|
هتلر:سيرة إنهيار
حازم كويي
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 16:11
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"كيف أصبح كتاب هتلر الأكثر مبيعاً تحت حكم النازيين؟ بالإكراه!"
إنغار سولتي* ترجمة: حازم كويي
قبل مئة عام نُشر كتاب هتلر "كفاحي".يظهر فيه نوع خاص من الشخصية السلطوية. في مشروع بحثي سابق، كبير، الذي لم يُستكمل أبداً بشكل نهائي،قمتُ بدراسة قادة القومية اليمينية السلطوية في الولايات المتحدة. الأساس المادي للدراسة تمثّل في كتاباتهم الذاتية – أي سيرهم الذاتية.وكان الهدف فَهم تنشئتهم السياسية وتطوير تصنيف نمطي. يمكن تقسيم ذلك إلى نوعين رئيسيين: النوع الأول هو الانتهازي التقليدي ،والنوع الثاني هو السلطوي الحقيقي . يختلف الانتهازيون التقليديون عن السلطويين الحقيقين من حيث أن مظاهر السلطوية الأساسية تكاد تكون غائبة تماماً لديهم.سيرهم الذاتية تسير ضمن نمط تقليدي من دون انقطاعات درامية.غالباً ما ينحدر ممثلوهم من الطبقات الوسطى العليا،ويمتلكون مقداراً وافراً من الرأسمال الاقتصادي والاجتماعي والثقافي،أي الثروة، الشبكات، والتعليم الرسمي. أما السلطويون الحقيقيون، فهم كتّاب أيديولوجيون دافعهم فكري،ويُعتبرون الحاملين الفعليين للحركات الفاشية المبكرة،أو الأولية، أو الجديدة.ويمكن التمييز بين ثلاثة أنماط فرعية ضمن هذا النوع: السلطويون الصاعدون اجتماعياً،السلطويون من ذوي الوجود الفاشل،السلطويون الثوريون المُحبطون .ويضاف إليهم فئة أبناء الرفاق. السلطوي ذو الوجود الفاشل – أي السلطوي الذي انحدر اجتماعياً –يعد من الشخصيات الشائعة جداً في أوساط اليمين المتطرف. غالباً ما ينحدر من خلفية صغيرة- برجوازية، وعلى الأكثر من بيئات ريفية أو إقليمية. ما يميّزه هو تحوّل سلطوي حاد،يحدث غالباً في سياق أزمة مهنية عميقة في سيرته الذاتية – مثل:ترك الدراسة، الفشل في الامتحانات، فقدان الوظيفة –أو في سياق أزمة شخصية أو عائلية. وغالباً ما يتخذ هذا التحول شكل خضوع مفاجئ لنظام إيماني جديد.وقد يكون هذا النظام دينياً: مثل التحوّل إلى نسخة متزمتة ومتشددة من المسيحية أو اليهودية أو الإسلام أو الهندوسية أو غيرها. لكنه قد يظهر أيضاً في شكل إيمان دنيوي بنظرية مؤامرة ذات طابع ديني من حيث الجوهر. تم إيقاف هذه الدراسة تقريباً عام 2011،لكن من المرجّح أن مواصلة العمل بها بشكل منهجي كان سيسمح بتصنيف القادة اليمينيين السلطويين الجدد أيضاً ـ ليس فقط في الولايات المتحدة،بل في "الغرب" عموماً فمثل هذه الأنماط ليست جديدة. طبّال عصره يمكن توضيح ذلك من خلال المثال الأشد شهرة (وربما سوء سمعة)لسيرة ذاتية كتبها قائد سلطوي يميني: "كفاحي" لأدولف هتلر. هذا الكتاب، الذي كتبه أثناء سجنه في قلعة لاندسبيرغ عامي 1923/24،يجب أن يكون ضمن القراءات الإلزامية في المدارس –لأن الأفعال صارت معروفة بعد