أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - الفراغات ذات الهواء الموبوء














المزيد.....

الفراغات ذات الهواء الموبوء


خيرالله قاسم المالكي

الحوار المتمدن-العدد: 8355 - 2025 / 5 / 27 - 08:18
المحور: الادب والفن
    


الوحشة لم تكن غريبة، بل وجعٌ يختار أحلامه بعناية، ويصنع منها مأوى مؤقتًا في عالم يعج بالضوضاء والصخب.
يحطّ جسده في كل زاوية ومكان، يرسم الشتات على صفحات أيامه، في يومٍ ملوث بالمطر.

لم يكن يعلم متى دخل.
كل ما يذكره باب خشبيّ قديم فتحه ذات مساء ممطر.
كان حذاؤه يبتلّ من الداخل، ثقيلًا كأنه يحمل وزر نواياه.
ربما جاء من الصواب إلى الخطأ،
أو من الخطأ إلى خطأ آخر.
بين الهروب والعودة لا فرق، كلاهما وجهان لتيهٍ واحد.



الغرفة كانت مثقبة في وسطها، الكرسي محفور في الجدار، والطاولة المربعة تميل كما لو أنها تنتظر انهيارًا أخيرًا.
لم تكن الغرفة صغيرة، لكنها تنكمش.
جدرانها متآكلة، لونها بلا اسم، كأنها تعب تجسّد.
الهواء فيها ثمل، ساكن، تفوح منه رائحة التراب والعفن والحبر القديم.
كأن المكان يتذكّر ما لا يُقال.

اتخذ ركنًا منعزلًا يشبه حضنًا باردًا.
على الجدار المقابل، ساعة جدارية رقّاصها لا يتحرك.
تشير دومًا إلى وقت ميت: 3:17.
زمن لا يقرأه إلا من أدمن النظر في نسيج الساعات وندوبها.

هذا الرقم—الساكن، المريب—صار بوابة شك:
هل كانت تلك لحظة دخوله؟ نسيانه؟ موته؟

أسفل الساعة، على الأرض، رسوم متشابكة من الطباشير،
دوائر ومربعات كأنها طلاسم، أو قفص يُرسم دون وعي.



في الطرف الآخر، مكتب مائل.
فوقه كتابان:
أحدهما مغلق بإحكام،
والآخر مفتوح على صفحة وحيدة، كُتب فيها:
“لا تَرسم إلا حين تريد الانهزام.”

لم يعرف إن كان خطه، لكنه فهم المعنى.
المرآة المعلقة على الجدار البعيد كانت مشقوقة من الحافة العليا.
ليست كمرآة العجلات التي تُقرّب البعيد وتُبعِده،
بل كانت تُبدّل رؤيته لذاته.

كلما نظر فيها، تغيّر الانعكاس.
أحيانًا يرى امرأة بعين واحدة،
وأحيانًا صبيًّا يعضّ أظافره،
وفي لحظاتٍ نادرة… يرى نفسه بلا فم.



في ليلة مكتظة بالرياح والتراب، سمع خطوات خلف الجدار.
كأن أحدهم يسير خلف عالمه، يبحث عن الباب.

ثم جاء الصوت، خافتًا، متقطعًا:
“أسامة.”

ارتعد.
لم يسمع اسمه منذ زمن.
أجاب بصوت مختنق:
“من هناك؟”

لكن الجدار امتصّ السؤال، كما لو كان يُعاقب الصوت على جرأته.



الغرفة كانت تنبض بحيوات خفية.
في الزاوية البعيدة، كائن صغير هلامي يتنفس بلا شكل.
كان يسميه “الآخر”.
لم يكن يخافه، بل شعر بشبهٍ خفيّ بينهما.
كانا يتبادلان الصمت، والهمسات، والارتجافات.

وفي إحدى الليالي، سأله الآخر:
“متى كنت حرًّا… وعادت نفسك إليك؟”

لم يُجب.
وفي اليوم التالي، بدأ الجدار يتآكل أكثر.



