أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حمدي سيد محمد محمود - من الإنسان إلى الإله: جدلية لاهوت المسيح في القرون الثلاثة الأولى














المزيد.....

من الإنسان إلى الإله: جدلية لاهوت المسيح في القرون الثلاثة الأولى


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8425 - 2025 / 8 / 5 - 11:07
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لطالما شكّلت مسألة ألوهية المسيح إحدى أكثر القضايا اللاهوتية إثارة للجدل في التاريخ المسيحي، خاصة في القرون الثلاثة الأولى قبل مجمع نيقية عام 325 ميلادية، والذي مثّل لحظة فاصلة في بلورة العقيدة الرسمية للكنيسة الإمبراطورية. فالطبيعة الإلهية للمسيح لم تكن دائمًا موضوع إجماع في المجتمعات المسيحية الأولى، بل كانت تخضع لتأويلات متنوعة، متباينة، بل ومتضاربة أحيانًا، تعكس تعددية النصوص، والسياقات الثقافية، والاجتماعية، والفلسفية التي نشأت فيها هذه الجماعات.

إن العودة إلى المصادر المسيحية المبكرة، سواء كانت كتابات الآباء الرسوليين، أو النصوص الأبوكريفية، أو الأناجيل القانونية وغير القانونية، تُظهر بوضوح أن فكرة ألوهية المسيح كانت محل نقاشٍ وتطور، وليست عقيدة متشكلة منذ البداية. فرغم أن بعض نصوص العهد الجديد ـ مثل إنجيل يوحنا ـ تقدّم المسيح في صورة ذات ملامح لاهوتية واضحة، فإن هذا الطرح لم يكن هو السائد بالضرورة في بقية الأناجيل أو في رسائل بولس المبكرة، والتي غالبًا ما تتحدث عن المسيح كـ"ابن الله" بمعنى الوظيفة الرسالية، دون الإشارة الصريحة إلى المساواة الجوهرية بينه وبين الله الآب، على النحو الذي سيقره لاحقًا مجمع نيقية.

ويبدو أن المسيحية الناشئة قد ورثت من السياق اليهودي تصوراتها التوحيدية الصارمة، وهو ما شكّل تحديًا لاهوتيًا أمام محاولات تأليه المسيح. فالمجتمع اليهودي ـ الذي نشأت المسيحية في أحشائه ـ لم يكن مستعدًا لقبول فكرة وجود كائن بشري أو حتى كائن إلهي دون الله نفسه، يُعبد أو يُجعل في مقام الألوهية. ولهذا، فإن غالبية الجماعات المسيحية الأولى تبنت نموذجًا تصاعديًا لفهم المسيح، حيث يُنظر إليه كنبي، أو إنسان مملوء بالروح، ثم كابن لله بالتبني، ثم ككائن فوق بشري، دون أن يُساوى صراحة بالله في الجوهر والمقام.

وتشهد كتابات ما قبل نيقية على هذا التنوع اللاهوتي اللافت. فمثلًا، في رسالة إغناطيوس الأنطاكي (المتوفى حوالي 110 م)، تظهر إشارات واضحة إلى لاهوت المسيح، لكنه لاهوت يتداخل فيه مفهوم التجسد مع طابع شعائري ليتورجي، دون خوض فلسفي في طبيعة المسيح الإلهية. أما يوستينوس الشهيد (منتصف القرن الثاني)، فقد قدّم تفسيرًا أكثر فلسفية، حيث ربط بين "اللوغوس" المسيحي والمفهوم الرواقي والأفلاطوني للعقل الكوني، واعتبر أن المسيح هو تجلٍ للوغوس الإلهي، لكنه ليس مساويًا في الجوهر للآب، بل أدنى مرتبة منه، مما يقترب من ما يُعرف لاحقًا بـ"الآريوسية".

إن تحليل نصوص العهد الجديد ذاتها يُظهر تدرجًا لاهوتيًا واضحًا. فبينما يعرض إنجيل مرقس ـ أقدم الأناجيل زمنًا ـ صورة إنسانية جدًا للمسيح، تزداد ملامح الألوهية تدريجيًا في إنجيلي متى ولوقا، وتبلغ ذروتها في إنجيل يوحنا، حيث تُستعمل لغة "اللوغوس"، وعبارات مثل "أنا والآب واحد"، و"من رآني فقد رأى الآب"، وهي عبارات لطالما فسّرها اللاهوت الرسمي اللاحق كمؤشرات صريحة على وحدة الجوهر بين المسيح والآب. إلا أن هذه التفسيرات ظلت محل خلاف بين تيارات مسيحية أخرى ظهرت قبل نيقية، مثل التبنويين (Adoptionists) الذين اعتبروا أن المسيح إنسانٌ قد اختاره الله ورفعه، والدوستيين (Docetists) الذين رأوا أن المسيح كان كائنًا روحيًا لم يتخذ جسدًا حقيقيًا، وأصحاب الفكر الغنوصي الذين قدموا صورة معقدة للمسيح تجمع بين الألوهية والمعرفة الباطنية.

