عماد حسب الرسول الطيب
(Imad H. El Tayeb)
الحوار المتمدن-العدد: 8424 - 2025 / 8 / 4 - 10:42
المحور:
الحركة العمالية والنقابية
يمثل تاج السر عثمان أحد أبرز الكتّاب اليساريين حضورًا في المشهد السوداني المعاصر، بوصفه صوتًا دائمًا في صحيفة الحزب الشيوعي السوداني، ومساهمًا ثابتًا في موقع الحوار المتمدن، ومنتجًا لخطابٍ يُعاد نشره على نطاق واسع داخل الأوساط المرتبطة بالثورة السودانية. هذا الانتشار، يمنح خطابه وزنًا معنويًا وأيديولوجيًا يتعدى محتواه النظري، مما يجعله موردًا أساسيًا في تشكيل بعض أنوية الوعي السياسي داخل الحركات النقابية والمهنية والقاعدية. إن تفكيك هذا الخطاب لا ينبع من رغبة سجالية، بل من الحاجة الضرورية لفصل الماركسي عن الإصلاحي، والجذري عن التجميلي، والثوري عن القانوني، في زمن تُدجّن فيه الثورة من داخلها.
يمثل الخطاب النقابي الإصلاحي أداة طبقية مُعدة سلفًا لتحويل التناقض بين العمل ورأس المال إلى مجرد نزاع إداري يُحل في أروقة المحاكم والمؤسسات الدولية. هذا الخطاب، الذي يتخذ من "الاتفاقيات الدولية" و"الشرعية القانونية" وثنًا مقدسًا، ليس سوى امتداد لتجربة البيروقراطيات النقابية الأوروبية التي حولت النقابات من أدوات صراع إلى شركات خدماتية تُدار كفروع للدولة الرأسمالية. وفي السودان، حيث تُذبح الثورة يوميًا تحت شعارات "الانتقال الديمقراطي"، يصبح هذا الخطاب إعادة إنتاجٍ مبطّنة لهزيمة الحركة العمالية.
حين ندرس خطاب تاج السر عثمان، فإننا لا نطالع مجرد مقالات رأي أو اجتهادات فردية، بل نواجه تيارًا فكريًا متكاملًا يُعيد إنتاج الخط الإصلاحي داخل الحركة العمالية والثورة السودانية، مستخدمًا أدوات الماركسية نفسها لتفريغها من مضمونها الثوري، ما يجعل نقد هذا الخطاب ضرورة نضالية لا يمكن تأجيلها. فتاج السر عثمان هنا ليس مجرد كاتب، بل هو صوتٌ لتيارٍ يُعيد إنتاج الوهم نفسه الذي سقطت فيه نقابات "الاشتراكية الديمقراطية" الألمانية عندما آثرت الإصلاح على الثورة، فتحولت إلى حراسٍ لمصالح البرجوازية.
ما يغيب بالكامل في خطاب تاج السر هو الإقرار بأن النقابة –كما الدولة– ليست حقلًا خاضعًا لإعادة التوظيف أو التكييف الإصلاحي، بل هي، في شروط الرأسمالية التابعة، أداة يجب أن تُنتزع من بين فكي السلطة أو تُعاد بناؤها كليًا من خارج مؤسسات الهيمنة. تجارب لجان الإضراب في موانئ بورتسودان، والتنظيمات الفئوية المستقلة التي نشأت بعد 2018، تُبرهن أن الشرعية الطبقية تُنتزع بالصراع، لا بالاعتراف. لهذا، فإن كل خطاب يُعيد النقابة إلى الدولة، هو في جوهره خطاب مضاد للثورة، حتى وإن تغلّف بمفرداتها.
خطاب تاج السر ليس حالة فردية معزولة، بل ينتمي إلى نمط كامل من الخطابات اليسارية التي تُعيد توطين العمل النقابي داخل أطر بيروقراطية وقانونية، في تناقضٍ جذري مع جوهر الماركسية. هذه الخطابات، مهما اختلفت صيغها، تشترك في إفراغ النقابة من بعدها الصراعي وتحويلها إلى مؤسسة خدماتية تعمل على ترميم الاستغلال لا تقويضه. وهذا ما يجعل الرد عليها جزءًا لا يتجزأ من معركة الوعي الطبقي.
