أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - البناء القاعدي: من فكرة التحرر إلى أداة الهيمنة؟















المزيد.....


البناء القاعدي: من فكرة التحرر إلى أداة الهيمنة؟


رياض الشرايطي

الحوار المتمدن-العدد: 8429 - 2025 / 8 / 9 - 04:53
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


☆القاعدية بين الخلاص الشعبي والتحريف السلطوي :
في خضمّ التناقضات العميقة التي تشقّ النظام السياسي النيوليبرالي العالمي، ومع تصاعد الأزمات الاجتماعية والاقتصادية وتآكل الثقة في الأشكال الكلاسيكية للتمثيل السياسي، برزت الحاجة إلى تصوّرات جديدة للفعل السياسي تنبع من الأسفل، وتتجاوز الحدود الضيقة للديمقراطية التمثيلية البرلمانية. هنا تعود القاعدية إلى الساحة بوصفها إمكانية تاريخية مهملة، وأفقا مفتوحا لإعادة بناء السياسة على أساس جماعي، أفقي، تحرري.
لكن ما يظهر في الظاهر كعودة للسلطة إلى الشعب، يمكن أن يخفي في عمقه إعادة إنتاج للسلطوية باسم الشعب. إنّ البناء القاعدي قد يتحوّل إلى شعار أجوف حين تتبنّاه السلطة المركزية وتفرغه من مضمونه التحرّري. ففي تونس، بعد 25 جويلية 2021، تمّ الترويج لفكرة المجالس القاعدية لا كتجسيد لسلطة الجماهير، بل كوسيلة لتبرير احتكار القرار السياسي من قبل مؤسسة الرئاسة. تحوّلت القاعدية إلى واجهة بيروقراطية جديدة تُمرّر من خلالها سياسات فوقية باسم الشعب.
نحن أمام مفارقة: كيف يمكن لفكرة ثورية أن تستخدم كغطاء للسلطوية؟ وكيف نميّز بين البناء القاعدي بوصفه أداة تحرّر جماعي، والبناء القاعدي بوصفه خطابا استبداديا جديدا؟
أنطونيو غرامشي كان قد نبّه إلى هذه اللحظات الانتقالية، حيث "يموت القديم ولا يولد الجديد بعد، وفي تلك الفجوة تظهر الوحوش." ولعلّ ما نشهده اليوم هو أحد هذه الفجوات: فراغ سياسي ملأته السلطة المركزية بواجهة قاعدية مشوّهة، ومجالس تنتَج من الأعلى، وتقدَّم للشعب كأنّها تعبير عن إرادته.
علينا إذن أن نستعيد جذور الفكرة، وأن نُعيد البناء القاعدي إلى معناه الأصلي: سلطة من الأسفل، لا إدارة من الأعلى. مشاركة مباشرة لا وساطة، ديمقراطية حقيقية لا تمثيلية زائفة. هنا تبدأ مهمتنا: أن نميّز القاعدية الحقيقية من الشعبوية المقنّعة.

1.تونس: بين البدايات العفوية والانحراف السلطوي.

بعد "الثورة" التونسية سنة 2011، ظهرت محاولات أولى لتجارب قاعدية حقيقية. في القصرين، سيدي بوزيد، وبعض أحياء العاصمة، تشكّلت لجان تنسيقية ومجالس محلية لتنظيم الخدمات والدفاع عن الحقوق. تجربة جمنة، على سبيل المثال، كانت رمزا لإمكانية التسيير الذاتي للمورد العمومي، حين تولّى الأهالي تنظيم استغلال الواحة بشكل جماعي ومنظم وناجح.
لكن هذه المحاولات لم تلقَ دعما مؤسسيا، بل حوربت من الدولة والأحزاب التي رأت فيها تهديدا لسلطتها. وتمّ تهميشها بالتدريج، أو احتواؤها عبر صفقات أو تهديدات إدارية وقضائية.
بعد 2021، قدّم الرئيس قيس سعيّد نفسه كحامل لمشروع البناء القاعدي، وهاجم البرلمان والأحزاب باسم الشعب. لكنه، بدل أن يفتح المساحات للفعل الشعبي، أنشأ هياكل فوقية اسمها "المجالس المحلية" و"مجلس الأقاليم"، كلها خاضعة للرئاسة مباشرة. المجالس لا تملك سلطة فعلية، بل دورا استشاريا أو تنفيذيا ضمن منطق مركزي مغلق. المعارضة أُقصيت، وتم التضييق على الإعلام، واحتُكر خطاب "الإرادة الشعبية" من قبل رأس السلطة.
هكذا، تحوّل مشروع القاعدية في تونس إلى تجربة "قاعدية من الأعلى إلى الأسفل"، لا تختلف في الجوهر عن غيرها من المشاريع السلطوية التي تتكلم بلغة الشعب لكنها تعمل ضده.

