أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود كلّم - أحمد مرعي ناصر... شاعر الأرض الذي حملتهُ الرّياحُ إِلى سعسع!














المزيد.....

أحمد مرعي ناصر... شاعر الأرض الذي حملتهُ الرّياحُ إِلى سعسع!


محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)


الحوار المتمدن-العدد: 8417 - 2025 / 7 / 28 - 04:53
المحور: القضية الفلسطينية
    


في 30 آذار 1997، كتب الشاعر أحمد مرعي ناصر قصيدته الأخيرة، وكأنه كان يستعدّ لوداع الحياة، لا بالكلمات فحسب، بل بالحنين الذي لا يذبل. لم يكن شاعراً عابراً، بل ابن الأرض، شاعر سعسع، الذي حملته الرياح في الخيال إلى تلالها، حين عجز الجسد عن العودة.
قصيدته لم تكن نصّاً عاطفيّاً فقط، بل وصيّة كاملة من شاعر منفيّ، يطلب من وطنه السماح، ويضع قلبه على حجر الجرن، وينثر أشواقه على تين الدار وزعرورها. كتبها ليقول: "أنا ما تركتك بمحض اختياري… وأنا آتٍ إليكِ، فاعذريني."

"يا ليتكِ يا رياح بتحمليني…
عَ تلة قرب سعسع تنزليني…"

منذ البيت الأول، ينادي الشاعر الرياح لا كعنصر طبيعي، بل كوسيلة خلاص. يريد أن يُحمَل لا إلى عالم جديد، بل إلى تلة قرب سعسع، كأن مجرد الاقتراب من ظلالها يُخفف وطأة الغربة. لم يطلب العودة إلى بيت، أو طريق، أو حضن… طلب فقط "التلة" — المكان العالي الذي يرى منه البلاد، ولو من بعيد.

"ت أشوف بأرضي إيش جاري..
بعد هجرة طويلة من السنينِ"

رغبته بسيطة، لكنها مأساوية: أن يرى ما جرى، فقط ليرى. فهو لم يكن حاضراً عندما تغيّرت الجغرافيا، وتبدّلت الأسماء، وجُرِفت الحقول، واندثرت الحجارة. الهجرة لم تكن قراراً، بل انفصالاً عن الزمن، فظل الشاعر عالقاً في ذاكرة 1948، يحاول أن يصل إلى واقع لم يُسمح له أن يشهده.

"أرى عداثر جاثماً عن يساري..
والجرمق شامخاً عن يميني..
وعيوني شايحة عَ حجار داري…"

ما بين الجبلين، عداثر والجرمق، هناك مساحة كان اسمها الوطن. و"حجار داري" ليست مجرد حجارة، بل الذاكرة المتجسّدة في الحجر والتراب والعرق. يقول: "شايحة"، وهي كلمة تحمل شوقاً حادّاً، وكأن العين امتدّت حتى انفرجت على المدى لتتعلق بأملٍ بعيد، لا يُرى.

"أناديكِ يا بلادي سامحيني..
أنا ما تركتك بمحض اختياري.
وأنا آتٍ إليكِ، فاعذريني..
وضروري تقبلي مني اعتذاري.."

هذا المقطع من أكثر ما كُتب فلسطينيّاً وجعاً وصفاءً. لم يطلب من الأرض شيئاً سوى أن تسامحه. لم يغادر مختاراً، لكنه يشعر بالذنب، كأن في بقائه بعيداً خيانة، رغم أنه الضحية. اللغة هنا عفوية، صادقة، تفيض ألماً وانكساراً. فهو لا يعود منتصراً، بل منفيّاً، مطأطئ الرأس أمام تراب وطنه.

من ترابك كوز تينٍ… لا يُقدَّر بثمن
"على حبك عم بربي بنيني..
ومهما وصل لإيدي مصاري..
ما بيسوى من ترابك كوز تينِ"

ما من شاعر فلسطيني إلا وأدرك أن قيمة الوطن لا تُقاس بالذهب ولا المال. فـ"كوز التين" — رمز الأرض والخير الطبيعي — أهم عنده من كل المال الذي قد يحصل عليه في الغربة. المعادلة التي يطرحها الشاعر هي: حب الأرض مقابل كل شيء. وكل شيء لا يساوي شيئاً أمام "ترابك" يا فلسطين.

"وزعرورك الأحمر عَ اصفراري..
منه الدم جاري بشراييني.."

الزعرور هنا ليس فقط شجرة، بل وطن بيولوجي. اللون الأحمر رمزية للدم، والدم في هذا النص ليس مجرد عاطفة، بل صلة قرابة ترابية — فالوطن يسري في العروق كما يسري الدم في الشرايين.

"ومهما شمخ بالغربة عماري..
بيظل للكهف بسعسع حنيني..
وعودي تجولي بتلك البراري…
وبدربك عَ خِلّال سُبيع مُرّي..
وهناك بجانب الجرن ادفنيني.."