الكلمات. ولأنه يبرز تفاهة الشر،فـهتلر كان – كما في صورة رسمها قال تيودور. أدورنو، إن هتلر لم يكن سوى طبّال عصره، واحداً من عشرات الآلاف. ويجب قراءة كتاب كفاحي أيضاً لأنه – رغم كل الاختلافات –يكشف أوجه الشبه مع ديماغوجية اليمين المتطرف اليوم. من حيث التصنيف النمطي، فإن هتلر ينتمي إلى فئة السلطويين من ذوي الوجود الفاشل. وُلد عام 1889 في براوناو آم إن (Braunau am Inn). كان والده سلطوياً، موظف دولة صعد اجتماعياً في الإمبراطورية النمساوية-المجرية، وقد وُصف بأنه «شخص أصبح عجوزاً‘ في طفولته المبكرة بفعل الشدائد والحرمان». هذا الأب كان بالنسبة لهتلر النموذج السلبي.وكان من المفترض أن يصبح هتلر موظفاً حكومياً مثل والده،لكنه – كما كتب – شعر بـ«نُفور داخلي عميق» تجاه هذه المهنة. كان هتلر المراهق رومانسياً بطبعه، يطمح إلى الحسية، العاطفة، النشوة، و"الانفعال الأسمى". كان يحب أن يُسحر بـ"البلاغة اللامعة" لأحد أساتذته،لا أن يُشدَّ فحسب، بل أن يُجرف تماماً،وكان "يندفع بحماسة شديدة، تصل أحياناً إلى الدموع". عندما سمع لأول مرة الأوبرا العاطفية الجارفة لريشارد فاغنر، شعر بأنه "أُسِر فجأة بالكامل". السعي وراء الحياة الحقيقية، والإفراط، وتجارب الحدود لم يكن أمراً غير معتاد. بهذا المعنى، كان الشاب هتلر يبحث عن المعنى الأعلى، عن العظمة. كان يسكر بـ"الاحتفالات الكنسية الباهرة للغاية"،وأراد أن يصبح رئيس دير. في داخله، اختلطت اللذة بالخضوع للمصير، والعناية الإلهية، والقوى العليا،بما يشبه مفهوم شبنغلر لـ"حب المصير" (amor fati)،مع تمجيد الإرادة الحرة، والاستقلال في اتخاذ القرار، وروح الفعل. الهوس العاطفي كان العنصر الثابت في شخصية هتلر.لكن الموضوعات التي كان يتعلق بها لهذا الهوس كانت تتبدل:بعد الإيمان الكاثوليكي جاء الانجذاب إلى العسكرية،ثم إلى الفن. قال لاحقاً: "في أحد الأيام، أدركت أنني سأصبح رسّاماً، فناناً تشكيلياً، أدرك والده الكارثة المقبلة: هذا الفتى يندفع نحو مصيره البائس!ونشب الصراع بينهما. هتلر رفض أداءه المدرسي،وأصبح "غير مبالٍ داخلياً"،وهو ما زاد من مخاوف والده السلطوي،فدخلا في دوامة من: ضغط – تمرد عبر الرفض – ضغط أكبر – واتهامات. ولم يُحَلّ هذا الصراع إلا بوفاة الأب المبكرة. ومن البطولات في الأساطير القديمة والقرون الوسطى تحوّل هتلر إلى نزعة حربية حديثة. أصبحت «الطبعة الشعبية لحرب 1870/71 بين ألمانيا وفرنسا»هي "قراءته المفضلة"، وكان "كفاح الأبطال (...) أعظم تجربة داخلية" بالنسبة له. قال:"منذ ذلك الحين، بدأت أعشق أكثر فأكثر كل ما له علاقة بالحرب أو بالجندية بشكل من الأشكال." الحنين اليافع إلى الذوبان النشواني في الذات،وإلى التماهي مع ما هو أسمى،بدأ يتّجه الآن نحو.. أصبح الوطن (الأمة) هو الموضوع الذي يلتصق به هذا التماهي. كان هتلر فخوراً بكونه ألمانياً.