2.تجارب عالمية: حين تصبح المجالس القاعدية أدوات نضال حقيقية.

لنفهم المعنى العميق للبناء القاعدي، يجب العودة إلى التاريخ الثوري حيث ولدت هذه الفكرة من رحم الصراع الطبقي لا من هندسة السلطة.
-في روسيا عام 1905 ثم عام 1917، ظهرت السوفييتات أي المجالس العمالية والفلاحية والجنودية ، كأشكال تنظيمية شعبية قاعدية، تُمثّل الجماهير مباشرة، خارج البرلمان والبيروقراطية. كانت المجالس تُنتخب من قواعدها، وتُحاسب باستمرار، وتمتلك القدرة على اتخاذ قرارات جماعية حول الإنتاج، التوزيع، والدفاع الذاتي.
خلال لحظة قصيرة، كانت السوفييتات سلطة بديلة حقيقية، قبل أن تدخل في صدام مع الحزب الحاكم نفسه، الذي بدأ في احتوائها بعد الثورة. ومع صعود البيروقراطية الستالينية، جُوِّفت هذه المجالس، وأُفرغت من مضمونها التحرري، وأُخضعت كليًا للحزب والدولة.
-في تجربة باريس سنة 1871، أعلن العمال والكادحون عن قيام الكومونة: أول محاولة لإقامة سلطة شعبية محلية تُدار عبر لجان منتخبة. لم تدم الكومونة سوى 72 يوما، لكنها كانت لحظة تأسيسية في تاريخ اليسار العالمي. المجالس المنتخبة في أحياء باريس كانت تدير التعليم، الأمن، العمل، والمرافق، وألغت الامتيازات الطبقية، وفتحت الطريق لفكرة الديمقراطية المباشرة الشاملة.
لكن الكومونة دُمّرت بعنف من طرف الدولة البرجوازية، لأن النخبة لم تحتمل ولادة قوة جماهيرية خارج سيطرتها. وقد كتب ماركس عن هذه التجربة: "الكومونة كانت الشكل السياسي المُناسب لتحرر الطبقة العاملة."
-مقارنات مع أمريكا اللاتينية: الخطر حين تحتكر الدولة القاعدية
في فنزويلا، خلال حكم هوغو شافيز، تمّ تأسيس "المجالس البوليفارية"، وكانت في بدايتها قاعدية فعليًا، تدير التعليم والخدمات وتُعنى بتوزيع الغذاء. لكنها تحوّلت تدريجيا إلى أداة للحزب الحاكم، ولم تعد تمثّل السكان بل تحوّلت إلى بيروقراطية خاضعة للسلطة.
في بوليفيا، دعمت حكومة إيفو موراليس الحركات الاجتماعية القاعدية، لكنها أيضا أفرغتها تدريجيا من استقلالها، حين أصبحت هذه الحركات مُرغَمة على الاصطفاف وراء السلطة التنفيذية. من لم يخضع، تمّ اتهامه بخيانة المشروع الوطني.
في كلتا الحالتين، كانت البدايات واعدة، لكن النهاية كانت استيعابا للمجالس ضمن منطق الدولة والحزب.

3.الدروس الممكنة لتونس وما بعدها.

