أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عبد الكريم يوسف - الذاكرة في العمل الاستخباراتي، محمد عبد الكريم يوسف















المزيد.....



الذاكرة في العمل الاستخباراتي، محمد عبد الكريم يوسف


محمد عبد الكريم يوسف
مدرب ومترجم وباحث

(Mohammad Abdul-karem Yousef)


الحوار المتمدن-العدد: 8412 - 2025 / 7 / 23 - 16:33
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


الذاكرة في العمل الاستخباراتي
تعتبر الذاكرة بأنواعها المختلفة حجر الزاوية في عالم الاستخبارات. فقدرة العميل أو المحلل على تذكر التفاصيل الدقيقة، سواء كانت مرئية أو مسموعة، هي التي تحدد في كثير من الأحيان نجاح العمليات الاستخباراتية أو فشلها. في هذا الكتاب، سنتعمق في الأسباب التي تجعل الذاكرتين البصرية والسمعية أدوات لا غنى عنها لأجهزة المخابرات حول العالم.

الذاكرة البصرية: العين التي لا تنسى
تُعد الذاكرة البصرية من أقوى أنواع الذاكرة البشرية، وهي تلعب دوراً حاسماً في جمع المعلومات وتحليلها في المجال الاستخباراتي.
• تحديد الوجوه والأشخاص: تعتمد أجهزة المخابرات بشكل كبير على قدرة أفرادها على تذكر وجوه المشتبه بهم، العملاء، أو الشخصيات المستهدفة. الذاكرة البصرية الفائقة تمكن العملاء من التعرف على الأفراد حتى في ظروف صعبة أو بعد مرور وقت طويل.
o أمثلة من ملفات المخابرات:
 التعرف على الإرهابيين بعد سنوات: في العديد من قضايا مكافحة الإرهاب، يعتمد المحققون وعملاء الميدان على شهادات وملاحظات سابقة لعملاء رأوا وجوه أفراد معينين في مناطق النزاع أو أثناء التدريب. القدرة على ربط وجه شوهد قبل سنوات في معسكر تدريب بآخر يظهر في عملية إرهابية هي مفتاح تفكيك الشبكات.
 عمليات الاختراق والتسلل: يتطلب إدخال عميل سري إلى منظمة معادية أو مجموعة إجرامية قدرة بصرية استثنائية على تذكر وجوه جميع الأعضاء، أشكالهم، وحتى تفاصيل مميزة في مظهرهم (وشوم، ندوب، طريقة ارتداء الملابس) لتجنب كشف الهوية والتنكر.
 مطاردة الأهداف عالية القيمة: في عمليات المراقبة والمطاردة، قد يرى العميل الهدف المستهدف للحظات فقط وسط حشد كبير. الذاكرة البصرية الدقيقة تمكنه من تمييز الهدف من بين آلاف الأشخاص وتحديد حركاته بدقة.
• تذكر التفاصيل المكانية: يتعين على عملاء المخابرات تذكر تفاصيل دقيقة للمواقع، المباني، أو حتى التضاريس الجغرافية. هذه القدرة ضرورية للتخطيط للعمليات، التتبع، أو تحديد نقاط الضعف في الأهداف.
o أمثلة من ملفات المخابرات:
 التخطيط لعمليات الإنقاذ أو الاقتحام: قبل أي عملية اقتحام لمبنى يتحصن فيه أعداء، يقوم العملاء بجمع معلومات بصرية دقيقة عن الممرات، الغرف، المداخل والمخارج، وحتى أماكن النوافذ والأسقف. هذه الخريطة الذهنية البصرية الدقيقة تقلل من المخاطر وتزيد من فرص النجاح.
 الهروب والنجاة (Evasion and Escape): في حال تعرض العميل للخطر في منطقة معادية، فإن قدرته على تذكر التضاريس، مخابئ محتملة، مسارات هروب، وحتى مواقع مصادر المياه أو الغذاء، هي مسألة حياة أو موت.
 تقييم التهديدات الأمنية: عند تقييم موقع اجتماع سري أو زيارة شخصية مهمة، يعتمد الخبراء الأمنيون على ذاكرتهم البصرية لتحديد الزوايا الميتة، نقاط المراقبة المحتملة للعدو، أو المواقع التي يمكن أن تستخدم للتفجيرات.
• تحليل الصور ومقاطع الفيديو: تُعتبر الصور ومقاطع الفيديو مصادر معلوماتية غنية للمخابرات. تتطلب القدرة على استخلاص المعلومات الهامة منها ذاكرة بصرية قوية لربط الأحداث، تحديد الأنماط، وتفسير الإشارات غير اللفظية.
o أمثلة من ملفات المخابرات:
 تفسير صور الأقمار الصناعية: يقوم محللو صور الأقمار الصناعية (SIGINT/IMINT) بتدريب ذاكرتهم البصرية على تمييز التغيرات الطفيفة في البنية التحتية العسكرية، حركة القوات، أو بناء منشآت سرية على مدار الزمن. التغيرات الدقيقة التي قد لا يلاحظها الشخص العادي يمكن أن تكشف عن برامج أسلحة سرية.
 فحص لقطات المراقبة (CCTV): في التحقيقات الجنائية أو الإرهابية، يتم تحليل ساعات طويلة من لقطات كاميرات المراقبة. تتطلب هذه العملية ذاكرة بصرية حادة لتحديد الأشخاص المشتبه بهم، تتبع مساراتهم، وتحديد اللحظة التي تركوا فيها شيئًا مهمًا أو التقوا بشخص آخر.
 تحليل صور الهويات المزورة: خبراء التزوير في المخابرات يستخدمون ذاكرتهم البصرية للتعرف على أدق الفروق في الطباعة، نوع الورق، أو طريقة وضع العلامات المائية التي تكشف الهويات المزورة.
• التعرف على الأنماط والعلامات: القدرة على تذكر أنماط معينة من السلوك، المركبات، أو حتى العلامات المميزة على الأشخاص أو الأشياء تساعد في كشف الخلايا الإرهابية، تحديد مواقع الأسلحة، أو تتبع الأنشطة المشبوهة.
o أمثلة من ملفات المخابرات:
 أنماط حركة السيارات: في عمليات التتبع، قد يلاحظ العميل أن سيارة معينة تتبع نمطًا محددًا في مسارها أو أنها تقف في أماكن معينة بشكل متكرر. هذه الملاحظة البصرية الدقيقة قد تكشف عن نقاط التقاء أو مخابئ.
 علامات أجهزة المراقبة السرية: يقوم عملاء مكافحة التجسس بتدريب ذاكرتهم البصرية على التعرف على أدق العلامات التي تشير إلى وجود أجهزة تنصت أو كاميرات خفية في الغرف أو السيارات.
 اللغة الجسدية والإشارات غير اللفظية: القدرة على قراءة لغة الجسد وتذكر أنماط الإيماءات أو النظرات هي مهارة بصرية حاسمة في الاستجواب أو تقييم العملاء المحتملين أو المشتبه بهم. على سبيل المثال، التناقض بين الكلمات ولغة الجسد قد يشير إلى الكذب.

