ليث الجادر
الحوار المتمدن-العدد: 8387 - 2025 / 6 / 28 - 08:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
───
لم تكن المعارضة في العراق يومًا طيفًا خارجيًا عن جسد الدولة، بل ظلّت لعقود مرآة تعكس توازن القوى الداخلية، وانقساماته الطبقية والطائفية والإيديولوجية. منذ نشأة الدولة الحديثة وحتى سقوط البعث، تنوعت أشكال المعارضة وتغيرت طبيعتها، لكنها لم تغب.
اليوم، في عراق ما بعد 2003، تلوح مفارقة صارخة: الدولة قائمة، الفساد مستشرٍ، التفاوت الاجتماعي فادح، لكن المعارضة غائبة أو مشلولة. كيف حدث هذا؟ وما الذي جعل مفهوم المعارضة في العراق الحديث عاجزًا عن أن يولد من رحم الخراب؟
هذا البحث هو محاولة للقبض على لحظة الانقراض هذه، ليس بوصفها حدثًا، بل بوصفها سيرورة ممتدة قادت إلى تلاشي شروط الفعل السياسي الحقيقي.
المعارضة السياسية ليست ترفًا ديمقراطيًا، بل تعبير عن وجود موازين قوى تتنازع شرعية القرار والموارد والمعنى. وحين تُختَزل الدولة إلى موزع ريعي، وتُختزَل السياسة إلى توزيع ولاءات، تتآكل ضرورة المعارضة بوصفها صراعًا عقلانيًا على السلطة.
الدولة الريعية، التي لا تستمد قوتها من الإنتاج، بل من الخارج (النفط، المساعدات، الهيمنة)، تفرغ السياسة من جوهرها، وتحول المواطن إلى مستهلك امتياز، لا إلى حامل مطلب. بهذا المعنى، تَعرِف الدولة العراقية بعد 2003 نمطًا خاصًا من "إعدام السياسة": حيث تُدار الحياة العامة وفق معادلة: مزيد من الصمت مقابل مزيد من الفتات.
وتحت هذه المعادلة، لا تنعدم المعارضة تمامًا، لكنها تُحوَّل إلى احتجاجات موقّتة، أو إلى تمثيلات مستوعبة داخل بنية الحكم، أو إلى يأس مطبق.
إن سؤال "ما العمل؟" يفترض وجود بنية يمكن التدخل فيها. افتراضُه ذاته رفاهٌ نظري في لحظة جفاف سياسي.
يبدو هذا السؤال وكأنه يُطرح من خارج المشهد، لا من داخله. ففي عراق ما بعد الاحتلال، حيث توزع الحكم على طوائف وقوميات ومصالح ريعية، تَحوَّل الفضاء العام إلى حقل مغلق تُدار فيه اللعبة على قاعدة استرضاء الخارج، وتخدير الداخل.
لكن غياب المعارضة لا يعني تلاشي إمكانها أو دواعيها، بل يعني أن شروطها قد سُحِبت من الأرض وأُودِعت في وهم التمثيل، أو تم تخديرها بالهوية، أو تم تفتيتها بالبطالة والتديّن والفساد.
اذن ..ما العمل؟
إن سؤال "ما العمل؟" لا يبحث عن جواب تقني، بل عن ملامسة للوجع الحقيقي، عن استجابة للمناخ النفسي المقموع لطبقة مسحوقة تئن ولا تنطق، وتطلب ولا تتوقع.
في هذا السياق، العمل لا يبدأ من "برنامج"، بل من الإنصات، من التقاط الإشارات اليومية التي تُعبّر بها الطبقة المسحوقة عن حاجتها إلى من يترجم ألمها إلى بنية.
ما من نخبة تُخلَق أولًا لتقود، ثم تعمل. النخبة ليست سلطة بديلة، بل هي سيرورة تشكُّل طويلة، تبدأ من لحظة التماس الحيّ مع تجربة القهر، لا من إعلان البيان.