لكن، ولسوء حظه، فإن النمسا – التي تم دفعها تدريجياً إلى الهامش من قبل بروسيا –لم تكن تصلح لأن تكون منبراً للخطابة القومية المتعجرفة. بدأ هتلر يحلم بألمانيا الكبرى وأكبر.كان يدعو إلى ضم "ألمانيا النمساوية" قال: "إن الشعب الألماني لا يمتلك أي حق أخلاقي في ممارسة سياسة استعمارية،طالما أنه لا يستطيع حتى جمع أبنائه في دولة واحدة."في نهاية المطاف، كان هتلر مؤمناً إيماناً عميقاً، لكن "الشعور الوطني بالكرامة" و"تعصبنا الوطني الصغير"أصبحا بديلاً عن الإيمان المسيحي..في تلك الفترة وقع في صدمة نفسية كبيرة. كان هتلر في الثالثة عشرة من عمره عندما توفي والده.اعتقد أنه أصبح بإمكانه أخيراً أن يصبح فناناً تشكيلياً.لكن بعد عامين، توفيت والدته أيضاً.أصبح يتيماً بالكامل، واقفاً على حافة الهاوية.واجه هذا الألم، على ما يبدو، بقسوة تجاه نفسه.فالظروف فرضت عليه "إرادة لا تتزعزع في القلب".أما الحزن، فكان يعني بالنسبة له الاستسلام.وربما كان لديه ميل نحو جنون العظمة، استخدمه كقوة دافعة. لا يزال هتلر يقيّم الأمور بواقعية إلى حد ما في تلك المرحلة:فهو يدرك أن معرفته المدرسية غير كافية للتقدم إلى مدرسة العمارة،ولذلك لا يتقدّم إليها، رغم كونه "أفضل رسام في صفه". وفي الوقت نفسه، كان على قناعة بأنه سيصنع اسمه في يوم ما كـ"معماري عظيم". لكنه الآن يتقدّم بطلب إلى أكاديمية الفنون،وهو مقتنع تماماً بأنه سيجتاز الامتحان بسهولة. لكن رفضه من قِبل الأكاديمية دفعه إلى السقوط في الهاوية. تصلب هشّ كان هتلر يرى نفسه كـ "عبقري مظلوم".يتيم بالكامل، وفشل مهنياً، واضطر لقبول أي عمل،وصل إلى فيينا.هناك، شاهد الناجحين الذين كان يعتقد، بسبب موهبته، أنه منهم، يعيشون حياة الرفاهية التي لم يكن يستطيع تحملها. الابن الموظف من الريف، الذي كان يرى نفسه مقدراً لأمور أعظم،سقط في طبقة العمال غير المؤهلين، المتبادلين، في المدينة الكبيرة المجهولة. قال: "تعلمت بسرعة أن هناك دائماً عملاً ما،ولكن سرعان ما تعلمت أيضاً كم هو سهل فقدانه." أدى هذا الاغتراب والعجز عن الفعل إلى اكتئاب. وصف فيينا بأنها "للأسف كانت فقط ذكرى حية لأحزن فترة في حياتي". وأضاف: "خمس سنوات من البؤس والتشرد (...) خمس سنوات كان عليّ خلالها أن أكسب رزقي أولاً كعامل مساعد، ثم كرسام صغير،رزقي الضئيل حقاً، الذي لم يكن يكفي حتى لإشباع الجوع العادي." كان هتلر أمام خيارين: إما الصعود والتضحية بالحياة،أو أن يظهر قسوة صارمة تجاه نفسه ويستمر في العمل. كتب: "المقاومات ليست موجودة لكي نستسلم لها، بل لكي نكسرها."لكن ضبط النفس والمثابرة لم تخلُ من النتائج.تصلب الفنان المحبط عاطفياً،ودافع التنافس الشديد،والكوع المرفوع في مواجهة العالم،غالباً ما أدى إلى العزلة (الذاتية)،ونقص التضامن،وتبني معتقدات الداروينية الاجتماعية. وفي الوقت نفسه، يؤدي التصلب إلى انعدام التعاطف:لماذا يجب أن يحظى الآخرون بحياة أفضل؟ مثال على ذلك، بيورن هوكه Björn Höcke):سياسي ألماني فاشي من حزب البديل لإجل إلمانيا:المترجم) الذي يبرر إستيائه من اللاجئين السوريين بآلام أجداده من شرق بروسيا، الذين لم يتلقوا أي مساعدة حين فروا عام 1945. من القسوة على الذات، تنبع القسوة على الآخرين،وفقاً لشعار: "إذا تمكنت من ذلك، يمكن لكل شخص، ويجب عليه أن يتمكن." هتلر مثّلَ القسوة المثالية، بل جعلها قريبة من الجانب الجنسي: "ما كان يبدو لي آنذاك كقسوة المصير،أثمنهُ اليوم كحكمة العناية الإلهية. حين أحتضنتني إلهة الحاجة وهددتني كثيراً بالانكسار،نَمَت في داخلي إرادةالمقاومة، وأخيراً أنتصرت الإرادة.وأشكر تلك الفترة من حياتي على أنني أصبحت قاسياً وأستطيع أن أكون كذلك."في العملية التي تخرج "الولد المدلل من ريش الأوز الناعم" ومن فراغ الحياة المريحة،يَصبح هتلر هتلراً. في هذاالعالم المفروض من البؤس والفقر،عرف خطرين لم يكن يعرفهما إلا بالاسم سابقاً،ولم يكن يفهم أبداً أهميتهما الرهيبة لوجود الشعب الألماني:الماركسية واليهودية. كيف يعقل أن يخرج هتلر من هذه التجربة إلى معاداة الماركسية؟ ومن أين جاءت فجأة معاداة السامية؟ الأمر كله لا يزال غامضاً أكثر.من اللافت أن تصلب هتلر هشّ.على عكس معظم اليمينيين المتطرفين الحاليين - من ثيلو سارازي(ألماني يميني متطرف) إلى أليس فايدل (رئيسة الكتلة البرلمانية لحزب البديل من أجل ألمانيا الفاشي)ـ لم يعبر فقط عن تحاملات طبقة أصله الصغيرة البرجوازية واحتقارها للطبقات الدنيا. أثناء القراءة، يُترك انطباعاً أحياناً، بأن هتلر كان مفقوداً كأخصائي اجتماعي تربوي. في حياة أخرى، كان ربما هذا الفنان المُحبط سيصبح طبيباً نفسياً! التعاطف الآلي يطور هتلر نقداً للرأسمالية. أحياناً يبدو ككاتب معاصر في أدب السيرة الذاتية التخيليّة ذات الأصل البروليتاري، أو كمدافع عن حصص العمال في السياسة الطبقية، التي تستبدل سياسة الوصاية وخطاب الضحية بالتنظيم الذاتي والتمكين الذاتي: " دراسة لمسألة العمال"، يكتب، "لا يمكن أن تتم من الأعلى إلى الأسفل. من لا يجد نفسه داخل فكّي هذه الأفعى الخانقة، لن يعرف أبداً أنياب سمها."وإلا، سيخرج فقط "ثرثرة سطحية أو عاطفة مزيفة." عندما ينتقد هتلر موقف الإصلاحيين الاجتماعيين الليبراليين الذين يتوقعون امتنان الشعب على صدقاتهم،يبدو هذا السياسي الإجرامي الأشهر في التاريخ فجأة وكأنه نقابي اشتراكي ديمقراطي يدافع عن تمثيل المصالح بدلاً من سياسة الرعاية الاجتماعية: "أن النشاط الاجتماعي (...) لا يحق له أن يطالب بالامتنان، لأنه لا يوزع نعماً، بل يؤسس حقوقاً، هؤلاء وهذه العقول لاتفهمه بسهولة." يراقب هتلر الطبقات الاجتماعية بحساسية مقلقة.تتسلل فكرة أن الصعود الاجتماعي غالباً ما يتبعه قسوة وسحق للطبقات الدنيا.