ما تعلّمناه من روسيا وباريس وفنزويلا وبوليفيا هو أن المجالس القاعدية لا يمكن أن تكون فعلا تحرريا إذا لم تكن مستقلّة عن الدولة، وإذا لم تُبْنَ من الأسفل، إذا لم تكن ملكا للجماهير، وإذا لم تكن أداة لامتلاك الموارد لا فقط لتمثيلها.
لا يمكن فرض القاعدية من فوق. لا يمكن للرئاسة، أيّا كانت نواياها، أن تخلق ديمقراطية شعبية بمرسوم. القاعدية ليست هندسة إدارية بل عملية نضال، ومراكمة قوى، وتنظيم ذاتي طويل الأمد. إنها مقاومة للرأسمالية، وللسلطة المركزية، وللثقافة الفردية في الحكم.
إذا كانت تونس تريد أن تبني بناء قاعديا حقيقيا، فعليها أن تبدأ من حيث يبدأ الشعب: في الحي، في الحقل، في المعمل، في المدرسة، في الشارع. على الناس أن يكوّنوا مجالسهم بأنفسهم، أن يديروا مواردهم، أن يفرضوا مشاركتهم، وأن يُبعدوا الدولة عن كل ما يمكنهم تسييره ذاتيًا.

أولا: الفرق الجوهري بين القاعدية التحررية والشعبوية القاعدية .

لكي لا نقع في فخّ الشعارات، علينا أن نحدّد بدقّة الفارق البنيوي بين القاعدية التحررية وبين القاعدية الشعبوية السلطوية. فكلاهما قد يتحدث عن المجالس، عن تمثيل الشعب، عن تجاوز الأحزاب التقليدية، لكن أحدهما يمثّل فعلا أفقا ديمقراطيا جذريا، بينما يعيد الآخر إنتاج منظومة السيطرة عبر أدوات جديدة.
1. مصدر السلطة:
في البناء القاعدي التحرّري، تنبع السلطة من القاعدة الاجتماعية: من مواقع الإنتاج، من الأحياء، من الحقول، من الجمعيات القاعدية، من المنظمات الذاتية. هي سلطة تُصاغ في اللقاءات، في النقاشات، في الجدل اليومي للجماهير. المجالس هنا ليست هيكلا فارغا، بل هي تعبير حيّ عن قدرة الناس على تنظيم حياتهم.
أمّا في البناء القاعدي الشعبوي، فإنّ السلطة تنبع من الأعلى، من مركز القرار، وتُفرَض على الجماهير باسم تمثيلها. المجالس تُعيَّن أو تُوجَّه من قبل السلطة المركزية، وتُستخدم لتمرير القرارات، لا لصياغتها. لا يوجد فيها تداول حقيقي، ولا حقّ في الاعتراض، بل طاعة تُفرض باسم "الوحدة الوطنية" أو "الإرادة العامة".
2. استقلالية المجالس:
المجالس القاعدية التحررية لا تخضع لأي وصاية. هي تُدير شؤونها بنفسها، وتملك حق انتخاب وعزل من يمثلها. لا سلطة فوقها، سوى سلطة التنسيق الأفقي بينها وبين مجالس أخرى.
أما في النموذج الشعبوي، فالمجالس تُحوَّل إلى هياكل شكلية، لا تملك القرار، ولا تمثّل فعلا من انتخبها. يجري فيها تهميش المعارضين، واحتكار الكلمة من قبل من يزكّيه المركز.
3. اتجاه القرار السياسي:
في القاعدية التحررية، تسير القرارات من الأسفل إلى الأعلى. تبدأ من أصغر خلية، وتتدرج عبر التنسيق، صعودا إلى ما يشبه الجمعية العمومية أو المجلس الوطني. أما في الشعبوية القاعدية، فالقرارات تنزل من القمة وتُطلب الشرعية من القاعدة، التي تتحول إلى مجرد "آلية تصفيق".
4. الخطاب والتضليل:
القاعدية الشعبوية تفرغ مفاهيم مثل "الشعب" من محتواها، وتستخدمها لإقصاء كل معارض. كل من لا يساند الزعيم يصبح ضد الشعب. يتمّ تهميش النقاش العمومي، وتُسكت الصحافة الحرة، ويُتّهم المجتمع المدني بأنه نخبوي أو عميل.
5. الخلفية الطبقية:
لا يمكن أن توجد قاعدية تحررية دون انحياز للطبقات المسحوقة. هي أداة مقاومة للرأسمال، وللهيمنة المركزية، وللبرجوازية الحاكمة. أما القاعدية الشعبوية، فغالبا ما تُستغل لإعادة دمج المهمشين في بنية النظام دون تغيير جوهري، بل بمنحهم أدوارا شكلية لا تمسّ جوهر السلطة.
وكما كتب كورنيليوس كاستورياديس: "الحرية ليست في المؤسسات، بل في فعل الناس. الديمقراطية ليست منحة من الدولة، بل من خلق الجماهير." وهذا هو لبّ الفارق: بين أن تُبنى المجالس من فعل الناس، أو أن تُقدَّم لهم كسلعة مصنّعة مسبقا.