الذاكرة السمعية: الأذن التي تلتقط السر
لا تقل الذاكرة السمعية أهمية عن الذاكرة البصرية في عالم الاستخبارات، فهي تمكن من التقاط وتخزين المعلومات الصوتية الحيوية.
• تحديد الأصوات واللهجات: القدرة على تذكر أصوات معينة، لهجات، أو حتى طريقة كلام شخص ما يمكن أن تكون مفتاحاً لتحديد الهوية في عمليات التنصت أو التحقيقات الصوتية.
o أمثلة من ملفات المخابرات:
 التعرف على العملاء المزدوجين: في بعض الحالات، يمكن أن يتم التعرف على عميل مزدوج من خلال تسجيلات صوتية سابقة له، حتى لو حاول تغيير صوته أو لهجته. الأذن المدربة للمحلل يمكن أن تلتقط أدق الفروق.
 تحديد مواقع الاتصال: في عمليات اعتراض الاتصالات، يمكن للذاكرة السمعية المدربة أن تميز أصواتًا خلفية محددة (مثل صوت قطار يمر، أو أجراس كنيسة معينة، أو ضوضاء مصنع) تساعد في تحديد الموقع التقريبي للمتحدث، حتى لو كان يستخدم تقنيات إخفاء الموقع.
 التمييز بين الأصوات المتشابهة: في شبكات التجسس، قد تكون هناك عدة أشخاص يتحدثون بلهجات متقاربة. القدرة على التمييز بين هذه الأصوات وتحديد هوية كل متحدث على حدة هي مهارة سمعية حيوية.
• تذكر المحادثات والمعلومات المنطوقة: يُطلب من العملاء والمحللين تذكر تفاصيل المحادثات، التوجيهات، أو حتى الشفرات الصوتية. هذه المعلومات غالبًا ما تكون حساسة وحيوية لاتخاذ القرارات الاستخباراتية.
o أمثلة من ملفات المخابرات:
 تذكر الشفرات وكلمات المرور: في عمليات التسلل أو جمع المعلومات، قد يتم إعطاء العميل كلمة مرور سرية أو شفرة صوتية لمرة واحدة. القدرة على تذكرها بدقة لحظة سماعها ضرورية لنجاح المهمة.
 توجيهات العمليات الشفوية: في العمليات الميدانية، قد يتلقى العميل توجيهات شفوية سريعة ومختصرة عبر اتصال لاسلكي. القدرة على استيعاب هذه التوجيهات وتذكرها بدقة أمر حيوي لتجنب الأخطاء المكلفة.
 تفريغ وتوثيق الشهادات: عند إجراء مقابلات مع شهود عيان أو مصادر، يعتمد المحققون على ذاكرتهم السمعية لتوثيق أدق التفاصيل التي ذكرها الشاهد، بما في ذلك الترددات، التناقضات، أو حتى المشاعر التي تعبر عنها نبرة الصوت.
• تحليل التسجيلات الصوتية: تعتمد عمليات التجسس والتنصت بشكل كبير على تحليل التسجيلات الصوتية. تتطلب القدرة على استخلاص المعلومات الهامة من هذه التسجيلات ذاكرة سمعية قوية لتمييز الأصوات، فهم السياق، واكتشاف الأنماط الصوتية.
o أمثلة من ملفات المخابرات:
 كشف "الأصوات المخفية" (Whispers): في التسجيلات الصعبة أو المشوشة، قد يتمكن المحلل ذو الذاكرة السمعية المدربة من التقاط كلمات أو جمل مهمة تم التحدث بها بصوت منخفض أو في الخلفية.
 تحديد المتفجرات أو الأسلحة: في تسجيلات من مناطق نزاع، يمكن للمحللين ذوي الخبرة تحديد أصوات أسلحة معينة (نوع السلاح الناري، صوت إطلاق صاروخ، انفجار قنبلة يدوية) من خلال ذاكرتهم السمعية، مما يساعد في تقييم الوضع على الأرض.
 أنماط الكلام والإيقاع: يمكن للذاكرة السمعية المتقدمة أن تميز أنماطًا فريدة في كلام الأفراد، مثل الترددات الصوتية، سرعة الكلام، أو استخدام كلمات معينة بشكل متكرر، مما يساعد في ربط التسجيلات المختلفة بنفس الشخص حتى لو كان يحاول إخفاء هويته.
• التعرف على الترددات والإشارات: في مجال الاستخبارات التقنية، تعتبر الذاكرة السمعية مهمة للتعرف على ترددات معينة، إشارات الراديو، أو أنماط الاتصالات التي قد تشير إلى نشاط معادٍ.
o أمثلة من ملفات المخابرات:
 اعتراض إشارات العدو: يعتمد مشغلو الاستخبارات الإشارات (SIGINT) على ذاكرتهم السمعية للتعرف على أنماط الترددات الراديوية، إشارات التشفير، أو حتى الضوضاء المميزة التي قد تصدرها أنظمة اتصالات معادية.
 تحديد مواقع أجهزة الإرسال: قد يكون لكل جهاز إرسال (جهاز تنصت، جهاز إرسال سري) توقيع صوتي أو إشاري فريد. القدرة على تذكر هذا التوقيع السمعي تساعد في تحديد موقع الجهاز وكشفه.
 فك رموز الإشارات السرية: في بعض الحالات، يمكن أن تكون الشفرات مرتبطة بأنماط صوتية أو ترددات معينة. الذاكرة السمعية القوية يمكن أن تساعد في فك هذه الرموز.