لقد كان الفكر المسيحي في هذه الحقبة مفتوحًا على التأويلات الفلسفية الهيلينية، مما أثّر في بناء مفاهيمه اللاهوتية. فقد استعان اللاهوتيون الأوائل بمفاهيم أفلاطونية وأفلوطينية لتفسير علاقة المسيح بالله، مما ساعد في ترسيخ صورة لاهوتية ميتافيزيقية عنه، دون أن يؤدي ذلك مباشرة إلى القول بتساوي الجوهر، بل إلى تراتبية كونية يكون فيها الآب في القمة، والابن في مرتبة أدنى، لكنه لا يزال يشعّ من ذات النور الإلهي، كما عبّر كثير منهم.

إن الصيغة النهائية التي اعتمدها مجمع نيقية ـ القائلة بأن المسيح "مولود غير مخلوق، مساوي للآب في الجوهر" ـ لم تكن استمرارية طبيعية لتعليم المسيحية الأولى، بقدر ما كانت تتويجًا لصراع فكري ولاهوتي طويل، حُسم لأسباب عقائدية وسياسية في آنٍ معًا. وقد تم إقصاء تيارات فكرية عديدة، مثل الآريوسية، التي اعتبرت أن المسيح كائن مخلوق وإن كان أسمى من بقية الخلق، مما يدل على أن توحيد العقيدة جاء نتيجة تدخل سلطوي إمبراطوري من قبل قسطنطين، أكثر من كونه تطورًا عضويًا للتقليد المسيحي المبكر.

وفي المحصلة، فإن مسألة ألوهية المسيح قبل مجمع نيقية لم تكن محسومة، بل كانت موضع جدل ثري، يعكس التعددية الأصلية في الفكر المسيحي. وكانت هذه التعددية تشكّل ساحة نقاش لاهوتي وفلسفي وروحي مفتوح، قبل أن تُحسم بقرارات سلطوية باسم "الإيمان القويم". ومن هنا، فإن دراسة ألوهية المسيح في المصادر المسيحية ما قبل نيقية لا تكشف فقط عن تحولات العقيدة، بل تُضيء كذلك على كيفية تشكّل السلطة المعرفية والدينية في التاريخ، وكيف يمكن للاعتقاد أن يُصاغ ويُفرض كحقيقة مطلقة عبر مسارات جدلية ومعقدة لا تنفصل عن السياقات السياسية والثقافية التي أنتجته.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذكاء الاصطناعي والاقتصاد النفسي: عقل بشري في قبضة خوارزمية ...
- الإقناع الخفي في عصر الذكاء الفائق: استعمار اللاوعي وتحرير ا ...
- إمبراطورية الانقسام: كيف أعادت بريطانيا رسم العالم بالصراعات
- إعادة رسم النفوذ: أوروبا و أمريكا في معترك التوازنات الجديدة ...
- من المنطق إلى الوجود: كيف أعادت الفلسفة الإسلامية تشكيل العق ...
- الذكاء الاصطناعي واختبار الديمقراطية: بين التمكين والخطر
- حروب بلا جنود: صعود الذكاء الاصطناعي كقوة ضاربة في أيدي الجم ...
- إعادة رسم خرائط النفوذ : السباق الفضائي وأشباه الموصلات في م ...
- التحرر من الهيمنة الرقمية: نحو سيادة معرفية وتقنية عادلة
- المرتزقة السيبرانية وحروب الظل بالوكالة
- القيادة الإبداعية في عصر الذكاء الفائق: التحول من الكاريزما ...
- العقل المستبدّ: جنوح التيار العلماني المتطرف لتفكيك ثوابت ال ...
- حين تتكلم الخوارزميات: المؤسسة السياسية في زمن التفاعل الذكي
- التواصل المفقود: كيف اغترب الإنسان عن الإنسان في عصر الذكاء ...
- السرديات القُطرية وعقبة الوحدة العربية
- فلسفة ما بعد الإنسان: تحولات الذات في عصر الكائنات المعززة
- إدارة الأزمات بعد الإنسان: الدولة الخوارزمية، والمجتمع تحت ا ...
- الفلسفة في مواجهة المستقبل: تأملات عميقة في وعي الآلة، أخلاق ...
- المؤسسات في زمن الذكاء الفائق: من البيروقراطية إلى الخوارزمي ...
- التكامل الذكائي: من سيادة العقل إلى خوارزمية السيطرة


المزيد.....




- قطر تدين بشدة اقتحام مستوطنين باحات المسجد الأقصى
- -العدل والإحسان- المغربية: لا يُردع العدو إلا بالقوة.. وغزة ...
- وفاة معتقل فلسطيني من الضفة الغربية داخل سجن إسرائيلي
- الخارجية الإيرانية تدين تدنيس المسجد الأقصى
- شاهد/حاخام صهيوني يصدر فتوى بقتل أطفال غزة جوعًا: -لا رحمة ع ...
- كاتبة إسرائيلية: من يتجاهل مجاعة غزة ينتهك التعاليم اليهودية ...
- عاجل | بوليتيكو عن رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولم ...
- منظمة التعاون الإسلامي تدين اقتحام المتطرف بن غفير باحات الم ...
- البرلمان العربي يدين اقتحام المستعمرين بقيادة بن غفير المسجد ...
- منظمة التعاون الإسلامي تدين اقتحام -بن غفير- باحات المسجد ال ...


المزيد.....

- علي قتل فاطمة الزهراء , جريمة في يترب / حسين العراقي
- المثقف العربي بين النظام و بنية النظام / أحمد التاوتي
- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - حمدي سيد محمد محمود - من الإنسان إلى الإله: جدلية لاهوت المسيح في القرون الثلاثة الأولى