ثانيا: القاعدية من منظور ماركسي: بين التحرر والصراع الطبقي .

في الفكر الماركسي، لا تُفهم الديمقراطية القاعدية كمسألة تنظيمية أو تقنية، بل كأداة للصراع الطبقي، وكمقدّمة لنفي الدولة البرجوازية ذاتها. إنها ليست بديلا شكليا للمؤسسات، بل بديلا جوهريا لنمط السلطة الرأسمالية.
يؤكد كارل ماركس، في تحليله لكومونة باريس، أن شكل الدولة الثورية يجب أن يكون قائما على المجالس المنتخبة، القابلة للعزل، والمبنية من القاعدة. يكتب ماركس: "الكومونة كانت الشكل السياسي الذي تمكّنت فيه الطبقة العاملة من الحكم لأول مرة."
أما لينين، في كراس "الدولة والثورة"، فيُعيد تأكيد الفكرة: بأنّ المجالس (السوفييتات) هي الشكل الوحيد الممكن لسلطة البروليتاريا. فالدولة ليست أداة حيادية، بل جهاز قمع طبقي، ولا يمكن تغييره من الداخل. يجب تفكيكه، واستبداله بسلطة المجالس.
وعلى هذا الأساس، يرى إرنست ماندل أنّ القاعدية ليست فقط وسيلة لإدارة الشأن المحلي، بل هي بداية سلطة الطبقة العاملة. المجالس القاعدية تصبح جهازا بديلا عن الدولة، حين تسيطر على القرارات الاقتصادية، وعلى وسائل الإنتاج.
روزا لوكسمبورغ تذهب أبعد من ذلك، معتبرة أنّ المجالس يجب أن تُعبّر عن تنوّع الطبقات الشعبية، لا عن خط واحد حزبي. تكتب: "المجالس لا تكون ثورية إلا عندما تكون منفتحة على كل تيار تحرّري، وقادرة على استيعاب الاختلاف."
في ضوء هذه الرؤية، فإنّ القاعدية لا يمكن أن تكون خادمة للسلطة، ولا أداة بيد الزعيم. إنها على العكس من ذلك: النفي الجذري لكلّ سلطة فوقية، ولكلّ احتكار طبقي.
إذا أردنا أن نعيد للقاعدية معناها، علينا أن نُعيد ربطها بجذورها الصراعية: إنها سلطة الفقراء، والمهمشين، والعاملات الفلاحيات، والطلاب، والعاطلين، ضد الدولة التي خدمت النخب لعقود.
فالقاعدية ليست إصلاحا إداريا، بل ثورة سياسية-اجتماعية. وكما قال غرامشي: "الثورة هي حرب مواضع، تُخاض في كل حيّ، وكل مصنع، وكل مجلس."

ثالثا: الثقافة السياسية كشرط ضروري للبناء القاعدي.