حتى تجاه "الاشقياء أو الأوغاد عديمي الجدوى" الذين لا يلبون مطالب أيديولوجية الإنجاز البرجوازية، يصبح متعاطفاً فجأة. في حين يقتل اليمينيون المتطرفون المعاصرون المُشردين، يشعر هتلر بالشفقة تجاههم. بينما يرد اليمينيون المتطرفون المعاصرون على السلوك غير البرجوازي، "المُتسول" بما يشبه إدانة "ثقافة الفقر" أو "نتائج 68"، مما يرفض المطالب الاجتماعية والسياسية،يبدو هتلر أحياناً كهيكلي تاريخي يعزو الفساد إلى الظروف المادية. يُلمح هتلر أيضاً إلى أن سياسة الصفر تسامح تجاه الجريمة الصغيرة تخلق مجرمين خطيرين.يصف كيف يؤدي الفقر المدقع لعائلة عاملة في النهاية إلى صراع مع القانون: "لسبب خاص ما" يُدان فتى في الخامسة عشرة من عمره ويُرسل إلى سجن الأحداث. هناك يتلقى "اللمسة النهائية." كيف يتوافق هذا كله: الفاشية كانت تسجن وتغتال "المتواكلين على العمل"، وتعقم وتقتل "المتخلفين عقلياً"، وتعذب وتقتل العمال المدافعين عن حقوقهم،ومع ذلك، رأى "القائد الأعظم"، "أعظم قائد في كل الأزمان"، في عام 1925، حتى في السكر الأخير ضحية للنظام؟ الاستمرار في المنطق السلطوي التعاطفي عند هتلر. يستمر هتلر قائلاً: "المجتمع البرجوازي المحب، لكنه مندهش جداً من قلة الـ حماس الوطني لدى هذا الشاب المواطن." هنا يبدأ وضوح المنطق السلطوي والأداتي لـ"تعاطف" هتلر: يريد شعباً متحمساً قومياً لأنه يحتاجهم من أجل ألمانيا الكبرى الاستعمارية الإمبريالية المتوسعة. ويعرف أن العامل، وخاصة المُشرد، لا يعرف وطناً. من هذه النقطة يصل إلى الفاشية كـ"شكل من أشكال الحكم البرجوازي". في النهاية، يعارض "العاطفة المظلومة البائسة" ويتحدث عن "طريق مزدوج (…): إحساس اجتماعي عميق بالمسؤولية لبناء أسس أفضل لتطورنا، مقترناً بالعزم الوحشي على سحق المتمردين غير القابلين للإصلاح." هذا هو هتلر الذي نعرفه، يستخدم العنف والسلطة المطلقة أيضاً في مجال الجريمة: "عدم اليقين في الحكم على الدوافع الداخلية أو أسباب" "الجريمة المعادية للدولة" يشل "كل قرار جدي وحاسم (…). فقط عندما لا يعود الزمان مسكوناً بظلال الضمير الذاتي، يحصل على السلام الداخلي والقوة الخارجية لقطع البراعم البرية بلا رحمة، وجذب الأعشاب الضارة." في رأيه، "الحل" للمسألة الاجتماعية هو شرط ضروري للفخر الوطني، الذي يراه شكلاً من أشكال الثقافة العليا.كما يدرس الحركة العمالية فقط من أجل تدميرها: "من يدري متى كنت سأغوص في تعاليم وطبيعة الماركسية لو لم تدفعني الظروف حينها مباشرة إلى هذه المشكلة." نتذكر: هتلر هو وجود محطم. ويرى فيينا الإمبراطورية وجمالها، "مأسوراً بوفرة الانطباعات في المجال المعماري." كان مقدراً له أن يصمم هذه المباني، لكنه بدلاً من ذلك يقوم بالأعمال القذرة في أدنى سلّم العمل.يشعر بأنه "مُكبل بثقل مصيره"، يصبح مكتئباً ويرى نفسه كعبقري غير مفهوم. هذه هي الحاضنة التي تُطبخ فيها الأحقاد. لهذا السبب فإن اليمين المُتطرف الشعبوي هو حركة "النخب المحبوسة" (فرانز والتر)، برجوازي بالكامل.