لم تكن الأشياء راكدة، بل تكرّر نفسها بتعبٍ.
القطرات المنهالة من السقف،
الصمت العالق بين الكلمات،
الرغبة في الصراخ ثم الارتداد،
وحتى القصاصة تحت المكتب،
تظهر كل مرة بشكل مختلف:
• “هنا مكانك الذي لا تريد مغادرته.”
• “وجودك هنا هو رغبة الخارج في بقائك.”
• “المكان يحبك… ولا يرغب في فراقك.”

لكنه لم يصدق أيًا منها.
كان يصارع ذاكرته: اسم، وجه، حدث.
كلما اقترب من التذكّر، ضاق تنفسه.
كأن الحقيقة كانت تتنفس بدلاً عنه، وتستهلك ما تبقى من هواء الغرفة.



وفي إحدى الليالي، وهو نائم على سريره الخشبي المتهالك، شعر بشيء تحت وسادته.
لم تكن هناك وسادة من قبل.
تحسّس، فوجد مفتاحًا قديمًا، مغطّى بطبقة من الزنجار.

عرفه فورًا، رغم أنه لم يرَه من قبل.
لم يكن هناك بابٌ ظاهر، لكن ذاكرته قالت: “الباب لم يختف… لقد اختبأ.”

خلف ستارة مغطاة بالغبار، على الجدار المتصدع، وجد شرخًا كأنه جرح مفتوح.
دنا بخوف، ووضع المفتاح في الفتحة.
لكن قبل أن يديره، همس الآخر:

“سبقتك… أنا الآن طليق في الخارج. من ستكون أنت؟”



تجمّد.
الخوف سكن أطرافه.
شعر كأنه بلا فم، بلا لسان، بلا هوية.

ثم، للمرة الأولى، نظر إلى المرآة بلا رهبة.
ورأى نفسه كما هو:
لا طفل،
لا امرأة،
لا قناع.

فقط هو…
وجهه الحقيقي، المتعب، المليء بالأسئلة.



فتح الباب.



ضوء خافت تسلل إلى عينيه.
هواءٌ نقيّ، لم يعرفه منذ زمن.
لكنه تذكّر: الرائحة القديمة خرجت معه.
فهم، أخيرًا…

الغرفة لم تكن مكانًا.
كانت هو.
وكان هو…
جزءًا منها



#خيرالله_قاسم_المالكي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- - قارءة فنجان في طريق معتق-**
- مدونات
- مزارات
- روح
- صدى
- اقنعة
- ظل
- تساءلات
- غياب
- حضن الضوء
- خطوات متوقفة
- منزل مقيد
- صوت المطر
- مع الايام
- لون العيون
- جدل من الماضي
- شذرات من صفحات دفتر ابدّي
- قيود صديقة
- قنعة ووجوه
- امراة ترقص


المزيد.....




- -أنجز حرٌّ ما وعد-.. العهد في وجدان العربي القديم بين ميثاق ...
- إلغاء مهرجان الأفلام اليهودية في السويد بعد رفض دور العرض اس ...
- بعد فوزه بجائزتين مرموقتين.. فيلم -صوت هند رجب- مرشح للفوز ب ...
- حكمة الصين في وجه الصلف الأميركي.. ما الذي ينتظر آرثر سي شاع ...
- الأنثى البريئة
- هل يمكن للآلة أن تصبح مؤرخاً بديلاً عن الإنسان؟
- حلم مؤجل
- المثقف بين الصراع والعزلة.. قراءة نفسية اجتماعية في -متنزه ا ...
- أفلام قد ترفع معدل الذكاء.. كيف تدربك السينما على التفكير بع ...
- باسم خندقجي: كيف نكتب نصا أدبيا كونيا ضد الإستعمار الإسرائيل ...


المزيد.....

- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- پیپی أم الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - خيرالله قاسم المالكي - الفراغات ذات الهواء الموبوء