في الواقع السوداني، يتغذى هذا الخطاب على مفاهيم الانتقال الديمقراطي والتعايش الطبقي، ويُستخدم لتجفيف منابع الراديكالية داخل لجان المقاومة والحركة العمالية الناشئة، مما يجعله شريكًا موضوعيًا في هندسة السيطرة الجديدة بعد الثورة.
لكن السيطرة لا تُفرض بالقوة وحدها، بل عبر تفكيك أدوات المقاومة ذاتها وإعادة إنتاجها داخل منظومة الدولة. إن الدعوة لـ"تنظيم النقابات" وفق القانون، في ظل دولة برجوازية تصادر الحق في التنظيم، ليست سوى دعوة لتطويع أدوات الصراع وتحويلها إلى أدوات ضبط. وهذا ما يجعل من الخطاب الإصلاحي أداة قمع ناعمة، أكثر فتكًا من السلاح، لأنها تُقنع العامل بأن خلاصه في تحسين شروط عبوديته، لا في كسر سلاسله.
عندما يقول تاج السر: "النقابات تكتسب شرعيتها من قواعدها"، فهو يُقدم نصف الحقيقة القاتلة. نعم، الشرعية تأتي من القاعدة، لكن أي قاعدة؟ وأي وعي؟ القاعدة غير المنظمة طبقياً هي مجرد حشدٍ قابلٍ للتفكيك. أما القاعدة الثورية فهي التي تفرض شرعيتها عبر الإضراب العام، واحتلال المصانع، وتشكيل المجالس العمالية — كما فعل عمال السودان في انتفاضتي 1964 و2019.
الخطاب الإصلاحي يختزل "القاعدة" إلى كيانٍ انتخابي، بينما الثوري يراها جسماً نضالياً يمارس السلطة مباشرة. هذا التناقض يكشفه أنطونيو غرامشي حين قال: "الهيمنة لا تُنتزع بالقانون بل تُفرض على الواقع... الدولة تبتلع المجتمع المدني حين تكون النقابات بلا مشروع سياسي ثوري."
اختزال شرعية النقابة في "قواعدها" بمعزل عن تحديدها الطبقي والسياسي، هو إعادة إنتاج للخطاب الإصلاحي الذي روّجته البيروقراطيات الأوروبية لعقود. لكن هذا النموذج تحطّم في وجه الجماهير، كما حدث مع مجالس الأرجنتين، وإضرابات البرازيل. لقد أثبتت تجارب مثل السوفييتات الروسية أو مجالس العمال في الأوروغواي أن النقابة الثورية لا تُبنى على الشرعية القانونية، بل على قوة الاشتباك الطبقي.
يمثل الصراع بين نقابة المنشأة ونقابة الفئة صراعًا وهميًا يُخفي التناقض الجذري. التركيز على الشكل يموّه وظيفة النقابة الحقيقية داخل النظام الرأسمالي. نقابة المنشأة تُقسّم العمال داخل المؤسسة، ونقابة الفئة تُعيد دمجهم تحت سقف بيروقراطي. وفي الحالتين، تتحول النقابة إلى وسيط تفاوضي لا أداة تحرر. هذا التناول لا ينطلق من منطق ماركسي، بل من وهم قانوني يرى أن الصياغة هي لبّ الأزمة، لا البنية الطبقية التي تنتجها.
الصراع الحقيقي يكون بين نموذج نقابي بيروقراطي محايد، ونموذج نضالي ثوري يرى النقابة كسلاح في يد الطبقة العاملة. كما قال ماركس: "الدولة ليست كائنًا محايدًا، بل أداة سيطرة طبقية." أما النقابة الثورية فهي التي تُنظم الإضرابات حتى تعطيل الاقتصاد، وتُشكل لجانًا عمالية تُدير المصانع ذاتيًا، وترفض الاعتراف بأي قانونٍ يقيّد فعلها الثوري.
ادعاء الحياد هو أخطر أسلحة الإصلاحيين، لأنه يُحول النقابة إلى نادٍ اجتماعي أو منظمة خدمات. الذروة في خطاب تاج السر تأتي حين يعرّف النقابة بأنها "جبهة واسعة تدافع عن مصالح العاملين بغض النظر عن منطلقاتهم الفكرية أو السياسية أو الدينية". هذا التعريف لا يُفرغ النقابة من السياسة فحسب، بل يُفرغها من الطبقة. الحياد في هذا السياق ليس موقفًا نزيهًا، بل انسحابًا من المعركة.