تكامل الذاكرتين: الصورة الكاملة
في كثير من الأحيان، تعمل الذاكرتان البصرية والسمعية معاً لتكوين صورة كاملة ودقيقة للموقف.
• الاستجواب والتحقيق: عند استجواب شخص ما، يحتاج المحقق إلى استخدام الذاكرة البصرية لتذكر تعابير الوجه ولغة الجسد، والذاكرة السمعية لتذكر نبرة الصوت وتفاصيل الإجابات.
o أمثلة من ملفات المخابرات:
 كشف الكذب: يتطلب كشف الكذب ذاكرة بصرية لتقييم التغيرات الدقيقة في تعابير الوجه أو حركات العين، وذاكرة سمعية لتقييم التغيرات في نبرة الصوت، سرعة الكلام، أو التردد. التناقضات بين ما يراه ويسمعه المحقق هي مؤشرات رئيسية.
 تحديد مناطق التوتر: في الاستجواب، قد يتحدث المشتبه به عن تفاصيل معينة بصوت متردد أو يتجنب الاتصال البصري. القدرة على ربط هذه الإشارات السمعية والبصرية معًا تمكن المحقق من تحديد مناطق التوتر والضغط على المتهم.
• المراقبة والرصد: في عمليات المراقبة، يجمع العملاء معلومات بصرية (مثل تحركات الأشخاص والمركبات) وسمعية (مثل المحادثات أو الأصوات المميزة) لتكوين تقرير شامل.
o أمثلة من ملفات المخابرات:
 تتبع الهدف في بيئة معقدة: في مدينة مزدحمة، قد يرى العميل الهدف يدخل مبنى ويسمع صوت معين يصدر من الداخل (مثلاً، صوت سيارة معينة تغادر). دمج هاتين الملاحظتين البصرية والسمعية يمكن أن يساعد في تتبع الهدف أو تحديد هويته.
 توثيق اللقاءات السرية: العملاء الذين يراقبون لقاءات سرية يحتاجون إلى تذكر وجوه الأشخاص، ملابسهم، المكان الدقيق، وفي نفس الوقت، محاولة التقاط أي كلمات أو عبارات مميزة يمكن سماعها.

العوامل المؤثرة على الذاكرة في العمل الاستخباراتي
تتأثر الذاكرة البصرية والسمعية للعملاء والمحللين بعدة عوامل في البيئة الاستخباراتية عالية الضغط:
• الضغط النفسي والتوتر: تؤدي مستويات التوتر العالية إلى إفراز هرمونات مثل الكورتيزول، والتي يمكن أن تؤثر سلبًا على قدرة الدماغ على ترميز وتخزين واسترجاع المعلومات. في العمليات الميدانية، يمكن أن يؤثر الخوف من الكشف أو الفشل على دقة الذاكرة.
• الإرهاق ونقص النوم: المهام الاستخباراتية غالبًا ما تتطلب ساعات عمل طويلة وغير منتظمة، مما يؤدي إلى الإرهاق الشديد ونقص النوم. هذه العوامل تضعف الذاكرة بشكل كبير وتقلل من القدرة على التركيز والانتباه للتفاصيل.
• الحمل المعلوماتي الزائد: يواجه عملاء ومحللو المخابرات كميات هائلة من المعلومات يوميًا. محاولة تذكر كل التفاصيل يمكن أن تؤدي إلى تداخل المعلومات أو نسيان التفاصيل الهامة.
• ظروف الرصد الصعبة: تتضمن عمليات المراقبة والرصد غالبًا ظروفًا بيئية صعبة مثل الإضاءة المنخفضة، الضوضاء العالية، أو الرؤية المحدودة، مما يعيق قدرة الذاكرة البصرية والسمعية على التقاط المعلومات بدقة.
• التحيزات المعرفية: يمكن أن تؤثر التحيزات المسبقة أو التوقعات على طريقة تذكر المعلومات، مما يؤدي إلى التركيز على تفاصيل معينة وتجاهل أخرى، وبالتالي تشويه الصورة الكلية.

التدريب الافتراضي بالمحاكاة والمخابرات: إعداد نخبة العملاء
يُعد التدريب الافتراضي بالمحاكاة جزءًا لا يتجزأ من برامج تدريب المخابرات الحديثة، خاصة في الإعداد لتنفيذ العمليات الخاصة. تتيح هذه التقنيات بيئة آمنة وواقعية لصقل الذاكرتين البصرية والسمعية، وتهيئتهما للظروف الحقيقية.
• التدريب المسبق على تنفيذ العمليات الخاصة: قبل أي عملية خاصة، يخضع العملاء لتدريبات مكثفة باستخدام المحاكاة لترسيخ التفاصيل البصرية والسمعية في ذاكرتهم.
o محاكاة مسرح العمليات: يتم بناء نماذج ثلاثية الأبعاد دقيقة للمباني، الشوارع، وحتى التضاريس الجغرافية للمنطقة المستهدفة. يقوم العملاء "باستكشاف" هذه البيئات افتراضيًا مرات لا تحصى، مما يمكنهم من تذكر:
 المداخل والمخارج: أماكن الأبواب، النوافذ، فتحات التهوية، ومسارات الهروب المحتملة.
 العوائق والمخاطر: أماكن الأثاث، الجدران، أو أي عوائق أخرى قد تؤثر على الحركة.
 نقاط التجمع والتغطية: مواقع مثالية للاختباء، أو التمركز، أو توفير الدعم الناري.
 توزيع الإضاءة والأصوات: محاكاة الظروف الليلية أو النهارية، وتضمين الأصوات الخلفية المتوقعة (أصوات الشارع، مكيفات الهواء) لتدريب الذاكرة السمعية على تصفية الضوضاء والتركيز على الأصوات الهامة.
o تطوير الذاكرة الإجرائية (Procedural Memory): المحاكاة تسمح للعملاء بممارسة سلسلة من الإجراءات والخطوات مراراً وتكراراً، مما يحولها إلى ذاكرة إجرائية لا واعية. على سبيل المثال، تذكر تسلسل فتح الأبواب، تفتيش الغرف، أو التعامل مع الأسلحة تحت الضغط.
o سيناريوهات "ماذا لو؟": يتم إدخال متغيرات غير متوقعة في المحاكاة (مثل ظهور عدو إضافي، تغير مسار، أو عطل فني) لاختبار قدرة العميل على تذكر الخطط البديلة، وتكييف ذاكرته للتعامل مع الظروف الجديدة.
o التدريب على التعرف السريع: يتم تدريب العملاء على التعرف الفوري على الأهداف، سواء كانت وجوهاً، أرقام سيارات، أو أصواتاً محددة، في أجزاء من الثانية تحت ضغط الوقت والمواقف الحرجة.
• التغذية الراجعة وتحسين الأداء: تتيح المحاكاة تسجيل أداء العملاء بدقة، ومراجعة الأخطاء التي ارتكبوها. هذا التحليل البصري والسمعي المفصل يساعد على:
o تحديد نقاط الضعف في الذاكرة: معرفة ما لم يتذكره العميل بدقة (وجه، اسم، مسار) وتوجيه التدريب لتقوية تلك الجوانب.
o تعزيز الذاكرة بالخبرة المتكررة: تكرار السيناريوهات يساعد في ترسيخ المعلومات في الذاكرة طويلة المدى، مما يقلل من احتمالية النسيان في الميدان.
o بناء الثقة: عندما يتذكر العميل التفاصيل وينجح في المحاكاة، يزداد ثقته بقدراته على الذاكرة في الظروف الحقيقية.