إنّ البناء القاعدي لا يُمكن أن ينمو في فراغ سياسي أو فوق أرض اجتماعية تفتقر إلى الوعي والتنظيم. فكما أنّ الزراعة تحتاج لتربة خصبة، تحتاج القاعدية إلى بنية ثقافية سياسية تُؤمّن إمكانية التنظيم الذاتي، والرقابة الشعبية، والمشاركة الديمقراطية. إنّ المجالس القاعدية بدون وعي شعبي متجذر تصبح مجرّد هياكل بلا مضمون، عُرضة للتوظيف السلطوي والتلاعب السياسي.
في هذا السياق، شدّد المفكر التربوي الثوري باولو فريري على أن "تحرر المضطهدين لا يتم إلا بفعل جماعي واع، يتعلم فيه الناس أن يقرؤوا العالم كما يقرؤون النص، ويفهموا الظلم كما يفهمون اللغة." فوعي الناس لذاتهم، لوضعهم الاجتماعي، ولعلاقات القوى، هو الشرط الأول لإنتاج قاعدية تحررية.
في غياب التربية السياسية النقدية، تنقلب القاعدية إلى أداة في يد من يمتلك وسائل الإعلام، أو أدوات القهر، أو من يهيمن على الخيال الشعبي. لذلك، فإن أحد شروط نجاح المجالس القاعدية هو ربطها بعمليات مستمرة من التكوين الشعبي، ومن فتح النقاش العمومي في الحقول، والمعامل، والمدارس، والأحياء.
كما لا بدّ من إحياء أدوات التنظيم الذاتي القديمة التي ساهمت تاريخيا في تشكيل وعي شعبي جماعي، مثل النقابات القاعدية، والمجموعات الفلاحية، والتعاونيات، والروابط الثقافية، والنوادي الفكرية، وهي أدوات تم تفكيكها تاريخيا من قبل الدولة المركزية خوفا من قدرتها على إنتاج وعي جماعي مستقل.
وليس صدفة أنّ أكثر التجارب القاعدية فاعلية ، من كومونة باريس إلى روجافا ، كانت دائما مرتبطة بوجود فاعلين سياسيين مثقفين عضويين في المجتمعات المحلية، قادرين على توجيه النقاشات، وتسهيل المشاركة، وتحفيز الجماهير على تجاوز الخوف والسلبية.
إنّ الوعي الشعبي لا يُبنى عبر النشرات الرسمية، بل عبر الفعل الجماعي، التجربة، النقاش، والخطأ. ولهذا فإنّ القاعدية بحاجة إلى زمن طويل من التربية السياسية، وليس إلى قرارات فوقية تُفرَض على الناس.

رابعا: التجارب الحديثة للقاعدية في كردستان والاحتلال الذاتي للمجال.

في منطقة تعجّ بالصراعات الطائفية والحروب الإمبريالية، برزت تجربة روجافا (شمال سوريا) بوصفها واحدة من أكثر المحاولات جرأة لبناء نموذج ديمقراطي قاعدي من الأسفل. استلهم هذا المشروع من فكر عبد الله أوجلان، الذي دعا إلى تجاوز الدولة القومية لصالح ما أسماه بـ"الكونفدرالية الديمقراطية"، أي بناء شبكات من المجالس المجتمعية المستقلة، تتشارك في صنع القرار، وتُمارس نوعا من الإدارة الذاتية.
ما ميّز تجربة روجافا هو اعتمادها الفعلي على المجالس المحلية المنتخبة، من القرية إلى المدينة، حيث يتم اتخاذ القرار بشكل جماعي، ويُضمن تمثيل المرأة والأقليات، كما تُمنح المجالس صلاحيات حقيقية في التعليم، والصحة، والاقتصاد، والعدالة. وقد تم تكوين "الكومينات" كخلايا قاعدية تُشكّل نواة السلطة المجتمعية، منفتحة على كلّ المكونات.
في هذه التجربة، لا يُنظر إلى القاعدية كحلّ إداري، بل كنمط حياة جديد، يتجاوز الانقسامات القومية والدينية والجندرية، ويقوم على مبادئ: الديمقراطية المباشرة، المساواة الجندرية، والعدالة البيئية. ويتم تعليم هذه المبادئ منذ الطفولة، ما يجعل من القاعدية مشروعا ثقافيا بقدر ما هو مشروع سياسي.
كتب الأنثروبولوجي والمناضل اليساري ديفيد غرايبر عن تجربته الميدانية في روجافا قائلا: "لم أر في حياتي مجتمعا يطبق الديمقراطية اليومية بهذا العمق. كل اجتماع هو درس في الحكم الذاتي، وكل قرار يُصاغ بالتوافق، وليس بالإكراه."
وقد حظيت هذه التجربة بالاهتمام من حركات اجتماعية في أمريكا اللاتينية وأوروبا، لما مثّلته من نموذج معاصر للخروج من الدولة القومية، دون السقوط في الفوضى أو الطائفية. ويعود ذلك إلى طبيعة البناء التدريجي للمجالس، وإلى الارتباط القوي بين القاعدة والقرارات السياسية.
ولعلّ أبرز ما تُقدّمه روجافا للتفكير اليساري المعاصر، هو أنّ البدائل ليست حلما طوباويا، بل مشروعا قابلا للتحقق حين تتوفّر الشجاعة، التنظيم، والقطع مع المركزية. في قلب الحرب، بُني مشروع قاعدي، لم ينتظر الاعتراف الدولي، ولا الشرعية من الأمم المتحدة، بل تأسس على أساس الواقع، وعلى مقاومة الناس.
بهذا المعنى، فإنّ القاعدية ليست مجرّد طموح نظري، بل تجربة قابلة للتكرار، تتطلب فقط بيئة تنظيمية وشجاعة فكرية لفكّ الارتباط مع منطق الدولة، وخلق منطق شعبي جديد.

