ناضل حسنين
الكاتب الصحفي
(Nadel Hasanain)
الحوار المتمدن-العدد: 8415 - 2025 / 7 / 26 - 19:52
المحور:
الادب والفن
رحل زياد الرحباني. خبرٌ لم يُصدق بسهولة، وكأنه إحدى نكاته السوداء التي ظل يقذف بها وجوهنا، حتى تظنها مزحة أو مشهدًا هزليًا من مسرحية لم تُعرض بعد.
مات صوت السخرية الأذكى، والكلمة الأجرأ، واللحن الذي أبى التجميل ورفض المجاملة. غاب من كان يشبهنا أكثر مما نُشبه أنفسنا؛ ابن فيروز وعاصي، حمل الإرث ولم يركن إليه، بل تمرّد وصنع لنفسه خطًا لا يشبه أحدًا. لم يكن مجرد امتدادٍ لأسطورة، بل ثورة عليها وضدها وضد كل ما هو محفوظ ومعلب وجاهز للاستهلاك.
كتب زياد لنا يومياتنا بلا رتوش، لحن أوجاعنا وفرحنا، ومثّـل تغريبتنا في مسرح الحياة، وسخر من الجميع حتى من نفسه. سَكن في "رصيف بردى" وفي زوايا الذاكرة الجمعية، صنع من حياته، ومن حياتنا، مادة للدهشة والتساؤل والضحك المرّ. كان الوطن بالنسبة إليه حكاية حبّ مأزومة، فسكن الوطن في روحه وتحوّل عندنا إلى مرآة خدّاشة لواقع لا يُحتمل ولا يُشفى.
لم يكن زياد فقط موسيقيًا ولا مجرد مؤلف مسرحي؛ كان فيلسوفًا يمشي على أرصفة المدن المنهكة، سكيرًا بالكلمات والأفكار، يوزع على الجدران منشورات فلسفته القاسية دون خجل أو خوف. كان شيوعيًا ساخرًا من كل الأنظمة، ووطنيًا يلوذ بالهزء من الشعارات، وإنسانيًا حتى الصراخ. وقف مع الناس، ضدهم، وضد نفسه وضد الجميع؛ كان يفضح المجاملات، ويعرّي الزيف، ويضحك من عيوبنا التي لم نجرؤ نحن على مواجهتها.
كم مرة قال زياد ما عجزنا عن قوله؟ كم مرة ركل الأبواب المغلقة ونادى الناس بأسمائهم لا بألقابهم؟ كم مرة أضحكنا حتى البكاء حين سمعنا "بما إنو" أو جعل دموعنا تسبق ضحكاتنا حين أنشد "أنا مش كافر"؟ أعاد ترتيب أبجدية الألم اللبناني والعربي، واعترف بكل شيء، حتى بما لا يحتمل الاعتراف.
لم يكن نجمًا على خشبة. كان الخشبة والمقهى والرصيف، وكان الكلمة الشبيهة بالحقيقة، مهما كانت جارحة وصادمة. عاش جرحًا عربيًا مفتوحًا على مصراعيه، لكنه لم يطلب يومًا تصفيقًا ولا عرف الاستعراض. رحل وترك في الخيار بين الضحك والبكاء فراغًا نعجز عن سدّه.
اليوم نسكت دقيقة لا احتراما للموت، بل دهشة من الغياب. وداعا يا من كنت تمثلنا أكثر مما نمثل أنفسنا. ستبقى السؤال المفتوح، والجرح الجميل… ما دمنا، وسيبقى "عودك الرنان" .. ما بقينا.
#ناضل_حسنين (هاشتاغ)
Nadel_Hasanain#
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