دور التدريب والتكنولوجيا في تعزيز الذاكرة الاستخباراتية
لمواجهة التحديات التي تؤثر على الذاكرة، تستثمر أجهزة المخابرات بشكل كبير في التدريب المتخصص والتقنيات المتقدمة لتعزيز الذاكرة:
• التدريب المتخصص للذاكرة:
o تمارين الذاكرة المكثفة: يتم تدريب العملاء على تقنيات استذكار متقدمة (مثل قصر الذاكرة "Memory Palace"، وأنظمة ربط الكلمات بالصور) لزيادة سعة الذاكرة وسرعة استرجاع المعلومات. هذه التقنيات تعتمد على مبادئ التصوير الذهني والربط المعرفي لترسيخ المعلومات.
o التدريب على التركيز والانتباه: تمارين مصممة لتحسين القدرة على التركيز على التفاصيل الهامة وتصفية الضوضاء أو المشتتات، سواء كانت بصرية أو سمعية. يشمل ذلك تمارين الانتباه الانتقائي والتحمل المعرفي.
• التقنيات المساعدة:
o أنظمة التعرف على الوجوه والصوت: تُستخدم هذه التقنيات لإنشاء قواعد بيانات ضخمة للوجوه والأصوات، مما يدعم الذاكرة البشرية في تحديد الهويات وتتبع الأفراد عبر مختلف المصادر (صور المراقبة، تسجيلات المكالمات). هذه الأنظمة تعوض النقص البشري في التعامل مع البيانات الضخمة.
o برامج تحليل الفيديو والصوت: تساعد هذه الأدوات في استخلاص المعلومات من التسجيلات الطويلة، وتسليط الضوء على المقاطع الهامة، وتحسين جودة الصوت والصورة لتسهيل تحليلها وتذكر تفاصيلها. تتيح هذه البرامج للعملاء إعادة فحص الأدلة وتثبيت المعلومات في ذاكرتهم.
o أدوات إدارة المعلومات والمعرفة (Knowledge Management Systems): تُمكن هذه الأنظمة من تنظيم وتخزين كميات هائلة من المعلومات بطريقة يسهل البحث عنها واسترجاعها، مما يقلل العبء على الذاكرة البشرية ويسمح لها بالتركيز على التحليل والربط بدلاً من التخزين الخام. هذه الأنظمة بمثابة "ذاكرة خارجية" للمنظمة.

تحديات المستقبل والآفاق الجديدة
مع تطور التكنولوجيا، تظهر تحديات جديدة وفرص لتعزيز الذاكرة في العمل الاستخباراتي:
• الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة: يُتوقع أن يلعب الذكاء الاصطناعي (AI) دورًا متزايد الأهمية في معالجة وتحليل البيانات البصرية والسمعية بكميات هائلة تفوق قدرة البشر. يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحدد أنماطًا معقدة ويقدم "اقتراحات ذاكرة" للمحللين، مما يحرر الذاكرة البشرية للتركيز على الجوانب الإبداعية والاستنتاجية.
o أمثلة مستقبلية: يمكن لنظام AI أن يحلل مليارات الصور والتسجيلات الصوتية لتحديد روابط غير مرئية بين الأفراد أو الأحداث، وتقديمها كـ"تلميحات" للعميل الذي قد لا يتذكر التفاصيل الدقيقة ولكنه يتعرف عليها بمجرد استرجاعها.
• التداخل بين الذاكرة البشرية والذكاء الاصطناعي: سيصبح التحدي الأكبر هو كيفية دمج قدرات الذاكرة البشرية (التي تتميز بالفهم السياقي والحدس) مع قدرات الذكاء الاصطناعي (التي تتميز بالسرعة والقدرة على المعالجة الضخمة). لن يكون الهدف هو استبدال الذاكرة البشرية، بل تعزيزها وجعلها أكثر فعالية.
• الأمن السيبراني وحماية الذاكرة: مع تزايد الاعتماد على التكنولوجيا، يصبح أمن المعلومات والبيانات المخزنة أمرًا بالغ الأهمية. يجب حماية قواعد البيانات البصرية والسمعية من الاختراق لضمان بقاء المعلومات حية ودقيقة لأغراض الذاكرة والاسترجاع.
• الاعتبارات الأخلاقية والقانونية: إن استخدام تقنيات متقدمة لتعزيز الذاكرة، وجمع كميات هائلة من البيانات البصرية والسمعية، يثير تساؤلات أخلاقية وقانونية مهمة. يجب الموازنة بين الحاجة إلى الأمن وحماية الخصوصية والحقوق المدنية.
o أمثلة: قضايا المراقبة الجماعية، استخدام التعرف على الوجه في الأماكن العامة، أو مدى جواز الاحتفاظ ببيانات صوتية ومرئية لأفراد غير مشتبه بهم. هذه المسائل تتطلب أطرًا قانونية واضحة وإشرافًا دقيقًا لضمان عدم تجاوز حدود السلطة.
• مخاطر التكنولوجيا والاعتماد الزائد: الاعتماد المفرط على التكنولوجيا قد يؤدي إلى ضمور في القدرات البشرية الطبيعية للذاكرة. كما أن الأنظمة التكنولوجية ليست محصنة ضد الأعطال أو الاختراقات، مما قد يؤدي إلى فقدان معلومات حيوية أو الاعتماد على بيانات مضللة. الموازنة بين استخدام التكنولوجيا والحفاظ على المهارات البشرية الأساسية أمر بالغ الأهمية.

