أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (1)














المزيد.....

الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (1)


رياض سعد

الحوار المتمدن-العدد: 8383 - 2025 / 6 / 24 - 09:55
المحور: الادب والفن
    


طالما كتبتُ على مضض، وأحيانًا يخيل إليّ أن قطرات الحبر تنساب في شراييني كالسُّم الزعاف، أتجرعه رغم أنفي، ويقتلني رويدًا رويدًا. وقد فكرتُ كثيرًا في الهروب من القرطاس والقلم، لكن الكتابة، كالقضاء والقدر، لا انفكاك عنها لمن خبرها وتجرّع غُصصها.
فالكتابة ليست هواية عابرة بالنسبة إليّ، بل قَدَرٌ مكتوب، ومسؤولية إنسانية، وأخلاقية، ووطنية سامية... ؛ فهي ليست حروفًا تُنقش على ورق فحسب، بل هي أمانة جسيمة، وتبعة ثقيلة، لا ينهض بها إلا أصحاب الضمائر الحيّة، وذوو البصائر الثاقبة.
الكتابة الحرة ليست ترفًا ولا شرفًا ولا تمرينًا بلاغيًا، بل نداء باطنيّ، وحِملٌ ثقيل، لا يقوى عليه إلا أولئك الذين جعلوا من ضمائرهم منابر، ومن عقولهم موازين للعدل، ومن أحبارهم دماءً تسيل لأجل الإنسان وكرامته.
إن الكاتب الحقيقي لا يُكتب بمداد الحبر، بل بوهج التجربة، ودم القلب، وجراح الوطن... ؛ ومن خلالها يُعرف الكاتب الحق من الدعيّ، وتُعرف رفعة الكاتب أو خِسّته، وتُميّز قوة قلمه من انكساره، وصدق يراعه من كذبه وتدليسه.
فيها يتبين علوّ همة الكاتب أو دناءة قصده، ويُقاس بها متانة سنده الفكري أو انهيار بنيانه الأدبي... ؛ فالكتّاب الكبار يحملون أقلامهم كأنها سيوفٌ في وجه الزيف والظلم والباطل، يسطرون بها القضايا المصيرية، وينيرون بها العتمات والظلمات التي تحيط بأممهم وشعوبهم واقوامهم ... ؛ يطرحون الحلول، ويصفون العلاجات، كأنهم أطباءٌ لجراح المجتمع، وآماله المكبوتة، وعقده المستعصية.
هؤلاء لا يبددون مدادهم في اللهو والسّطحية والتفاهة، بل يكرّسونه لأهم القضايا الوطنية والإنسانية... ؛ يسبرون أغوار هموم الناس، ويسلّطون الضوء على تطلّعاتهم، ويجتهدون في تقديم رؤى خلاّقة لمعالجة مشكلاتهم المزمنة.
وفي زمنٍ تعصف به الرياح الطائفية والعنصرية والقومية والمناطقية والفئوية والحزبية، وتنهشه النزعات العشائرية والسياسية والدينية والاجتماعية والولاءات العابرة للحدود، لا يعود للكتابة معنى إن لم تكن جسرًا بين وجدان الكاتب وضمير شعبه.
فالكتابة الحرة ليست مهنة من أراد السلامة، بل اختبارٌ أخلاقيٌّ عسير، لا يجتازه إلا من نذر قلمه للحقيقة، ووجدانه للوطن.
نعم، الكتابة الحرة ليست مهنة الهاربين من الحياة، ولا هواية المتنطّعين على شواطئ الفكر؛ إنها نارٌ في الجوف، لا تنطفئ إلا بالحبر، وجراح لا تندمل إلا على الورق، وصراع داخلي متجدد بين ما نراه، وما ينبغي أن نراه، بين ما كنا نؤمن به، وما يجب أن نعيد النظر فيه.
فها أنا أكتب، لا لأنني أملك الحقيقة، بل لأنني أنهكني الصمت.
أكتب، لا لأنني أطمح إلى نجومية كاذبة أو علاقات نفعية زائفة، بل لأنني أخجل من نفسي إن مرّ يوم دون أن أضع إصبعي على جرحٍ عراقيٍّ ينزف، أو أضمّد ذاكرةً وطنيةً تئنّ من التشويه والتزييف، أو أزيح ركام الأكاذيب والافتراءات عن هويةٍ أريد لها أن تُبعث من رمادها، لا أن تُدفن فيه.
الكتابة الحرة مسؤولية عظيمة، وقبل ذلك هي محكمة ضمير، ومنبر صدق، وهي ـ في زمننا هذا ـ فعل مقاومة ونضال وجهاد ... ؛ فالكاتب الحر ليس من ينسج العبارات ويردد الشعارات، بل من يوقظ العقول، ويشحذ الأذهان بالوعي، ويزعزع اليقينيات المتخشبة، ويغرس في وعينا المغيّب حبةَ شكٍّ تُثمر وعيًا حيًّا فاعلًا مثمرًا.
أكتب وفي قلبي غصة، وعلى لساني مرارة، وبين أصابعي قلقٌ يتأرجح بين الكتابة والصمت، بين قول الحقيقة أو الركون إلى سلامة الخرس.
لكن، هل من خلاصٍ إلا بالكتابة؟ وهل من تطهيرٍ إلا بالصدق؟ وهل من بعثٍ لوطنٍ ممزقٍ إلا من خلال عقولٍ لا تخاف، وقلوب لا تجامل، وألسنة لا تهادن؟
إن الكتابة الحرة ليست مهنة العابرين، بل هي قَدَر الذين أبصروا الحقيقة في ليل الخداع، وقرروا أن يكونوا منارةً في العتمة.
ومن هذا المنطلق أكتب: لا طمعًا في ثناء، ولا خشيةً من هجاء، بل بدافعٍ من ضميرٍ عراقيٍّ جريح، ومن عشقٍ قديمٍ لهذا الوطن الذي لا يملّ من الجراح، ولا يتعب من النهوض.
أنا أكتب لا لأنني بارعٌ في الحروف، بل لأنني موجوعٌ بالحقيقة، مثقلٌ بالذاكرة، محاصرٌ بوطن أسير .
أكتب لا عن ترفٍ ثقافيّ، أو موهبة مستعرضة، بل لأن الكتابة ـ كما ينبغي أن تكون ـ مسؤولية أخلاقية، ووظيفة وطنية، وصرخةٌ ضدّ الخراب والدمار ، وأداةُ استنهاضٍ لا تهادن.
ومن خلالها يُعرف معدن القلم، وتُقاس قامة الكاتب: هل هو حاملٌ للحقائق؟ أم متواطئٌ مع التزييف؟



