أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من المنطق إلى الوجود: كيف أعادت الفلسفة الإسلامية تشكيل العقل الأوروبي














المزيد.....

من المنطق إلى الوجود: كيف أعادت الفلسفة الإسلامية تشكيل العقل الأوروبي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8420 - 2025 / 7 / 31 - 11:31
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


لعبت الفلسفة الإسلامية دورًا عميقًا ومحوريًا في تشكيل معالم الفكر الأوروبي، ليس فقط في العصور الوسطى، بل امتدت تأثيراتها لتضع الأسس الأولى لنهضة أوروبا الحديثة. لقد مثّل انتقال المعارف الفلسفية والعلمية من العالم الإسلامي إلى أوروبا نقطة تحول كبرى في مسار التاريخ الفكري الأوروبي، إذ لم تقتصر هذه التأثيرات على مجرد نقل معلومات، بل كانت بمثابة إعادة تشكيل للبنى المعرفية والمنهجية التي قامت عليها الفلسفة الغربية الحديثة.

لقد استوعب الفلاسفة الأوروبيون، من خلال الترجمات اللاتينية لأعمال الفلاسفة المسلمين مثل ابن سينا والفارابي وابن رشد، مفاهيم ومناهج جديدة تتعلق بالعقل، والوجود، ومكانة الإنسان في الكون، وعلاقة العقل بالوحي. ففي الوقت الذي كانت فيه أوروبا تغرق في ظلمات اللاهوت الجامد، كانت الفلسفة الإسلامية تطرح مفاهيم عقلانية شديدة العمق والدقة، قادرة على التوفيق بين العقل والدين، وبين العلم والإيمان. وقد شكّلت هذه المفاهيم صدمة معرفية للغرب، وأيقظت فيه الرغبة في التجديد، وأسست لمرحلة من التفاعل الجدلي البنّاء مع التراث الإسلامي.

أحد أهم المحاور التي أثرت بها الفلسفة الإسلامية هو مفهوم "العلية" أو السببية كما طرحه ابن سينا، والذي كان له تأثير واضح على فلسفة توما الأكويني، لا سيما في مسألة البرهان الكوني لوجود الله. كما أن ابن رشد، من خلال شروحه العميقة لأرسطو، أعاد إحياء الفلسفة اليونانية في سياق عقلاني إسلامي، ثم أعاد الأوروبيون اكتشافها من خلاله، مما جعله يُلقب في الغرب بـ "الشارح الأكبر". وقد امتد تأثيره إلى فلاسفة التنوير مثل سبينوزا ولوك وديكارت، الذين استلهموا منه النزعة العقلانية والتحليل الفلسفي النقدي.

من جهة أخرى، أثرت الفلسفة الإسلامية في التأسيس المعرفي للمنهج العلمي، حيث لم تكن فلسفة المسلمين انعزالية أو تأملية محضة، بل كانت مشبعة بالاهتمام بالواقع الطبيعي، ومن هنا نجد أن مفهوم "التحقيق العقلي التجريبي" عند الحسن بن الهيثم، وأطروحات الكندي في الرياضيات والفيزياء، كانت بمثابة بذور للمنهج العلمي الحديث الذي سيزدهر لاحقًا في أوروبا. كما ساهمت الأفكار المتعلقة بالحتمية الكونية وتناغم الطبيعة في بلورة مفاهيم العقلانية الأوروبية التي ميّزت الحداثة الغربية لاحقًا.

التفاعل مع الفلسفة الإسلامية لم يكن تفاعلًا أحادي الاتجاه، بل كان تفاعلًا نقديًا خصبًا، ساعد الأوروبيين على تطوير أدواتهم الفلسفية، ومهّد للقطيعة مع التراث الكنسي الجامد. فقد شكّلت الفلسفة الإسلامية نموذجًا يُحتذى به في الجمع بين الإيمان والعقل، بين النقل والعقلانية، وهو ما حفّز الفكر الأوروبي على تجاوز مرحلة النقل إلى مرحلة التأصيل والتجديد.

إن التأثير الذي أحدثته الفلسفة الإسلامية في الفكر الأوروبي لا يمكن فهمه إلا في إطار تاريخي وجيوثقافي أوسع، حيث كان العالم الإسلامي يشكل مركزًا للحضارة والمعرفة، بينما كانت أوروبا تمر بمرحلة من الركود الفكري والجمود العقائدي. ومع بداية الترجمة في الأندلس وصقلية، وازدهار مراكز الترجمة مثل "بيت الحكمة" في بغداد، انتقلت موجات من المعارف إلى أوروبا، لم تغيّر فقط ما تعرفه عن العالم، بل غيّرت طريقة تفكيرها ذاتها.