صدمة ثقافية في المدينة الشخص الاجتماعي المُنحَدر هتلر، الذي يطالب بالصعود الاجتماعي، يشعر بتفوق على محيطه من العمال المساعدين.والعمال يلاحظون ذلك، ويجعله ذلك منبوذاً. يعيش وحيداً. يجلس منفصلاً عن زملائه الذين ينخرطون في السياسة الاشتراكية في موقع البناء ويشرب "قنينة حليب ويأكل قطعة خبز." يقول عن نفسه: "أعتقد أن من حولي في ذلك الوقت كانوا يعتبرونني غريب الأطوار." هتلر يرى بيئته، التي استبعدها لأنه استبعد نفسه منها، كعداء. هنا يُفتح المسرح لـ"المتمرد بلا سبب"!وبسبب حياته التي يراها محكومة بالاحتياجات الاقتصادية، والرقابة الدائمة من المشرفين، يصر على الاستقلالية. زملاؤه يطالبونه بالانضمام إلى النقابة، لكنه يرفض لأن "معرفته كانت صفراً في ذلك الوقت"، ويقول: "حين أخبروني بضرورة الانضمام، رفضت. بررت ذلك بعدم فهمي للأمر، وعدم سماحي لأحد أن يجبرني على شئ." إنه "سلطوية ليبرالية" (أوليفر ناختوي/كارولين أملينغر): "لا أسمح لأحد بأن يُملي عليَ ما أفعل." الانتقال من الريف إلى المدينة كان أيضاً صادماً لهتلر.العاصمة كانت صدمة ثقافية لـ"البني" من براوناو.يرفض "الجيل الشاب"، ويصف بازدراء "انحطاط البوهيميين الحضريين." يبرر ذلك لاحقاً بأن "الحقارة الشائعة للحياة" سيطرت على "الدم السليم الموجود." الثقافة الحديثة تقرفه. بينما تحيا الحياة حوله وينطلق الشباب - الذين هربوا من الرقابة الدائمة للأب والكاهن واللوردات - إلى المتع، ينظر هتلر على الأرجح بحسد وإحتقار مملوءين بالكراهية إلى العالم الذي يراقبه من نافذة مغلقة. إذا كان مثلياً، فهو يرفض ممارسة ميوله الجنسانية التي كانت تُجرم في ذلك الوقت. يراقب الشعب المبادر والرفاهية التي يعيشها الأغنياء وديوان فيينا و"الصحافة" التي كانت تهتم به، ويندب حظه ويخطط للانتقام. في الجوهر، يختبر هتلر المدينة الكبرى بطريقة لا تختلف كثيراً عن تجربة سيد قطب، المفكر الرئيسي للإسلام السياسي، الذي جاء كشاب من مصر إلى الولايات المتحدة خلال الثورة الثقافية الناشئة هناك، ولم يجد مكاناً له فيها. وكذلك الأمر مع ر. ج. رشدووني، المفكر الرئيسي للأصولية المسيحية، الذي أيضاً إشمأز من الثقافة الحديثة في وطن والديه الأرمن المهاجرين ـ الولايات المتحدة. وبما أن القدرة على التكيف كانت تفوقه، كرس حياته للثورة المضادة الثقافية. هنا تظهر القربى بين الفاشية والأصولية الدينية كشكلين من أشكال السلطوية. أما الفاشية اليوم فتظهر كصراع بين هذين النوعين من الفاشيات، حيث تقاتل الحركةاليمينية السلطوية والعنصرية المعاصرة، المتحالفة مع التيارات اليمينية الصهيونية المتطرفة، ضد حركة حماس الإسلامية.هذا يبدو متناقضاً، لكنه في الحقيقة مجرد صراع بين إخوة أعداء. كراهيته للماركسية. النرجسية تولد من شعور بالنقص. الفرد الذي يشعر بأنه أدنى من الآخرين، غير محبوب، بلا قيمة، يعوّض هذا الشعور بالإحساس بالتفوق الفكري والثقافي والأخلاقي على البيئة المحيطة به. أيديولوجية العبقرية المظلومة ووجود "الآخرين المذنبين" – مثل الماركسيين، اليهود أو اليوم الـ«ووكينغ» (الواعيين اجتماعياً) – تخفف الألم النفسي لعدم كونه في القمة حيث يظن نفسه. هذا الدافع، وهذا الجرح النرجسي، يظهر في العديد من السيرة الذاتية لفئة الشخصيات المتعثرة اجتماعياً اليوم كما في "كفاحي" لهتلر. الروح المعذبة للوجود الفاشل تجد خلاصها في الانتماء