أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - لخضر خلفاوي - -الدُّوكسا- Doxa الجنسية: عندما تنزل النساء إلى الشوارع؛لعبة التخفّي و الظهور في مُعطى الجندر















المزيد.....


-الدُّوكسا- Doxa الجنسية: عندما تنزل النساء إلى الشوارع؛لعبة التخفّي و الظهور في مُعطى الجندر


لخضر خلفاوي
(Lakhdar Khelfaoui)


الحوار المتمدن-العدد: 8350 - 2025 / 5 / 22 - 16:13
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


*ملف(دراسات)من إعداد و ترجمة: لخضر خلفاوي
—-
تخبرنا المؤرخة إي ويلسون ؛ أن نساء الطبقة العليا في كوريا في أواخر القرن التاسع عشر انخرطن في نوع من لعبة التخفّي والظهور التي تذكرنا بكتاب المدن غير المرئية لإيتالو كالفينو. و كنّ منعزلات إلى حد كبير في منازلهن، وكنّ يخرجنَ أحيانًا لزيارة أصدقائهنّ. خلال هذه المشاوير ، كنّ يسافرنَ على كراسي أُعدت للغرض متحركة، برفقة نادلات أو فتايات صغيرات يتبعنهنّ جاريات أو ركضًا.. كنّ مجبَرات على البقاء في خدورهنّ غير مرئيات، و بمجرد وصولهنّ إلى فناء المنزل، يتم تركهن في كراسهنّ السيارة، حتى يتمكن من المغادرة دون أن يُلحَظنَ و يُكشفْنَ أو يتم رؤيتهن.
في الليل، بعد إغلاق أبواب الحارات في المدينة، يُمنعُ الرجال من البقاء في الشوارع على عكس النّساء اللائي استولين أو اجتحنَ هذه الأماكن. وكن يتجولن مع صديقاتهن، في مجموعات، مع حماية أنفسهن دائمًا من النظرات المُحرّمة عرفاً و ذلك باستخدام مراوحهن التقليدية، أو بسحبنّ ستراتهن الحريرية لتنكير وجوههن. يمكن أن تكون هذه الصورة بمثابة دعوة مجازية لاستكشاف الديناميكيات الجنسانية للأماكن العامة، هذه الأماكن التي نمر بها بين المساحات الخاصة. ونحن نفهم على الفور التسلسلات الهرمية المطبقة في هذا الاختفاء أو لعبة التخفي، الهشة والمتميزة للمرأة في كرسيها السيّار. و هي هشة في علاقتها بالرجل (الفئة "غير المميزة"، وهو أمر لا داعي لذكره) الذي يجب أن تكون مستعدة للاختباء منه في جميع الأوقات. و تتمتع بامتيازات عن الوجود المرئي "على الأرض" للمرأة التابعة. وأخيرًا، تسلسل هرمي لأزمنة الشارع، حيث تتحول المساحة المحرمة في النهار إلى مكان "طوباوي" من الحرية المقيدة خلال لحظات الليل الموافق عليها.
**
وتضيف الحداثة بعدا آخر للتحديات التي تواجهها الأماكن العامة. وتصبح هذه، على حد تعبير عالم الاجتماع إسحاق جوزيف، "قضية مدنية كبرى في غاية الأهمية.. ومن المفترض أن ترتكز هذه المبادئ على مبدأ فوق مصالح مجموعة معينة على حساب مجموعات أخرى. إن أبعادها المكانية تكشف عن عمل الرابط، حيث تسمح هذه الأماكن بالتعبير عن العلاقات بين ممثلي المجموعات المختلفة، وكذلك بين الفرد والآخر (لأنه إذا كانت الحداثة تزيد من الفردية، وإذا كانت التمثيلات - بما في ذلك الأكاديمية - تريد منا أن نكون مثل الذرات المنتشرة في الفضاء والمعزولة على مسارات متفرّدة، فإننا لا نزال أفراداً في مجتمع). إن ماديتها باعتبارها مكانًا للعبور، أو بوابة بين المساحات الخاصة وأراضي "المجتمع"، تحولها إلى موقع وموضوع لصراعات القوة والاعتراف بين المجموعات. وهذا واضح جداً في حالات الحرب الأهلية حيث تصبح أماكن المرور، والأراضي الممنوعة/ المحرّمة/ أو الأراضي الحرام، هدفاً للقناصة. ولكن لدينا العديد من الأمثلة "المدنية" لهذا المبدأ، من الاحتجاجات ضد الفصل العرقي في الحافلات ودور السينما والمطاعم والمراحيض العامة ضد نظام الفصل العنصري في الجنوب الأميركي في الخمسينيات من القرن العشرين، إلى احتجاجات التنظيم النسوي الفرنسي المشهور الذي يقلب نفسه ب"لا عاهرات ولا خاضعات" لانتزاع مساحات المرور والتداول من واقع العنف الجنسي وقمع المواطنة. من الناحية العملية والتاريخية، يبدو أن المساحات أو الإضاءات العامة للمدن "الحديثة" قد نشأت في الواقع من صراعات ونزاعات ومفاوضات بين المجموعات الاجتماعية، وذلك على وجه التحديد للحفاظ على طابعها المدني ضد أي اتجاه نحو الخصخصة أو الهيمنة أو "الخلوية" الحضرية la « cellularisation »urbaine.