لقد مهّدت هذه الفلسفة لنشوء الروح النقدية في الفكر الأوروبي، وساهمت في بناء الجسور الأولى نحو عصر التنوير، ويكفي أن نعلم أن عددًا كبيرًا من الجامعات الأوروبية الأولى، مثل جامعة باريس، كانت تُدرّس مؤلفات ابن رشد وابن سينا بوصفها نصوصًا فلسفية أساسية. ومن هذا المنطلق، فإن الادعاء بأن الفلسفة الإسلامية كانت مجرد تراث هامشي هو تجاهل صارخ لدورها المؤسس في تاريخ الفكر الأوروبي، بل هي كانت ـ على العكس من ذلك ـ المحرّك الخفي الذي ساعد على انبعاث أوروبا من ركام الظلام إلى فجر الحداثة.

إن استيعاب هذا التأثير لا ينبغي أن يُفهم بوصفه مجرد اعتراف بالفضل، بل هو أيضًا اعتراف بتشابك الحضارات وتداخلها، وبأن الفلسفة الإسلامية كانت في جوهرها مشروعًا إنسانيًا عالميًا، يتجاوز حدود الدين والثقافة واللغة، ويقدّم نموذجًا للفكر الذي ينفتح على الآخر، ويحتضن التنوع، ويعترف بالعقل بوصفه أداة للفهم والتحرر.

وفي ضوء هذا الفهم، يصبح من الضروري إعادة قراءة تاريخ الفلسفة الأوروبية في ضوء مساهمات الفكر الإسلامي، لا كمصدر للتثمين العاطفي أو الدفاع الهوياتي، بل كجزء من السردية الكونية للفكر الإنساني، التي لا تكتمل إلا بإدراك الدور الريادي للفلسفة الإسلامية في تشكيل العالم الذي نعرفه اليوم.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الذكاء الاصطناعي واختبار الديمقراطية: بين التمكين والخطر
- حروب بلا جنود: صعود الذكاء الاصطناعي كقوة ضاربة في أيدي الجم ...
- إعادة رسم خرائط النفوذ : السباق الفضائي وأشباه الموصلات في م ...
- التحرر من الهيمنة الرقمية: نحو سيادة معرفية وتقنية عادلة
- المرتزقة السيبرانية وحروب الظل بالوكالة
- القيادة الإبداعية في عصر الذكاء الفائق: التحول من الكاريزما ...
- العقل المستبدّ: جنوح التيار العلماني المتطرف لتفكيك ثوابت ال ...
- حين تتكلم الخوارزميات: المؤسسة السياسية في زمن التفاعل الذكي
- التواصل المفقود: كيف اغترب الإنسان عن الإنسان في عصر الذكاء ...
- السرديات القُطرية وعقبة الوحدة العربية
- فلسفة ما بعد الإنسان: تحولات الذات في عصر الكائنات المعززة
- إدارة الأزمات بعد الإنسان: الدولة الخوارزمية، والمجتمع تحت ا ...
- الفلسفة في مواجهة المستقبل: تأملات عميقة في وعي الآلة، أخلاق ...
- المؤسسات في زمن الذكاء الفائق: من البيروقراطية إلى الخوارزمي ...
- التكامل الذكائي: من سيادة العقل إلى خوارزمية السيطرة
- أنقاض المعنى: الفلسفة الأوروبية بين مشروع العقل وانهيار اليق ...
- الكسب في الفكر الأشعري: فلسفة التوفيق بين الجبر والاختيار
- الفلسفة الأوروبية المعاصرة وتحديات العصر الحديث: بين العلمنة ...
- الأمن القومي في زمن السيادة الرقمية: الذكاء الاصطناعي والخوا ...
- الفلسفة في مواجهة الزمن : قراءة عميقة في تحولات العقل الأورو ...


المزيد.....




- ما هي الدول التي تغيرت رسومها الجمركية منذ إعلان ترامب في -ي ...
- الإعلان عن تكلفة بناء قاعة ترامب للاحتفالات في البيت الأبيض ...
- اكتشاف مذهل لوشوم معقدة على جسد مومياء عمرها 2,500 عام
- ترامب يفرض رسوما جمركية تصل إلى 41% على عشرات الدول بدءا من ...
- نيورالينك تبدأ تجارب بشرائح الدماغ في بريطانيا لتمكين مرضى ا ...
- سلوفينيا تعلن حظر عبور وتجارة الأسلحة مع إسرائيل بسبب الحرب ...
- البيت الأبيض: ترامب يزيد الرسوم الجمركية على كندا إلى 35%
- إسرائيل تبدأ إجلاء دبلوماسييها من الإمارات بعد تحذيرات أمنية ...
- سوريا: وزارة العدل تشكل لجنة رسمية لبحث أسباب ونتائج اشتباكا ...
- سلوفينيا أول دولة أوروبية تحظر تجارة الأسلحة مع إسرائيل


المزيد.....

- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - من المنطق إلى الوجود: كيف أعادت الفلسفة الإسلامية تشكيل العقل الأوروبي