إلى جماعة كبيرة تجلب لها القوة. "بإعجاب فخور"، يقارن هتلر "صعود الإمبراطورية الألمانية مع تدهور الدولة النمساوية"، ويرى في "الإمبراطور الألماني (...) صانع الأسطول الألماني" الذي يتحدى الإمبراطورية البريطانية عسكرياً. الكراهية الشديدة تجاه الماركسيين ضرورية لأنهم يهددون "الفضاء الآمن" لهتلر، أي النرجسية الجمعية القومية. يزعجه في الاشتراكية الديمقراطية قبل الحرب العالمية الأولى، خصوصاً النزعة الدولية: "في عمر سبعة عشر عاماً لم أكن أعرف كلمة ‘ماركسية‘، بينما كانتا الاشتراكية والديمقراطية الاشتراكية تبدوان لي كمصطلحين متطابقين". زملاؤه العمال يعارضون قوميته بشدة: "كان هناك رفض لكل شئ: الأمة باعتبارها اختراع الطبقة ‘الرأسمالية‘ – كم مرة سمعت هذه الكلمة! –،الوطن كأداة لاستغلال العمال من قبل البرجوازية؛ سلطة القانون كوسيلة لقمع البروليتاريا، المدرسة كمؤسسة لتربية العبيد وحتى الأسياد، الدين كوسيلة لتخدير الشعب المستهدف للاستغلال، الأخلاق كرمز لصبر الأغبياء". رفضْ العمال الماركسيين لعظمة هتلر القومية، وشعوره بالنقص الفكري أمامهم، أدت إلى بدايات خيالات القمع والدمار الشامل: "كنت أتساءل في داخلي: هل هؤلاء لا يزالون بشراً يستحقون الانتماء إلى أمة عظيمة؟ سؤال مؤلم، فإذا كان الجواب نعم، يصبح الكفاح من أجل الأمة لا يستحق التعب والتضحيات (...) وبقلق شديد كنت أرى في تلك الأيام أعداداً متزايدة من الذين لا ينتمون إلى أمتهم يتجمعون ليشكلوا جيشاً مهدداً". من هتلر إلى هوكه – من الفاشية التاريخية إلى الفاشية المعاصرة كان هتلر يُحضّر ذهنياً لترحيل قسري وقتل ممنهج للشيوعيين والاشتراكيين الديمقراطيين وغيرهم، وهذه الأفكار نجدها اليوم أيضاً عند شخصيات مثل بيورن هوكه. فهو أي هوكه، مع ترامب وحزب البديل من أجل ألمانيا (AfD)، يحلمون بـ«الهجرة الكبرى» أو استعادة البلاد من «الشعوب الأجنبية»، التي ستتم بقسوة محسوبة، وقد تؤدي إلى خسائر سكانية تصل إلى 20-30٪ بين الألمان الذين لا يرغبون في مقاومة «الإفريقيّة، أو الشرقية، والإسلامية». هتلر، المدفوع بالكراهية تجاه «رفاقه الفاسدين»، يهرب إلى حب مجرد لأمته، ويؤسس نظرية مؤامرة ضخمة يلقبها بالمؤامرة اليهودية البلشفية، مدعوماً بـ«صحافة كاذبة» يهودية ليبرالية. بالنسبة لهتلر، يسمح له هذا بتبرير العنف ضد «الأعداء» باعتباره تطهيراً عادلاً. يرى هتلر الماركسية واليهود كأعداء موتى، وينظر إلى الماركسية كطاعون يجب تطهير الأرض منه قبل أن يتم تطهير الأرض من البشرية. رغم شعوره بالنقص الفكري أمام زملائه، يبني هتلر معرفته بدافع الكراهية والعناد، ومن ثم توقع الاضطهاد السياسي واللاإنسانية في مواجهته لأعدائه، ويرى أن الديمقراطية الليبرالية والطبقة البرجوازية ضعيفتان في مواجهة هذا العدو. هوكه يتحدث بنفس النبرة حين يصف المجتمع بأنه في «مرحلة الانحطاط الأخيرة». يعتبر هتلر والعقيدة الفاشية التي يمثلها أن العنف هو وسيلة دفاع ضرورية ضد أعدائهم السياسيين. هتلر يرى أن رد العنف على «الإرهاب» العمالي يجب أن يكون بنفس القوة، كـ«غاز سام ضد غاز سام»، وأن المعركة هي مسألة حياة أو موت، لا مجال فيها للتراجع. بيورن هوكه يعبر عن نفس الفكرة، إذ يرى أن «الحياة التي تقترب من التحلل» يجب إعادة تنظيمها بأقصى درجات العنف، وأنه عندما تأتي «فترة التحول» فلن يتم التهاون أو القيام بأمور «بنصف جهد».