خامسا: النسوية الثورية والقاعدية: من الشراكة إلى التحرير.

غالبا ما تُقصى النساء من دوائر القرار حتى في النماذج التي تدّعي الديمقراطية، لكن البناء القاعدي الحقيقي لا يمكن أن يزدهر دون تفكيك الهيمنة الذكورية ومنظومتها الاجتماعية. فالديمقراطية المباشرة لا تكتمل إن لم تشمل العدالة الجندرية في مضمونها، لا فقط في تركيبتها الشكلية.
إنّ المرأة العاملة، الفلاحة، ربة البيت، الناشطة، جميعهنّ يواجهن يوميا منظومة مزدوجة من الاستغلال: اقتصادية وجندرية. ولهذا فإنّ المجالس القاعدية يجب ألا تكون فقط فضاء محايدا، بل أداة فعّالة لنقل النساء من موقع الهامش إلى مركز القرار. القاعدية من دون نسوية ثورية هي قاعدية مشوّهة، تعيد إنتاج نفس النسق الذكوري السلطوي الذي قامت لتفكيكه.
في تجربة روجافا، تمّ إرساء قاعدة أساسية: لا يُعترف بأي مجلس دون تمثيل نسائي فعّال فيه، بل تمّ تكوين مجالس نسائية مستقلة تُشارك في التشريع، وتنظّم قضايا المرأة بمعزل عن السلطة الذكورية. وهذا ما أكّدته أيضا مفكّرات نسويات مثل سيلفيا فدريشي التي ربطت القاعدية بالتحكّم المجتمعي في الجسد والعمل المنزلي، مطالبة بإعادة الاعتبار لقيمة الرعاية المنزلية في الاقتصاد السياسي للثورة.
إنّ النسوية الثورية في سياق القاعدية ليست قضية "تمكين فردي"، بل تحرير جماعي من نسق كامل من القمع الاجتماعي والاقتصادي. وكما قالت أنجيلا دايفيس: "الثورة الحقيقية هي تلك التي تضع النساء في قلب التغيير، لا على هامشه."

سادسا: العدالة البيئية والقاعدية: من مقاومة التلوّث إلى التسيير المحلي للموارد .