#رياض_سعد (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العراق أولاً: الوطنية كميزان للعلاقات الخارجية والانتماء الح ...
- الهوية العراقية بين التعدد والتماسك
- الجولاني: عميل بصيغة -ثائر-.. من سجون الاحتلال إلى حضن الاست ...
- أنت لستَ فاهمًا، ولا أنا جاهلٌ
- معاداة الشيعة.. عقدة مستعصية و عداء بلا منطق و-إيران- مجرد ذ ...
- الهوية المستلبة : استغلال الاغلبية العراقية بين الطقوس الدين ...
- دور الأموال في تغيير القناعات وشراء الذمم : الانتخابات بين ا ...
- في زمن العبث والانكسار... حين يغدو الزيف قانوناً
- عصابات الجولاني في خدمة الاستكبار : من تواطؤ معلن إلى عدوان ...
- تداعيات الاعتداءات الإسرائيلية على ايران
- بين سحر الجماعة وكآبة الهُوة الفردانية
- الحرب الاقتصادية : سلاح صامت دمّر العراق بصمت أشد من دوي الم ...
- عينٌ في كفّ الشرطي... والعراق أعمى ؟!
- حين تُصبح الجماعة عبئًا... عُزلة الإنسان كخلاص
- إبراهيم الناجي الكوفي.. درويش الدعوة وصوفي المنافي
- لأنك عراقي .. انتخب
- هدايا صدام للرئيس المصري حسني وزمرته : كرمٌ مشبوه على حساب ا ...
- كارثة التجنيس في العراق: حين تُهدَر الهوية وتُمنح الأرض للغر ...
- إشكالية رواتب المكونات العراقية بين الاستحقاقات الفعلية والم ...
- الطفولة: بذور الصراع النفسي وأثرها في تشكيل الهوية الشخصية


المزيد.....




- سينمائيون إسبان يوقعون بيانًا لدعم فلسطين ويتظاهرون تنديدا ب ...
- وفاة الفنانة التركية غُللو بعد سقوطها من شرفة منزلها
- ديمة قندلفت تتألق بالقفطان الجزائري في مهرجان عنابة السينمائ ...
- خطيب جمعة طهران: مستوى التمثيل الإيراني العالمي يتحسن
- أعداء الظاهر وشركاء الخفاء.. حكاية تحالفات الشركات العالمية ...
- طريق الحرير.. القصة الكاملة لأروع فصل في تاريخ الثقافة العال ...
- جواد غلوم: ابنة أوروك
- مظاهرة بإقليم الباسك شمالي إسبانيا تزامنا مع عرض فيلم -صوت ه ...
- ابتكار غير مسبوق في عالم الفن.. قناع يرمّم اللوحات المتضررة ...
- طبيبة تمنح مسنة لحظة حنين بنغمةٍ عربية، فهل تُكمل الموسيقى م ...


المزيد.....

- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى
- يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رياض سعد - الكتابة كقَدَر: من حبر الذات إلى وجع الوطن (1)