إنغار سولتي*:كاتب ألماني مسؤول سياسة السلام والأمن في معهد التحليل الأجتماعي لمؤسسة روزا لوكسمبورغ.
#حازم_كويي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الجامعات الصينية في صدارة العالم
-
حزب في مرحلة تحول
-
-تراجع العولمة الحالي لا يخدم قضايانا-
-
إيلون ماسك:هل هو عبقري طموح أم رجل يفتقر للروح؟
-
التصنيع بدلاً من التسلّح
-
-تعدد الأقطاب؟ احتمال قائم في المستقبل-
-
-رئيسة المكسيك تُظهر كيف يمكن التصدي لترامب-
-
الهجوم الأمريكي على إيران: أصبح الآن اندلاع حرب نووية أكثر ا
...
-
عصر التراجع
-
-في الرأسمالية لا يوجد تنافس حرـ النيوليبرالية ليست نظام أسو
...
-
الشرق الأوسط يشهد تصعيدًا دراماتيكيًا في الأوضاع.
-
هل نعيش في زمن الفاشية المتأخرة؟
-
الرأسمالية تتغير – لكنها لا تتحول إلى -إقطاعية جديدة-
-
العولمة انتهت، لكن النيوليبرالية ما زالت حيّة
-
عن سبل الخروج من أزمة المناخ
-
الحزب الشيوعي النمساوي.. حزب لا مثيل له؟
-
كيف يُعرض ترامب الدولار للخطر؟
-
أميركا أولاً،مهما كان الثمن،إلى أين؟
-
إلى أين يتجه اليسار الجديد؟
-
ترامب وأزمة المناخ
المزيد.....
-
أرسلوا له دراجة بطائرة مسيرة.. ابتكار جنوني ينقذ جنديًا أوكر
...
-
بين القصف والاحتجاج: الانقسام يتعمّق في إسرائيل حول حرب غزة
...
-
البرتغال تستنفر آلاف رجال الإطفاء لمواجهة حرائق الغابات
-
بنين تحتفي بمهرجان الأقنعة السنوي تخليدًا لذكرى الأجداد
-
-بدي شي من ريحته-.. طفل غزاوي يبكي أبًا قُتل قرب موقع توزيع
...
-
الجوع يجبر السودانيين في مدينة الفاشر على أكل علف الحيوانات
...
-
أوكرانيا تعول على المسيرات الاعتراضية كدرع جوي.. ما ميزاتها؟
...
-
نتانياهو سيجتمع بمجلس الوزراء الأمني لتحديد الأهداف التالية
...
-
سلاح حزب الله على طاولة الحكومة اللبنانية.. سيناريوهات الجلس
...
-
من الاستعمار والصراعات القبلية إلى غزّة.. تاريخ التجويع كسلا
...
المزيد.....
-
شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية
/ علي الخطيب
-
من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل
...
/ حامد فضل الله
-
حيث ال تطير العقبان
/ عبدالاله السباهي
-
حكايات
/ ترجمه عبدالاله السباهي
-
أوالد المهرجان
/ عبدالاله السباهي
-
اللطالطة
/ عبدالاله السباهي
-
ليلة في عش النسر
/ عبدالاله السباهي
-
كشف الاسرار عن سحر الاحجار
/ عبدالاله السباهي
-
زمن العزلة
/ عبدالاله السباهي
-
ذكريات تلاحقني
/ عبدالاله السباهي
المزيد.....
|