الذاكرة الاستخباراتية الشاملة: ما وراء الحفظ
الذاكرة في العمل الاستخباراتي لا تقتصر على مجرد تذكر التفاصيل، بل تتعداها إلى فهم أعمق للعلاقات والأنماط المعقدة.
• الذاكرة التشغيلية والذاكرة طويلة المدى:
o الذاكرة التشغيلية (Working Memory): حاسمة في الميدان؛ تسمح للعميل بمعالجة المعلومات اللحظية (أصوات، وجوه، تفاصيل بيئية) واتخاذ قرارات سريعة. هذه الذاكرة قصيرة الأمد ولكنها حيوية للبقاء والنجاح.
o الذاكرة طويلة المدى (Long-Term Memory): ضرورية لتخزين المعرفة التراكمية، مثل معلومات عن شبكات إرهابية سابقة، أنماط سلوكية لأفراد معينين، أو خبرات من عمليات سابقة. هذه الذاكرة تتيح للمحللين والعملاء ربط المعلومات الجديدة بالخبرات المتراكمة.
• الذاكرة السياقية: القدرة على تذكر المعلومة ليس بمعزل عن سياقها، بل ضمن الظروف التي تم الحصول عليها فيها. على سبيل المثال، تذكر محادثة معينة يرتبط بتذكر المكان والوقت والأشخاص المتواجدين، مما يضيف عمقًا وموثوقية للمعلومة.
• تطوير "الغريزة" الاستخباراتية: مع تراكم الخبرة والتدريب، تتطور لدى عملاء المخابرات ما يمكن تسميته بـ"الغريزة" أو "البصيرة" الاستخباراتية. هذه القدرة تنبع من ذاكرة ضخمة لأنماط وسيناريوهات سابقة، تمكنهم من استشعار الخطر أو الفرص حتى قبل ظهور دلائل واضحة. إنها شكل من أشكال الذاكرة الضمنية (Implicit Memory) التي تتجلى في ردود الفعل والحدس السريع.
• دور "الذاكرة المؤسسية": بالإضافة إلى الذاكرة الفردية، تمتلك أجهزة المخابرات "ذاكرة مؤسسية" تتشكل من التقارير، قواعد البيانات، والدروس المستفادة من العمليات. تساهم الذاكرة البصرية والسمعية للعملاء بشكل مباشر في بناء هذه الذاكرة المؤسسية، والتي تنتقل عبر الأجيال من خلال التدريب والتوثيق.

الخاتمة: الذاكرة درع الوطن
في عالم تزداد فيه التهديدات تعقيداً وتتلاشى فيه الحدود، تظل الذاكرة البشرية، ببعديها البصري والسمعي، أحد أهم الأصول الاستخباراتية. إنها ليست مجرد قدرة على الحفظ، بل هي أساس الفهم، التحليل، والاستنتاج. من تذكر وجه مشتبه به في حشد، إلى تمييز نبرة صوت تكشف عن مؤامرة، تعمل الذاكرة بجد في الخفاء لتشكيل الصورة الكاملة التي يعتمد عليها صناع القرار لحماية الأمن القومي.
إن الاستثمار في تدريب وتعزيز هذه القدرات، ودعمها بالتقنيات الحديثة، ليس ترفاً، بل ضرورة قصوى. فبينما تتطور أدوات جمع المعلومات، يبقى العقل البشري، بذاكرته الفريدة والمتطورة، هو المحرك الأساسي وراء كل نجاح استخباراتي، والدرع الأقوى الذي يحمي الأوطان من التهديدات الخفية.

علم النفس والمخابرات: فهم العقل البشري
يُعد علم النفس ركيزة أساسية في العمل الاستخباراتي، فهو لا يساعد فقط في فهم الذاكرة، بل يمتد ليشمل فهم السلوك البشري، الدوافع، وكيفية التأثير على الآخرين.
• علم النفس المعرفي: يركز على عمليات التفكير، الإدراك، الذاكرة، حل المشكلات، وصنع القرار. في المخابرات، يساعد في فهم كيفية معالجة الأفراد للمعلومات، وكيف يمكن للتوتر أو الضغط أن يؤثر على القدرات المعرفية.
• علم النفس الاجتماعي: يدرس كيفية تأثير الأفراد على بعضهم البعض. يفيد في فهم ديناميكيات الجماعات الإرهابية، أساليب الإقناع، وكيفية بناء العلاقات مع المصادر (التجنيد).
• علم النفس الجنائي والتحقيقي: يطبق مبادئ علم النفس في التحقيقات الجنائية والاستجوابات، مما يساعد في تحليل سلوك المجرمين والمشتبه بهم، وتطوير استراتيجيات فعالة لاستخلاص المعلومات.
• علم النفس السلوكي: يركز على فهم السلوك الملاحظ وكيف يمكن تعديله. يُستخدم في تحليل أنماط سلوك الأهداف، وكشف الأكاذيب، وحتى في تصميم برامج التدريب لتحسين الأداء البشري.

البرمجة اللغوية العصبية (NLP) والمخابرات: قراءة العقول وتوجيهها
تُستخدم البرمجة اللغوية العصبية (NLP) في بعض جوانب العمل الاستخباراتي، رغم الجدل حول مدى فعاليتها العلمية الكاملة. تركز NLP على العلاقة بين اللغة، الأنماط العصبية، والسلوك.
• فهم أنماط التفكير: تساعد NLP في ملاحظة أنماط اللغة الجسدية، تعابير الوجه، وأنماط الكلام التي قد تعكس طريقة تفكير الشخص أو حالته العاطفية. هذا يمكن أن يكون مفيدًا في الاستجوابات أو التقييمات النفسية.
• بناء الألفة والتأثير: تعلم NLP العملاء كيفية بناء الألفة بسرعة مع الأفراد (Rapport Building) من خلال محاكاة لغة الجسد، نبرة الصوت، أو استخدام الكلمات المشتركة. هذا يمكن أن يسهل عملية جمع المعلومات أو التجنيد.
• كشف التناقضات: من خلال ملاحظة الاختلافات بين ما يقوله الشخص وما تظهره لغة جسده أو نبرة صوته، يمكن لعملاء المخابرات المدربين على NLP كشف علامات الكذب أو الإخفاء.