يتضمن هذا استعارة حيلة قديمة من حيل عالم الاجتماع وفحص موقف أو أكثر "سارت على نحو خاطئ" لفهم العمليات الطبيعية للترتيب الجنسي في الفضاء. وكما أننا لا ندرك وجود نافذة لم نلاحظها من قبل إلا عندما نكسرها، فإننا نتمكن بسهولة أكبر من اكتشاف القواعد والقيود الاجتماعية بمجرد انتهاكها.
-إن وجود النساء في الشوارع، حتى في أشد حالات الخراب، لا ينبع بالضرورة من استبعاد أساسي لهنّ. إن خروج المرأة بمفردها، أي فعل مغادرة منزلها (عندما يفترض أن لها منزل)، يمكن أن يكون مصدرًا للتناقضات: التحرر، والهروب، والطرد، والتخلي، أو كل هذه -المبررات- مجتمعة في نفس الوقت. ويبدو لي أن هذا هو الحال على المستوى التاريخي والحالي.
من وجهة نظر علم الاجتماع و التاريخ كُتِب من قبل "ميشيل بيرو" ما يلي :أنّ الجانب الإيجابي للظهور الكبير للمرأة الأوروبية الذي رافق الحداثة و الثورة الصناعية والحركات العمالية.
فالخروج متعدد الاتجاهات: كأنّ تذهب النساء البرجوازيات إلى مدينة الفقراء للقيام بالأعمال الخيرية، والنساء العاملات يجلبن شجاعتهن وخيالهن إلى موجة الحركات النقابية، والنساء الفقيرات تهاجرن بحثا عن الأمل و اصطياد فرص التعويض، و الثريّات يسافرنَ للمتعة و إثراء تجاربهن...، ولكن هؤلاء جعلن من كل هذه التعددية في الاتجاهات أداة تكسير أو خرق بدرجة أو بأخرى التطويق الضيق للمجال المنزلي الذي ظلّ طوقهنّ و قيدهنّ الممقوت.
**
لكن قبل قرن من الزمان، كما هو الحال اليوم، لم تكن -جرأة- أو نزعة كتجربة مغادرة المنزل هي نفسها اعتمادًا على المكان الذي جئنَ منه، والموارد التي كنّ يمتلكْنها في الأصل، -والهوية المدمجة التي لم يتمكنَّ من التخلص منها "بسهولة"- كأنّهن أصبحن "الأشياء" الاستهلاكية الجديدة. كتب عالم الاجتماع الألماني جورج سيميل: "هواء المدينة يحررك"، ولكنه كان بإمكانه أن يضيف "بالنسبة للبعض"، أو "بمعنى واحد، ولكن ليس بمعنى آخر". إن مفارقة الحرية الحضرية لا تفلت من قراءة عالم الإجتماع سيميل، ولا من فكر المفكرين الحضريين الذين تبعوه: فالاستقلال والاغتراب هما بعدان لنفس التجربة. ولكن يتعين علينا أن ننتظر قراءة نقدية، ثم نسوية، لفهم إلى أي مدى تدور صورة هذه المدينة التحررية حول موضوعات المرأة الحضرية الفقيرة والدعارة.
**
سيتعين علينا إعادة اكتشاف كتابات الفضائليون أو خبراء "العفاف" للمجتمع الفرنسي أنداك الذي تفشّت فيه "آلام أو أمراض المدينة" و المظاهر التحررية في شخصية المرأة الساقطة. وهذا يشبه حسب وصفهم "بالتلوث الأخلاقي، الذي يهدد بتلويث رمّة المجتمع المحترم. هؤلاء النساء لسن أقل من "مجاري الصرف الصحي، تلك المياه المجاري الأكثر بؤسًا وإثارة للاشمئزاز [...] و رائحة العفن الأكثر إثارة للغثيان و القيء" بسبب هكذا مجاري تخترق المدينة و تصبّ في شوارعها"، كما كتب أحد المصلحين في تفسيره الأنموذجي للشخصيات البودليرية، و يبين الكاتب والفيلسوف في النصف الأول من القرن العشرين، والتر بنيامين، أن العاهرة هي المعادل الأنثوي للمتسكع/العربيد، وهو الدور الذي تُستبعد منه النساء (ما لم يجعلن أنوثتهن غير مرئية من خلال لعبة التمويه و التخفّي بأنفسهن في هيئة رجال أمثال جورج ساند، وكوليت، وغيرهما). ولكنه يشير أيضًا إلى "أن الحياة الحضرية هي في حد ذاتها نوع من الدعارة العالمية، من خلال تسويقها وتنقل المستهلكين الحضريين "في قلب المدينة المسدود".