وفي ظل دولة ريعية أعدمت الإنتاج، وهمّشت الطبقة، وبدّدت إمكانيات الوعي الجمعي، فإن أي محاولة لـ"تشكيل نخبة" مسبقة لن تكون إلا صورة أخرى من صور القفز على الواقع.
لكن هذا لا يعني الاستسلام، بل الفهم الدقيق لنقطة البدء: إن العمل يبدأ من حيث تُكسر طمأنينة السلطة بمطالب بسيطة. من حيث يُعاد تسمية الألم، لا تمثيله. من حيث تنشأ استجابات عملية لحاجات مُلحة، لا شعارات كبرى.
وهنا، تتشكل النخبة، لا ككيان، بل كأثر متراكم. لحظة تصادمية، تفتح ثغرة في جدار الصمت، وتمنح الحس الجماعي فرصة التكوين.
لا يبدأ الوعي من منصة، بل من صرخة مكبوتة. من لحظة انكسار لا تُرى، ومن إحساس باطني بأن الصمت لم يعد كافيًا.
المبادرة، في سياقنا، ليست خطة عمل، ولا مشروعًا سياسيًا ينتظر الترويج. إنها اللوغوس: الصوت الذي يتردد في الذات قبل أن يُعلن، الكلمة التي لم تكتمل بعد لكنها تتراكم كيقين داخلي.
نحن لا نبحث عن ممثلين للطبقات المهمشة، بل عن أفراد يملكون الجرأة على الإصغاء لذواتهم وهم يتكلمون تحت الركام.
اللوغوس هنا ليس فكرة جاهزة، بل انفعال واعٍ. لحظة تقاطع بين التجربة والانتباه، حيث لا يعود السكوت فضيلة، ولا يكون الصراخ عبثًا.
أساس وعي المبادرة هو الصمت المتحول. حين يغدو السكوت صوتًا، والتأمل فعلًا، والمعاناة معرفة.
لم تعد "المعارضة" في العراق ممكنة ضمن التصور التقليدي الذي يفترض مركزًا سياسيًا تنبثق منه، وتستهدفه. فالمركز نفسه، بعد 2003، فقد دلالته كحاكم فعلي، وغدا ساحة تفاهمات فوقية بين قوى ما دون الدولة، وقوى فوق الدولة. وكل محاولة لتشكيل معارضة "مركزية" شاملة، إنما تصطدم بعدم وجود مركز فعلي يمكن معارضته.
المعارضة العراقية، يومًا ما، كانت ترتكز على وهم وجود "دولة وطنية" يُعقل معارضتها من داخل مركز القرار. غير أن ما نشهده منذ عقدين، هو تحلل المركز نفسه إلى توازنات طائفية ومناطقية أفرغت الفضاء السياسي من أي إمكانية لصراع حقيقي على السلطة. من هنا، فإن غياب المعارضة لا يعني غياب المظلومية، بل غياب مركز تُعقل من خلاله المواجهة.
إن مراكز الغضب الحقيقي لا تكمن في بغداد، بل في تخومها:
- الجنوب، بمدنه الخدِجة في البصرة والناصرية، يمثل بؤرة احتجاجات لا تنضب، لكنها معزولة عن التمثيل السياسي.
- كردستان، رغم تمتعها بالحكم الذاتي، تحوي معارضة داخلية مختنقة، محكومة بقبضة الحزبين الكبيرين.
- بغداد، لم تعد مركز القرار، بل مجرد جغرافيا مشاع بين أذرع إيران والأحزاب التقليدية.
ما من صيغة رسمية تُعلن أن العراق كونفدرالية، لكن الواقع يصرّ على ذلك. فالإقليم الكردي يتمتع بكامل أدوات الدولة، والجنوب يُدار كإقطاعيات حزبية منفصلة، والسنة يعيشون في فراغ سياسي وأمني مزمن.