أنواع علوم المخابرات: منظومة متكاملة
المخابرات ليست علماً واحداً، بل هي منظومة متكاملة من التخصصات التي تتداخل وتتكامل لتكوين الصورة الاستخباراتية الشاملة.
• الاستخبارات البشرية (HUMINT): تعتمد على جمع المعلومات من خلال الاتصال البشري المباشر (مصادر، عملاء، استجوابات). هنا تتجلى أهمية الذاكرتين البصرية والسمعية في تذكر التفاصيل الحوارية والشخصية.
• استخبارات الإشارات (SIGINT): تشمل اعتراض وتحليل الاتصالات الإلكترونية وإشارات الراديو. تتطلب ذاكرة سمعية قوية للتعرف على الأصوات، أنماط التشفير، والترددات.
• الاستخبارات التصويرية (IMINT): تحليل الصور ومقاطع الفيديو من الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار ومصادر أخرى. تعتمد بشكل كبير على الذاكرة البصرية لتمييز التغيرات والأنماط.
• الاستخبارات مفتوحة المصدر (OSINT): جمع وتحليل المعلومات المتاحة للعامة (الإنترنت، وسائل الإعلام، المنشورات الأكاديمية). تتطلب ذاكرة قوية لربط المعلومات المتناثرة وتحديد مصداقيتها.
• الاستخبارات الفنية (TECHINT): تحليل الأسلحة والمعدات والتكنولوجيا التي يستخدمها الأعداء. تتطلب ذاكرة بصرية لتمييز المكونات والوظائف.
• الاستخبارات المالية (FININT): تتبع وتحليل التدفقات المالية لكشف الأنشطة غير المشروعة.

هل المخابرات غريزة أم علم يدرس في الأكاديميات؟
المخابرات ليست غريزة خالصة، بل هي في الأساس علم يدرس ويصقل من خلال التدريب المنهجي والتجربة العملية. بينما قد يتمتع بعض الأفراد بحدس فطري أو قدرات ملاحظة عالية (الغريزة)، فإن هذه المهارات تُصقل وتُوجه ضمن إطار علمي منهجي لتصبح فعالة في العمل الاستخباراتي.
• علم يدرس في الأكاديميات: تُقدم العديد من الجامعات والمعاهد العليا حول العالم برامج ودراسات في مجال الاستخبارات، تغطي:
o نظريات جمع وتحليل المعلومات.
o علم النفس السلوكي والمعرفي المرتبط بالاستخبارات.
o العلوم التكنولوجية (الاستشعار عن بعد، الأمن السيبراني، تحليل البيانات الضخمة).
o اللغات والثقافات المختلفة.
o القانون الدولي والأخلاقيات المرتبطة بالعمل الاستخباراتي.
• صقل الغريزة بالتدريب: القدرات الفطرية مثل الملاحظة الدقيقة أو الذاكرة القوية تُعزز بشكل كبير من خلال التدريب المتخصص والتمارين المحاكاة، وتحليل دراسات الحالة، مما يحولها من مجرد غريزة إلى مهارة احترافية يمكن الاعتماد عليها.

أشهر مدارس المخابرات الأمريكية والبريطانية: قلاع المعرفة
تُعرف أجهزة المخابرات الكبرى في العالم بامتلاكها لمؤسسات تدريب عالية المستوى، تُعتبر جامعات متخصصة في فن وعلم الاستخبارات.
• أشهر مدارس المخابرات الأمريكية:
o مركز التدريب الخاص بوكالة المخابرات المركزية (CIA): يُعرف عادة باسم "ذا فارم" (The Farm)، وهو منشأة تدريب سرية للغاية تقع في كامب بيري، فيرجينيا. يتم فيه تدريب ضباط العمليات (العملاء الميدانيين) على جميع جوانب العمليات السرية، بما في ذلك المراقبة، الاختراق، جمع المعلومات، الهروب والنجاة، وصقل مهارات الذاكرة البصرية والسمعية في بيئات واقعية ومضغوطة.
o جامعة المخابرات الوطنية (National Intelligence University - NIU): مؤسسة أكاديمية تابعة لمجتمع الاستخبارات الأمريكي، تقدم درجات علمية متقدمة (ماجستير ودكتوراه) في الدراسات الاستخباراتية للمحللين والمسؤولين. تركز على التفكير النقدي، التحليل الاستراتيجي، ودمج المعلومات من مختلف المصادر.
o مدرسة وكالة الأمن القومي (NSA) للأمن السيبراني: تدرب متخصصين في اعتراض الإشارات وتحليل التشفير والأمن السيبراني، وهي مجالات تتطلب ذاكرة سمعية وبصرية فائقة للتعرف على أنماط البيانات والإشارات المعقدة.
• أشهر مدارس المخابرات البريطانية:
o مدرسة جهاز الاستخبارات السرية (MI6) للعمليات: على غرار "ذا فارم" الأمريكية، لدى MI6 مراكز تدريب سرية خاصة لضباط العمليات. تركز على التدريب العملي المكثف في سيناريوهات واقعية، وتعتبر القدرة على الملاحظة والتذكر والتحليل الفوري من أساسيات التدريب.
o مركز تدريب وكالة الأمن (GCHQ) للإشارات والاستخبارات السيبرانية: يُعرف هذا المركز بتدريبه المتخصص في مجالات التشفير، تحليل البيانات الكبيرة، والتعامل مع الإشارات المعقدة. تتطلب هذه المجالات ذاكرة تحليلية وسمعية قوية.
o الأكاديميات العسكرية والأمنية: على الرغم من عدم كونها مدارس مخابرات بحتة، فإن الأكاديميات العسكرية والشرطية البريطانية تدمج بشكل كبير تدريب الاستخبارات ومهارات الملاحظة والذاكرة ضمن مناهجها لضباط المستقبل.

التدريب الافتراضي بالمحاكاة والتوأمة الرقمية: ركائز نجاح العمليات المخابراتية
مقدمة: تطور التدريب الاستخباراتي في العصر الرقمي
في عالم تتسارع فيه وتيرة التغيرات التكنولوجية وتتزايد تعقيدات التهديدات، لم يعد التدريب الاستخباراتي مقتصراً على الأساليب التقليدية. لقد أصبح التدريب الافتراضي بالمحاكاة والتحول الرقمي، وبالأخص مفهوم التوأمة الرقمية (Digital Twin)، ركائز أساسية لضمان نجاح العمليات المخابراتية. تتيح هذه الأدوات المتقدمة إعداد العملاء والمحللين لمواجهة التحديات الواقعية بفعالية غير مسبوقة، وصقل قدراتهم المعرفية والعملياتية في بيئات آمنة وواقعية.