التاريخ يثبت أن النقابات "المحايدة" ساعدت في وأد الثورات، كما في تشيلي ومصر. وكما كتبت روزا لوكسمبورغ: "النقابة التي تنفصل عن الصراع السياسي ليست سوى جهاز بيروقراطي يعيد إنتاج الهزيمة." النقابة القانونية تُعيد إنتاج خطاب ناعم يُدجّن العمال ويُقصي الخط الثوري. كلما توسّع الحديث عن القانون، تراجع الحديث عن السلطة. وكلما رُفعت أعلام الحياد، سقطت أعلام الصراع.
النقابة، في وعي الطبقة الحاكمة، ليست خطرًا حين تكون مطالبةً بالحد الأدنى، بل حين تتحول إلى جهاز تعبئة وتحريض وكسر للشرعية البرجوازية. ومن هنا تنبع خطورة الخطاب الذي يُعيد قولبة النقابة لتكون أداةً ضغط لا أداة تحطيم. فالدولة تسمح بوجود نقابة تطالب بالخبز، لكنها تسحق النقابة التي تسعى للسلطة.
لا مكان للنقابة المحايدة في معسكر طبقي واضح. لا يمكن أن تعيش النقابة في كنف دولة برجوازية وتبقى ثورية. النقابة الثورية لا تنتظر الإجازة، بل تُفرض كواقع، من المصنع والشارع، عبر التنظيم والمجالس. إن الرهان على الشكل القانوني هو إعادة تدوير للهزيمة بلغة قانونية.
خطاب تاج السر عثمان لا يقدّم إلا نسخة معدّلة من النقابة الصفراء: واجهة قانونية منزوعة الروح الطبقية، وأداة احتواء داخل جهاز الدولة. يستحضر اللغة الماركسية ليُلبسها مضمونًا إصلاحيًا، فيُنتج نموذجًا بلا جوهر ثوري. الثورة، في لحظتها الحقيقية، لا تنتظر موافقة من أحد. إنها تقطع لا تصلح، وتُبني المجالس لا الملفات.
النقابة الثورية لا تتوقف عند تحسين شروط الاستغلال، بل تتجه نحو تقويضه كليًا. ليست هدفًا بحد ذاتها، بل وسيلة لإقامة دكتاتورية البروليتاريا من تحت، حيث تتحول المجالس واللجان إلى مؤسسات بديلة للدولة البرجوازية. كما عبّر تروتسكي: "النقابة التي لا تسعى لأن تكون حكومة من نوع جديد، تظل أداة تفاوض لا أداة تحرر."
لقد أدركت الماركسية الثورية، من كومونة باريس إلى السوفييتات، أن العمل النقابي لا يمكن فصله عن المسألة السياسية. النقابة ليست مرفقًا عموميًا، بل مؤسسة نضالية يجب أن تنخرط في مشروع تحطيم الدولة البرجوازية لا تحسينها. كل انفصال بين النقابة والحزب الثوري، بين المعركة الاقتصادية والسياسية، ليس حيادًا، بل انحياز موضوعي للبرجوازية. الخطاب الذي يصوّر النقابة كحيّز مستقل ومهني ينسف جوهر المادية التاريخية التي ترى في الطبقة وحدةً عضوية بين الموقع الاقتصادي والدور السياسي.
لا معنى لنقابة لا تحمل في جسدها روح الثورة. لا جدوى من "كفاح نقابي" لا يهدد ملكية وسائل الإنتاج. النقابة إما أن تكون سلاحًا في يد الجماهير أو قيدًا حول أعناقهم، وأي خطاب ينزع عن النقابة هذه الوظيفة الهجومية، هو صوت مموّه للعدو داخل الصف.
ما تطرحه الثورة السودانية اليوم من نماذج قاعدية، ولجان مقاومة ميدانية، هو نفيٌ فعلي لهذا النمط من النقابات القانونية. الجماهير لا تطالب بإدماجها، بل بامتلاك أدواتها. لا تطالب بتقنين العمل النقابي، بل بتجاوزه عبر المجالس والسلطة الشعبية المباشرة. وهذا هو الفارق بين من يريد أن يُبقي العمال في طابور الانتظار، ومن يدعوهم لاقتحام التاريخ.
وكما كتب لينين: "النقابات التي تفصل بين العمل الاقتصادي والنضال السياسي، إنما تربي العبيد، لا المحاربين."
النضال مستمر،،
#عماد_حسب_الرسول_الطيب (هاشتاغ)
Imad_H._El_Tayeb#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