ليس من الممكن فصل المسألة البيئية عن المسألة الديمقراطية. فالتلوّث، والنهب الممنهج للموارد، وتصحّر الأراضي، ليست فقط نتائج إدارية أو علمية، بل سياسية في جوهرها. المجتمعات المحلية غالبا ما تُقصى من اتخاذ القرارات المتعلّقة بالموارد الطبيعية في أراضيها، رغم أنّها الأكثر تضررًا من السياسات النيوليبرالية الاستخراجية.
من هنا، تتقاطع القاعدية مع النضال البيئي في نقطة مركزية: التسيير المحلي للموارد الطبيعية. حين تُقرّر المجالس القاعدية المحلية كيفية توزيع المياه، واستغلال الأراضي، ومراقبة الشركات، فإنّها تُعيد الاعتبار للبيئة كحقّ جماعي، لا كسلعة تُباع في الأسواق. إنها تقول بوضوح: لا تنمية من دون سيادة شعبية على الأرض.
يقول المفكّر البيئي إيفان إيليتش: "كلما زادت مركزية القرار، زادت اللامبالاة تجاه الضرر البيئي." ولهذا فإنّ الديمقراطية القاعدية البيئية تقوم على فكرة أن من يعيش في الأرض هو الأجدر بإدارتها.
من تجربة سكان جمنة في الجنوب التونسي إلى انتفاضات الفلاحين في الهند، ومن مقاومة حركات الأمازون في البرازيل إلى اللجان الشعبية في جنوب إفريقيا، يتضح أنّ استرجاع السيادة على الموارد الطبيعية يبدأ باسترجاع القرار السياسي على المستوى القاعدي.
البيئة ليست قضية نخب بيضاء أو منظمات خضراء رأسمالية، بل قضية شعوب تُعاني من الجوع والتلوث في آن واحد. والقاعدية بهذا المعنى أداة للمصالحة بين العدالة الاجتماعية والعدالة الإيكولوجية.

سابعا: نحو استراتيجية ثورية لاستعادة القاعدية من التحريف .

إذا كانت القاعدية قد تعرّضت في تونس إلى التحريف والتوظيف السلطوي، فإنّ المطلوب اليوم ليس فقط فضح هذا التحريف، بل العمل على إعادة بناء القاعدية كمشروع سياسي جذري. ولا يكون ذلك ممكنا إلا عبر استراتيجية مزدوجة: النقد من جهة، والبناء البديل من جهة أخرى.
يبدأ ذلك من القاعدة: من الأحياء، من المعامل، من المدارس، من الحقول. عبر تشكيل مجالس قاعدية مستقلة، غير مرتبطة بالدولة، تقوم بإدارة الشأن المحلي، وتأطير الحياة اليومية، وتربط نضالاتها ببعضها البعض على مستوى أوسع. والمطلوب اليوم ليس استنساخ التجارب، بل خلق آليات مبتكرة تنبع من واقع الشعوب.
في الوقت نفسه، لا بدّ من تكوين شبكات سياسية بديلة، تلتقي فيها النقابات القاعدية، وحركات الطلبة، والمجموعات النسوية، والمنظمات البيئية، لتشكيل تنسيق وطني أفقي قادر على مواجهة احتكار القرار. وحدة التنوع هي قوة القاعدية: كل فئة اجتماعية تمتلك معركتها، لكن المعارك تتقاطع في نقطة مركزية: نزع القرار من الدولة وإعادته للناس.
كما يتطلب المشروع القاعدي الجديد خطابا فكريا واضحا، ينقد الشكلانية البرلمانية، ويطرح بديلا ديمقراطيا حقيقيا. هذا ما نادت به روزا لوكسمبورغ حين كتبت: "الديمقراطية ليست هدفا بل أداة. المهم هو أن تعكس إرادة الناس، لا إرادة الطبقة الحاكمة."
القاعدية ليست مجرد تنظيم، بل وعي، وثقافة، وممارسة. ولا يمكن إعادة بنائها إلا بنضال طويل النفس، وصبر جماعي، ومراكمة تجارب، وتعلّم من الأخطاء، وتبادل للخبرات.