هنا يبلغ النص قمّته الإنسانية. فالشاعر، رغم حياته الطويلة في المنفى، يريد أن يُدفن في سعسع، لا بجوار بيت فخم، بل بجانب "الجرن" — رمز الفقر والريف والطفولة والكرامة. الحنين لا يُوجَّه فقط إلى بلدة، بل إلى رائحة طريق، وذاكرة براري، وماء "خِلّال سُبيع"، حيث الطفولة والشباب والانتماء.

كتب أحمد مرعي ناصر هذه القصيدة قبل ثلاث سنوات من وفاته، وكأنه كان يختتم بها سيرة طويلة من الغربة والوجع والصبر. لم يكن شاعر منفى عاديّاً، بل شاعر وطنٍ خُلع من قلبه، وطُعن في ذاكرته. كان يعرف أن العودة قد لا تُتاح، فحمّل قصيدته كل ما تبقّى من روحه.
وإن لم تُحمله الرياح فعليّاً إلى تلة في سعسع، فقد حملته كلماته.
وإن لم يُدفن بجانب الجرن كما تمنى، فقصيدته دفنته هناك معنًى ورمزاً، وستظل الريح تمر من فوق "خِلّال سُبيع"، حاملةً همساً جديداً يقول:
"يا ليتكِ يا رياح بتحمليني…
عَ تلة قرب سعسع تنزليني…"



*محمود كلّم: كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.



#محمود_كلّم (هاشتاغ)       Mahmoud_Kallam#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جورج إبراهيم عبد الله: حين يعود المناضل… ويغيب الوطن!
- غزّة تكشِفُ عوراتِ الأُمّةِ!
- غزة... مرثيةُ أمةٍ فقدت شرفها!
- الطفلة شام تسأل عن الطعام في الجنة، وغزة تموت جوعاً!
- نداء عاجل إلى العشائر العربية المتجهة إلى السويداء!
- بين الترفيع والترقيع: المشهد الفلسطيني في لبنان تحت المجهر
- الشيخ مرهج شاهين... حين يُهان الوقار ويسقط وجه الأمة!
- بيان نويهض الحوت تلتحق بشفيق وأنيس... ويصمت صوت الحقيقة
- غريبٌ بين النجوم
- إِصلاحٌ أم انتقامٌ؟ قراءةٌ في تحرُّكاتِ -القيادةِ الفلسطينيّ ...
- ما بين -الشجرة- وغزة... أنشودة الدم التي لا تموت!
- غسّان كنفاني وناجي العلي: حين يكتُبُ الحبرُ والدّمُ تاريخنا!
- غزة تدقّ جدران الخزان... ولا يسمعها إلا غسان كنفاني!
- غزة... وحيدة في ليل الخذلان!
- غزّة... آخرُ ما تبقّى من إِنسانيّتِنا!
- غزّة... وأبو الحن في فخِّ المُساعدات!
- غزّة... لا مفرّ: نُزُوحٌ من الموتِ إِلى الموتِ!
- من العدس إلى الشّهادة... الشهيد نزار بنات كما لم تعرفُوهُ!
- غزّة... تنزفُ في عرض البحر!
- غزّة تنزف بصمت... وأمريكا تُدير المجزرة!


المزيد.....




- فرنسا والسعودية تؤكدان ضرورة حل الدولتين وسط انتقادات إسرائي ...
- بعد خمسة أيام من القتال.. تايلاند وكمبوديا تتفقان في ماليزيا ...
- بسبب الوضع الكارثي في غزة.. المفوضية الأوروبية تقترح تعليق ت ...
- تمهيدًا للقاء محتمل بين ترامب وشي..أميركا والصين تستأنفان مح ...
- ما علاقة حزب البديل باستقالة سياسي ألماني رسم صليبا نازيا؟
- عبد المنعم الجمل: كلمة الرئيس السيسي صفعة على وجه الصمت الدو ...
- أخطاء شائعة في التعامل مع نوبات غضب الأطفال
- 92 شهيدا والاحتلال يعرض خطة للسيطرة على كامل قطاع غزة
- ليبراسيون: هذه حكاية محتال انتحل صفة وزير دفاع دولة نووية وس ...
- شهيدان بهجمات مستوطنين بالضفة


المزيد.....

- لتمزيق الأقنعة التنكرية عن الكيان الصهيو امبريالي / سعيد مضيه
- ثلاثة وخمسين عاما على استشهاد الأديب المبدع والقائد المفكر غ ... / غازي الصوراني
- 1918-1948واقع الاسرى والمعتقلين الفلسطينيين خلال فترة الانت ... / كمال احمد هماش
- في ذكرى الرحيل.. بأقلام من الجبهة الديمقراطية / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / محمود خلف
- الأونروا.. والصراع المستدام لإسقاط شرعيتها / فتحي الكليب
- سيناريوهات إعادة إعمار قطاع غزة بعد العدوان -دراسة استشرافية ... / سمير أبو مدللة
- تلخيص كتاب : دولة لليهود - تأليف : تيودور هرتزل / غازي الصوراني
- حرب إسرائيل على وكالة الغوث.. حرب على الحقوق الوطنية / فتحي كليب و محمود خلف
- اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني / غازي الصوراني


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - محمود كلّم - أحمد مرعي ناصر... شاعر الأرض الذي حملتهُ الرّياحُ إِلى سعسع!