التدريب الافتراضي بالمحاكاة: صقل المهارات في بيئة آمنة
يُعد التدريب الافتراضي بالمحاكاة منهجاً حاسماً في إعداد أفراد المخابرات، حيث يوفر بيئة غامرة للتجربة والتعلم دون المخاطرة بالأرواح أو الموارد.
• مفهوم التدريب الافتراضي: يشمل استخدام تقنيات الواقع الافتراضي (VR)، الواقع المعزز (AR)، والواقع المختلط (MR) لإنشاء سيناريوهات تدريبية تحاكي البيئات والظروف الواقعية. يتمكن المتدربون من التفاعل مع هذه البيئات كما لو كانوا في الميدان الحقيقي.
• محاكاة العمليات الخاصة: قبل تنفيذ أي عملية خاصة، يتم بناء نماذج ثلاثية الأبعاد دقيقة للمواقع المستهدفة، مثل المباني، الشوارع، وحتى التضاريس الجغرافية. يقوم العملاء "باستكشاف" هذه البيئات الافتراضية بشكل متكرر، مما يرسخ التفاصيل في ذاكرتهم ويجهزهم للظروف الواقعية.
o ترسيخ الذاكرة المكانية والبصرية: يتدرب العملاء على تذكر المداخل والمخارج، العوائق، نقاط التجمع والتغطية، وحتى تفاصيل الإضاءة وتوزيع الأصوات. هذا يعزز الذاكرة البصرية (Visual Memory) لتحديد المعالم والذاكرة المكانية (Spatial Memory) لتحديد المواقع الاستراتيجية.
o تطوير الذاكرة الإجرائية (Procedural Memory): يمارس العملاء تسلسلات الإجراءات والخطوات (مثل دخول مبنى، تفتيش غرفة، التعامل مع الأسلحة) مرارًا وتكرارًا في المحاكاة، مما يحولها إلى ذاكرة إجرائية لا واعية، تُمكّنهم من التصرف بفعالية تحت الضغط.
o اختبار سيناريوهات "ماذا لو؟": تتيح المحاكاة إدخال متغيرات غير متوقعة (مثل ظهور عدو إضافي، تغيير مسار، عطل فني) لاختبار قدرة العميل على التكيف وتذكر الخطط البديلة، وصقل قدرته على اتخاذ القرارات السريعة.
• تحسين الملاحظة والتركيز:
o تصفية المشتتات: تُصمم بيئات المحاكاة لتضمين ضوضاء خلفية ومشتتات بصرية تحاكي الواقع، مما يدرب العملاء على تصفية المعلومات غير الضرورية والتركيز على التفاصيل الحيوية. هذا يعزز الانتباه الانتقائي (Selective Attention).
o التعرف السريع: يتم تدريب العملاء على التعرف الفوري على الأهداف، سواء كانت وجوهاً، أرقام سيارات، أو أصواتاً محددة، في أجزاء من الثانية تحت ضغط الوقت.
• الفوائد الرئيسية للمحاكاة:
o تقليل المخاطر: تجنب تعريض الأفراد والموارد للخطر في التدريبات الواقعية.
o توفير التكاليف: تقليل نفقات التدريب الميداني واللوجستيات.
o التكرار والتخصيص: القدرة على تكرار السيناريوهات بلا حدود وتخصيصها لتناسب احتياجات تدريبية محددة.
o التقييم الدقيق: تسجيل أداء المتدربين وتحليله بدقة لتقديم تغذية راجعة مفصلة وموضوعية.

التوأمة الرقمية (Digital Twin): نموذج حي للمعلومات
تُعد التوأمة الرقمية خطوة متقدمة تتجاوز المحاكاة البسيطة، حيث تنشئ نسخة افتراضية حية ومحدثة باستمرار لنظام أو كائن مادي.
• مفهوم التوأمة الرقمية في المخابرات: تُعتبر التوأمة الرقمية بمثابة "نموذج افتراضي حي" لمنطقة عمليات، مبنى، شبكة اتصالات، أو حتى سلوك مجموعة مستهدفة. يتم تحديث هذا التوأم الرقمي باستمرار ببيانات حقيقية (من الاستخبارات البصرية، السمعية، وغيرها)، مما يعكس الوضع الفعلي في الوقت شبه الحقيقي.
• دورها في نجاح العمليات المخابراتية:
o التخطيط الاستراتيجي المتعمق: بدلاً من مجرد خرائط ثابتة، تتيح التوأمة الرقمية للمخططين رؤية حية للمنطقة المستهدفة، بما في ذلك التغيرات في حركة المرور، الأنشطة البشرية، وحتى الظروف الجوية. هذا يساعد في اتخاذ قرارات تخطيطية أكثر دقة وواقعية.
o المحاكاة التنبؤية (Predictive Simulation): يمكن استخدام التوأمة الرقمية لتشغيل سيناريوهات متعددة والتنبؤ بنتائجها المحتملة. على سبيل المثال، محاكاة رد فعل شبكة إرهابية على عملية معينة، أو تأثير تغيير في الظروف على سلوك الهدف. هذا يتيح للمخابرات "اختبار" الخطط افتراضياً قبل تنفيذها.
o تحسين فهم البيئة المعقدة: في العمليات الحضرية المعقدة، يمكن للتوأمة الرقمية أن تعرض طبقات متعددة من المعلومات (البنية التحتية، شبكات الصرف الصحي، التغطية الخلوية) في نموذج واحد، مما يساعد المحللين على فهم الترابطات المعقدة وتحديد نقاط الضعف أو القوة.
o إدارة الأزمات والاستجابة السريعة: في حالات الأزمات، يمكن تحديث التوأمة الرقمية بالبيانات الحية من الميدان (صور، فيديوهات، تقارير) لتوفير صورة شاملة وفورية للوضع، مما يُمكّن فرق الاستجابة من اتخاذ قرارات سريعة ومستنيرة.
o صيانة الأنظمة السرية: يمكن إنشاء توأم رقمي لأنظمة التجسس أو المراقبة المعقدة (مثل طائرة بدون طيار متطورة أو نظام تنصت). هذا التوأم يسمح بمراقبة أداء النظام، التنبؤ بالأعطال، وحتى إجراء صيانة افتراضية قبل تطبيقها على النظام الحقيقي.