**
كأنموذج بالنسبة للنساء الفرنسيات المعسورة الحال المسعورة الأحلام و الرغبات الشخصية ، الفقيرات من القرن التاسع عشر، كان النزوح أو الهجرة إلى هذه المدن حاضنة المساحات الحضرية الجديدة بمثابة وعد بالتحرر من قيود الحياة الأسرية والأخلاق و الأعراف المرتبطة بها، و هدف الحصول على راتب و استقلالية مالية. ومع ذلك، -حسب الدراسات- الغربية أنداك فإن المرأة العاملة الوحيدة على وجه التحديد، والتي تفتقر إلى روابط تسلسلية مجتمعية مباشرة، و ليست جزءًا من عائلة أو مجموعة قرابة، أو كسرت تلك (الوصلات) و لم تعد مرتبطة بهكذا أُطر، فإنّها هي التي تشكل محور التمثيلات الملوثة. إن استقلاليتها (المادّية الإقتصادية) تعني بمنطق المال و السوق بثنائية العرض و الطلب؛ أنه مُحتمل أو يمكن شراؤها. ومن ثم تولّدَ هناك خلط بين النساء المحرومات والزانية. و هكذا أصبحت العاهرة "امرأة عامة" أي "مُتاحة".
**
المشهد الواضح لشوارع المدن العامة في نهاية القرن التاسع عشر، أصبحت "خالية" من النساء والأطفال المنتمين إلى الطبقة البرجوازية. ومع ذلك، وبعد مرور أكثر من قرن من الزمان، نجد أن نفس هذه "التمثيلات الملوثة" راسخة و مجسدة في الأماكن العامة، أقول دائما حسب تجربتي بين القارة الأوروبية و قارتي الأم و هي إفريقيا أنّ الأماكن أيضا قد تكون شرسة في الاحتفاظ بذاكرتها.
-تُواصل الدّراسة في محص المشهد فيرى العلماء في الاجتماع : البيئة الإعلانية (النوافذ، واللوحات الإعلانية، والشعارات المتحركة) التي تغرق بسهولة في الغلاف الجوي، تحشد الخيالات الهجينة - الرغبة الجنسية، والإجبارالاستهلاكي(الاستهلاك القسري)، والهوية المتطورة أو المُتحوّلة) باستمرار - من أجل بيع (المنْتَجات) لمجتمع في أوجّ -الثورة التصنيعية- ك السيارات، أو الهواتف المحمولة أو الملابس الداخلية، والموضة، فضلاً عن استهداف كلّ من المرأة و الطفل و جعلهما شيئا مثيراً جنسياً مع فرض إيديولوجيا انحطاطية تعني ترسيخ ( الاهتمام بالتكافؤ؟) في بعض الأحيان كَرجل ذا شخصية خنثى و مُلَطّفة!. حتى في قلب هذا التحفيز الخبيث -الاستهلاكي- المفرط حيث تفرض عَقلية (السّلعة الجِنسية) أو أَيْرَسَة المنتوجات، أو البضاعة) نفسها على سكان المدينة كالتزام (متماثل مع الالتزام بإخفاء الجنسية الحقيقية الخالصة من خلال الملابس)، هذه الذاكرة الأخرى تظل قائمة.
-و عليه تستمر الذاكرة في الأماكن العادية (على عكس المعالم الأثرية) لأن الماضي يتكرر في استخدامات متكررة وفي ما نحن على استعداد لقبوله باعتباره استخدامًا مشروعًا لهذه المساحة. لا يهم إذا انتقل الاستخدام من مكان محدد إلى آخر. إن مصير المرأة في الأماكن العامة يشكل عنصرا هاما في ثقافة هذه الأماكن العامة واستمراريتها. و يستمرّ اشتغال أو ديناميكية الذاكرة أيضًا من خلال ما يتم نقله باستمرار من خلال آلية (دوكسا الجنس). و ليفهم القارئ المثقف العربي فإنّ -الدوكسا- يمكن تعريفها بأنها "كل ما هو ذاتي و شخصي يُقبل على أنه بديهي"، وهي سلسلة من الأفكار -الهلامية- التي ليست بالضرورة صريحة، وهي ما "لا يعتقد أحد أنه يستحق أن يفصح به"، لهذا يبقى مخفيًا على وجه التحديد لأن -الجميع- يتفقون عليه، إنّها لعبة التأويل في غابة المفاهيم حسب رأيي المتواضع.
