتيجية أكثر فاعلية —ومن ثم أكثر خطورة— لأن بإمكانها توجيه الإدراك العام بطرق دقيقة ومجزأة. الحملات المعلوماتية الدقيقة، استهداف شرائح نفسية واهتمامات متخصصة، وإنتاج محتوى يبدو أصيلاً لكنه مُصنّع، كل ذلك يعيد رسم ميدان التمثيل السياسي ويضعف آليات المساءلة التقليدية. النتيجة المحتملة: قواعد الشرعية تتحول من كونها مستندة إلى مؤسسات وعمليات سياسية إلى كونها مشروطة بذاكرة رقمية ومدى انتشار سرديات محددة على منصات رقمية.
المجال الاقتصادي يتأثر أيضًا؛ فالرموز والقيم أصبحت سلعة قابلة للتبادل في السوق الإعلامي الرقمي. المتخيلات التي تُنتَج بكفاءة عالية تُسوَّق وتدرّ أرباحًا، ما يعني أن قوى السوق تميل إلى دعم سرديات تجذب الانتباه والإنفاق، وليس بالضرورة تلك التي تخدم المصلحة العامة. هذا التحوّل يؤثّر على ثقافة الاستهلاك، على نمط الطلب، وعلى آليات التمييز والطبقية الثقافية: فالمتخيلات المستهلكة باهظة الإنتاج تُكرّس تمايزًا بين من يستطيع امتلاكها وبين من يستهلك بدائل رخيصة أو هامشية.
من زاوية ثقافية وفنية، ربما يكمن الأمل في أن الفنون والعمليات الإبداعية الأصيلة قادرة على إنتاج متخيلات مضادة تعيد تشكيل المساحات المشتركة. لكن التحدي هنا مزدوج: على المبدعين أن يعملوا في ظل نظم اقتصادية ومنصات رقمية تميل إلى مقايضة العمق بالتعجّب، وأن يشتغلوا ضد إخضاع الهوية الثقافية لآليات سوق العالمية. التعليم الثقافي والفني يصبح بالتالي أداة دفاعية واستباقية: تعليم يعلّم المقارنة النقدية، قراءة الوسائط، والقدرة على التمييز بين المصداقية والسرد الصناعي.
ننتقل الآن إلى السيناريوهات المستقبلية الممكنة (لاختصار الرؤية أقدّم ثلاثة مسارات متمايزة):
1. سيناريو التكامل الديمقراطي البنّاء: حيث تتبلور مؤسسات إعلامية وتعليمية وقانونية تضع ضوابط للخوارزميات، وتعزّز الأدوات الشفافة للمساءلة، وتُطوّر مناهج للحس الرقمي. في هذا المسار، يُستخدم الذكاء الاصطناعي كأداة لتعزيز مشاركة معنى عادلة ومشتركة، وتُعاد صياغة متخيل وطني/مجتمعي يتبنّى الانفتاح من دون فقدان الجذور.
2. سيناريو التجزّؤ الرمزي والسياسي: حيث تفشل المؤسسات في مجابهة الفوضى الرقمية، وتتمكن قوى خاصة (سياسية أو تجارية) من احتكار إنتاج المتخيلات، ما يؤدي إلى زيادة الانقسام الاجتماعي وتآكل الثقة العامّة. هنا ترى المجتمعات قطبيّة معرفية متعارضة، وصعوبة في إنتاج خطاب سائد يمكن البناء عليه.
3. سيناريو التبعية الرمزية/الاستلاب: في هذا المسار، تُستورد المتخيلات الجاهزة من مراكز إنتاج ثقافي قوية، ما يؤدي إلى فقدان قدرة المجتمعات على إنتاج سرديات ذاتية قوية ومستقلة، ويتحوّل الكثير من الفضاء العام إلى نسخة محلية من سرديات عالمية لا تعكس الاهتمامات المحلية الحقيقية.
وللعمل ضد السيناريوهين السلبيين ودعم السيناريو الإيجابي، أقدّم مجموعة من التوصيات العملية الاستراتيجية على مستويات متداخلة:
تشريعي وسياسي: وضع أطر تنظيمية تحكم شفافية الخوارزميات، حقوق الوصول إلى البيانات، وقواعد مساءلة منصات التواصل. دعم سياسات تُلزم المنصات بإتاحة آليات تدقيق محتوى ومصادر.
تعليمي وثقافي: إدراج مناهج "المحو الأمية الرقمية النقدية" في مراحل التعليم الأساسية والجامعية، مع تدريب المعلمين على تحليل الخطاب الرقمي وفهم منطق الخوارزميات. دعم الفن المحلي والمبادرات الثقافية التي تنتج متخيلات بديلة جذابة ومؤثرة.
تقني وأخلاقي: تطوير أدوات مفتوحة المصدر لفحص التزييف (deepfake detectors) وخوارزميات شفافة يمكن تدقيقها مجتمعياً. تشجيع مبادرات "الذكاء الاصطناعي العاملة للمصلحة العامة" التي تصمّم نظم توصية تعطي تنوّعًا معرفيًا بدلًا من استغلال الانتباه فقط.
مؤسساتي ومجتمعي: دعم منصات محلية متخصصة تُعيد إنتاج السرد الجمعي عبر مصادر موثوقة، وتعزيز شبكات المدافعين عن الحقيقة (fact-checkers) علميًا ومؤسسياً. فتح مساحات للحوار بين الأجيال لتقليل فجوات المتخيل وإيجاد سلوكيات تواصلية مشتركة.
أخلاقي وثقافي: تعزيز قيم ثقافية تحترم التنوع وتقدّر النقد البنّاء، وبناء روايات وطنية/مدنية جديدة تُحوّل الانتماء إلى فعل مدني واعٍ لا مجرد صورة مستهلكة.
في الخاتمة، نؤكد أن المتخيل الاجتماعي ليس ماضياً جامداً ولا مستقبلاً محكومًا مسبقًا؛ بل هو ساحة صراع رمزي تُبنى فيها معاني الغد. الذكاء الاصطناعي والوسائط الرقمية يمنحان قدرات هائلة لإنتاج وتوزيع المتخيلات، لكنهما أيضاً يضعفان الضمانات التقليدية للمصداقية والتماسك. المسألة إذن ليست رفض التقنية أو التقديس الأعمى لها، بل استعادة القدرة الجماعية على إنتاج متخيل قائم على قواعد شفافة، حوارية، وقادرة على إدماج الاختلاف —متخيل يدمج الحرية بالمسؤولية، والابتكار بالاستمرارية الثقافية. الخطر الحقيقي ليس فقط في تكنولوجيا محددة، بل في فقدان مجتمعنا القدرة على قول «نحن» بمعنى مشترك يحمينا من التمزق ويمكّننا من الفعل المشترك.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