الذاكرة البشرية في عصر المحاكاة والتوأمة الرقمية
على الرغم من الدور المتزايد للتكنولوجيا، تظل الذاكرة البشرية هي المحور الأساسي الذي تتكامل معه هذه الأدوات.
• دور الذاكرة في استيعاب التوأمة الرقمية: يتطلب التعامل مع التوائم الرقمية الضخمة ذاكرة بصرية ومكانية قوية من المحللين لاستيعاب كميات هائلة من المعلومات والربط بينها. التكنولوجيا تقدم البيانات، لكن العقل البشري هو الذي يفسرها ويضعها في سياقها.
• التعلم المعزز بالخبرة: المحاكاة والتوأمة الرقمية توفر تجارب غنية تُعزز الذاكرة العرضية (Episodic Memory) للعملاء، مما يسمح لهم بتذكر تفاصيل سيناريوهات محددة "كأنها حدثت بالفعل"، وهذا يعزز قدرتهم على التكيف في الظروف الحقيقية.
• الذاكرة التشغيلية تحت الضغط: التدريب في بيئات المحاكاة عالية الضغط يحسن من أداء الذاكرة التشغيلية (Working Memory) للعملاء، مما يمكنهم من معالجة المعلومات واتخاذ قرارات حاسمة في لحظات قليلة، حتى في ظل الإرهاق أو التوتر.

تحديات تطبيق التدريب الافتراضي والتوأمة الرقمية
• تكلفة التطوير والصيانة: تتطلب هذه الأنظمة استثمارات كبيرة في البرمجيات، الأجهزة، وتحديثات البيانات المستمرة.
• التعقيد التقني: يتطلب تشغيل هذه الأنظمة وتطويرها فرقاً متخصصة من المهندسين وخبراء البيانات.
• الحاجة إلى بيانات دقيقة: جودة التوأمة الرقمية والمحاكاة تعتمد بشكل كامل على دقة وشمولية البيانات المدخلة إليها.
• مخاطر الأمن السيبراني: يجب حماية هذه الأنظمة الحساسة من الاختراق أو التلاعب بالبيانات.

مستقبل المخابرات بين الواقع والافتراض
يمثل التدريب الافتراضي بالمحاكاة وتطبيقات التوأمة الرقمية تحولاً نوعياً في قدرات أجهزة المخابرات. إنها لا تقتصر على مجرد تزويد العملاء بالمعلومات، بل تمكنهم من "عايشة" السيناريوهات، واختبار الخطط، وصقل مهاراتهم الإدراكية والعملياتية إلى أقصى حد ممكن. بينما تستمر التكنولوجيا في التطور، ستظل هذه الأدوات أساسية في بناء ذاكرة استخباراتية قوية ومرنة، قادرة على مواجهة التحديات المعقدة والناشئة، وضمان بقاء أجهزة المخابرات في طليعة جهود حماية الأمن القومي. إنها جسر بين النظرية والتطبيق، وبين المعلومة والعمل، مما يجعلها درعاً لا غنى عنه في ترسانة أي جهاز استخباراتي حديث.



#محمد_عبد_الكريم_يوسف (هاشتاغ)       Mohammad_Abdul-karem_Yousef#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفيلسوف تيم هارفورد يتحدث عن الإقناع والاقتصاد الشعبي (الحل ...
- نحو خطة وطنية لإدارة الكوارث
- الفيلسوف نعوم تشومسكي يتحدث عن اللغة والليبرالية اليسارية وا ...
- الفيلسوف راي داليو يتحدث عن الاستثمار والإدارة والنظام العال ...
- الفيلسوف جيريمي غرانثام يتحدث عن الاستثمار في التكنولوجيا ال ...
- الفيلسوف بيتر سينجر يتحدث عن النفعية والتأثير والأفكار المثي ...
- داخل غرف المخابرات السرية (الذاكرة البصرية والسمعية)
- حوار مع المفكر جون غراي يتحدث عن التشاؤوم والليبرالية والتوح ...
- ثمن هيبة إيران النووية
- الأفكار المتناقضة حول الحرية
- نبذة مختصرة عن تاريخ الشرق الأوسط الحديث
- ثورة التجسس
- ‏تجديد النظام العالمي
- ‏ملامح سياسة ترامب في الشرق الأوسط
- ‏تحذير للشباب: قولوا لا للذكاء الاصطناعي
- نحو خطة زطنية لمكافحة الحرائق
- مدرسة شملان - كتاب في حلقات (6)
- للحسنة... معانٍ أخرى
- غير متكافئة: خيبة أمل عمرها 30 عامًا
- مدرسة شملان - كتاب في حلقات(5)


المزيد.....




- خلال لقاء تبون وميلوني.. اتفاق بين إيطاليا والجزائر لمكافحة ...
- أجسادٌ صغيرةٌ هامدة.. الغزّيون يودّعون أطفالهم الذين قضَوا ف ...
- محذرًا من تسييس الاستخبارات.. أوباما يخرج عن صمته ويصف اتهام ...
- العدل الدولية: عواقب تغير المناخ وخيمة والتعويضات حق للدول ا ...
- طواف فرنسا: جوناثان ميلان يفوز بالمرحلة 17 من السباق ويحتفظ ...
- اتهامات بذبح الحمير وبيع لحومها في -عاصمة الشواء- المغربية
- فيديو حصد ملايين المشاهدات.. هل رحّلت أميركا سجناء -سيئي الس ...
- إسطنبول تستضيف جولة جديدة من مفاوضات -صعبة- يين روسيا وأوكرا ...
- ارتفاع الشهداء الصحفيين بغزة إلى 231 بعد مقتل صحفية و5 من أب ...
- خبير عسكري: عملية رفح رد بالنار على -المدينة الإنسانية- التي ...


المزيد.....

- شعب الخيام، شهادات من واقع احتجاجات تشرين العراقية / علي الخطيب
- من الأرشيف الألماني -القتال في السودان – ينبغي أن يولي الأل ... / حامد فضل الله
- حيث ال تطير العقبان / عبدالاله السباهي
- حكايات / ترجمه عبدالاله السباهي
- أوالد المهرجان / عبدالاله السباهي
- اللطالطة / عبدالاله السباهي
- ليلة في عش النسر / عبدالاله السباهي
- كشف الاسرار عن سحر الاحجار / عبدالاله السباهي
- زمن العزلة / عبدالاله السباهي
- ذكريات تلاحقني / عبدالاله السباهي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عبد الكريم يوسف - الذاكرة في العمل الاستخباراتي، محمد عبد الكريم يوسف