وبينما يحتفظ الدستور بشعار "الوحدة"، فإن الجغرافيا السياسية تُعاد هندستها كل يوم بحدود صامتة، وبنقاط تماس واقعية، حيث لا قرار مركزي نافذ دون وساطة زعيم محلي.
الاحتجاجات العراقية لم تكن يومًا مؤدلجة بشكل راسخ، بل إن أهم موجاتها — من 2011 إلى 2019 — عبّرت عن وعي شعبي رمزي، أكثر منه تنظيمي. الغضب كان موجّهًا ضد التهميش والفساد والبطالة، لا باسم اشتراكية أو ليبرالية.
المعارضة هنا لم تكن تسعى إلى استلام السلطة، بل إلى إعادة تسمية الألم، وإحراج السلطة. إنها مقاومة رمزية، تزعزع شرعية الصمت، لكنها لا تزعم امتلاك برنامج شامل.
رغم تعدد هذه المعارضات الجهوية، تبقى هناك إمكانات موضوعية للتلاقي — لا للوحدة. التلاقي لا يقوم على توحيد الشعارات، بل على التنسيق في المطلب، وفي التوقيت، وفي تقنيات الضغط.
الطائفية، بالنسبة لأي مشروع معارض، تشكل الحقل الألغامي الأشد فتكًا. لكن الخطأ الجذري هو تصور الطائفية بوصفها جوهرًا لا يمكن تجاوزه.
الواقع أن الطائفية كانت وتظل أداة تعبئة فعالة، لكن استخدامها ليس قدرًا. بل إن بعض التعبيرات الاحتجاجية لجأت إلى انتماءاتها الطائفية لتنتج نقدًا داخليًا شرسًا ضد السلطة — كما في الجنوب.
هل المطلوب اليوم معارضة الدولة، أم تجاوزها؟ إن التعويل على إصلاح الدولة المركزية يبدو ضربًا من الإنكار. فالدولة القائمة لم تعد قابلة للإصلاح، لا لأنها مستبدة فقط، بل لأنها مفككة وظيفيًا.
ولذا فإن المشروع المعارض الواقعي هو ذاك الذي يعيد تعريف الدولة كمجال تفاوض، لا كمركز طاعة. هذا يعني الاعتراف بأن الشكل الكونفدرالي غير المعلن هو الواقع، والعمل ضمنه، لا ضده.
كل ما ورد في هذا العمل، من تحليل لانقراض المعارضة، وتفكيك لشروط العمل، واستشراف إمكانات النهوض، إنما هو مقيد بشكل صارم بالواقعية السياسية، تلك التي تفرض علينا التعامل مع الدولة العراقية بوصفها كيانًا قائمًا، له بنية ومؤسسات وحدود ومسؤولية سيادية موهومة أو فعلية.
هذه الواقعية، تلزمنا بالتعامل مع المعارضة كـ"صوت الشعب"، لكن ما وراءها تتوارى حقيقة تفيد أن العراق في جوهره يتشقق: هناك كيانان سياسيان متمايزان، بل متناقضان.
وما ورد هنا، رغم استناده للواقعية، يبقى وصفًا تجريديًا يحتفظ بقيمته فقط من حيث توصياته الفكرية. فالمبادرة، ما دامت أسيرة بنية الحكم الطائفي أو العرقي، ستظل مختطفة كما كانت حركة تشرين.
وبالنسبة لكاتب هذه السطور، فإن واحدة من أهم المآخذ الثورية على تشرين أنها مثّلت قمة النرجسية الطائفية المقنّعة.
هذا النص لا يدّعي تقديم خارطة طريق، بل يرسم الخط الفاصل بين ما هو مأمول وما هو ممكن. ويراهن على أن اللوغوس السياسي، إن بقي صادقًا مع نفسه، سيعثر على لحظته المادية مهما تأخرت
#ليث_الجادر (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