خاتمة: هل يمكن إنقاذ القاعدية من مصيرها السلطوي؟

ما حدث في تونس يُظهر بوضوح كيف يمكن لفكرة ثورية أن تتحول إلى أداة سلطوية حين تنتقل من يد الجماهير إلى يد الدولة. لقد وُلدت القاعدية من رحم المقاومة، من نضالات الفلاحين والعمال والنساء، لكنها اليوم تُستخدم كواجهة لسلطة مركزية تفرض نفسها باسم الشعب.
ومع ذلك، فإنّ الفكرة لم تمُت. ما زالت تعيش في الجيوب المقاومة، في المبادرات الذاتية، في النقاشات الشعبية، في العقول الحالمة بتغيير جذري. القاعدية ليست نصًا قانونيا، بل فعلا جماعيا مستمرا.
يقول كورنيليوس كاستورياديس: "الثورة ليست لحظة، بل سيرورة من التعلّم، والمواجهة، والتجريب." وهكذا هي القاعدية: لا تُكتب بمرسوم، بل تُبنى بالعرق، والدم، والحوار. لا تنبع من شاشات التلفزة أو خطابات الزعماء، بل من همس المجالس الشعبية، من أشغال الورشات، من لجان الحي، من مزارع التعاونيات، من صرخات المقموعين.
إنّ إنقاذ القاعدية يعني إنقاذ الديمقراطية ذاتها، من التمثيل الفارغ، من السلطوية المقنّعة، من دولة تُريد أن تحكم باسمنا دوننا. القاعدية ليست مشروع دولة جديدة، بل مشروع مجتمع جديد. مجتمع يولد من الحطام، من الفوضى، من الحلم، ويقول: لسنا عبيدا، نحن السلطة.



#رياض_الشرايطي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحداثة والظلامية: وجهان لعملة واحدة في مأزق التاريخ العربي.
- ما بعد الجمهورية: زمن الوحوش أم زمن الاحتمال؟
- الخديعة الأمريكية الكبرى: الإمبريالية وخراب فلسطين.
- اليسار التونسي: بين الأمس الإيديولوجي واليوم السياسي.
- الأخلاق في الميزان السياسي في القرن 21.
- الشعبية: من التحرير الرمزي إلى بناء السيادة الفعلية
- قراءة في رواية -1984- لجورج أورويل.
- الكتابة فعل نضال
- جنوب يخرج من ظلّ الأمم المتّحدة: مقترحات للفكاك من نظام الغل ...
- الحرف ساحة صراع طبقيّ: تفكيك الخطاب وتحرير اللغة من الهيمنة.
- بيان نواة مجموعة يسارية متمرّدة
- الرّأس
- الى الرفيق جورج ابراهيم عبدالله مباشرة
- اليسار المتحزّب واليسار المستقل: بين البيروقراطية والمقاومة. ...
- عالم متعدد الأقطاب الإمبريالية: خرافة التوازن وخطر التجزئة.
- صدى النازية في قلب الحداثة.
- قراءة سريعة في كتاب معذّبو الأرض لفرانز فانون
- ردّ على تفاعل نقدي من رفيق مع مقال- هل لا يزال لليسار معنى ف ...
- هل لا يزال لليسار معنى في ظل العولمة النيوليبرالية؟ .
- من اضغاث حقيقة متّهمة بالحلم. من المجتمع المدني إلى الجبهة ا ...


المزيد.....




- ماذا نعرف عن دونباس الأوكرانية التي يشترط بوتين السيطرة عليه ...
- بعد توقيفه لمخالفته شروط الإقامة.. مالك -ترامب برغر- في تكسا ...
- لاعب يُفاجئ بطل العالم بالشطرنج ويُحقّق فوزًا مثيرًا في مواج ...
- مظاهرات حاشدة في تل أبيب تطالب بإطلاق الرهائن ووقف الحرب في ...
- لا غذاء ولا دواء ولا ماء.. إسرائيل تمنع كل مقومات الحياة على ...
- عن الألم والحرب والصمود.. حكايات عربية في الدورة الـ78 لمهرج ...
- طرود المساعدات تقتل وتحطم ما تبقى من حياة الغزيين
- فيديو منسوب لإدلاء نتنياهو بتصريحات حول السيسي وغزة.. ما حقي ...
- تحذيرات قصوى في اليابان جراء فيضانات وانهيارات أرضية تضرب كي ...
- بعد خطوات مماثلة اتخذتها سيول.. كوريا الشمالية تفكك بعض مكبر ...


المزيد.....

- المدخل الى موضوعة الحوكمة والحكم الرشيد / علي عبد الواحد محمد
- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - رياض الشرايطي - البناء القاعدي: من فكرة التحرر إلى أداة الهيمنة؟