لذا، فمن خلال هذا التعريف، لا يمكن فك رموز الدوكسا بسهولة، أو التعرف عليها بوضوح. إنه -ما يُرى ولكن لا يُلاحظ!- والذي تم تحليله بواسطة "الإثنوميثودولوجيا" l’ethnométhodologie *. تتضمن العقيدة الجنسية هذه "الأدلة"، و هذا النوع من "الأفكار الجاهزة للتفكير"، والتي تشكل الرموز والقوالب النمطية المرتبطة بالجنس. يمكننا التعرف على هذه العقيدة من خلال البحث عن الدلالات الأيقونية في صور الأفلام أو تلك الموجودة على لوحات الإعلانات (كما في المثال المقدم أعلاه)، أو حتى في الكلمات المكتوبة. إن الآلية التي تتجلى في -المعتقد الجندري- يتم توضيحها بشكل أكبر من خلال مفهوم "ترتيب الجنس" الذي طرحه عالم الاجتماع الدقيق إيرفينغ غوفمان. ولم يتطرق غوفمان إلى العلاقات بين الجنسين كثيراً؛ كان مهتمًا إلى حد ما بالرابط بين الأفراد وبالتالي الرابط غير المجسد، في المعاملة بالمثل التي من شأنها أن تشكل "غراء لاصق" المجتمع والتي من شأنها أن تتجلى في أدنى تفاعل، حتى بين الغرباء الذين يعبرون المسارات في الشارع. ومع ذلك، في الملاحظات التي يطور منها نظريته حول التفاعل في المواقف، فإنه يقدم لنا رابطًا مجسدًا، وبالتالي فهو بالضرورة -مرتبط بالجنس-. في الواقع، هناك، على حد علمنا، حالتان فقط يشير فيهما غوفمان على وجه التحديد إلى قضايا الجندر أو النوع الاجتماعي: في تحليل للإعلانات وفي مقال مفرد حول العلاقات بين الجنسين، بعنوان "تدابير توافقية بين الجنسين". ويشير أولاً إلى أن العلاقات بين الجنسين تتكرر باستمرار، وتتكرر، من خلال التفاعل الاجتماعي.
-على سبيل المثال، تظهر الإحصاءات الطبية في خصوص (القامة) أن أطوال الرجال والنساء موزعة وفقا لمنحنيات غاوسية متداخلة، ولكن الاختيار في العالم الاجتماعي يضمن أنه في الأزواج من الذكور والإناث، سيكون عادة الرجل هو الأطول قامة تقريبًا. إن ما يدور في هذا المثال هو "قاعدة مدعومة دون موافقة رسمية أو اجتماعية محددة". بعبارة أخرى ظاهرة قريبة جدًا من العقيدة الواضحة للجنسين. وعلاوة على ذلك، فإن الفضاء "يؤثر" على هذه العلاقات، بمعنى أنه يضع حدودًا لإمكانيات التفاعل:
(...إن أي مساحة مادية، أي مكان، أي زاوية يمكنها استيعاب تجمع للأفراد، توفر بالضرورة موادا أو سياقاتا يمكن استخدامها في العروض الجنسية وفي تأكيد الهوية الجنسية. ولكن من المؤكد أنه يمكننا أن نعتبر أن التفاعل الاجتماعي الذي يحدث في هذه الأماكن يوفر و يضمن أيضًا هذه العناصر. يجب على جميع المشاركين في التجمع أن يتخذوا بطريقة ما موقفًا بيئيًا مصغرًا تجاه بعضهم البعض، وهذه المواقف ستنتج استعاراتا للمسافة الاجتماعية والقرب، تمامًا كما ستقدم إشاراتا تشير إلى المكان أو الموقع الترتيبي في الطابور....)
**
إن الطريقة أو الصيغة السلوكية التي يضع بها الرجال والنساء أنفسهم على حدّ سواء في الفضاء العام لن تؤدي إلا إلى تعزيز هذه التفاعلات أو العلاقات بين القوة والضعف، والعظمة والتفاصيل الدقيقة، والتي تعتبرها العقيدة الجندرية أمرا مسلما به. لهذا فإن الفضاء العام يسمح بتكرار طقوس هذه التمثيلات العقائدية جَندريا. ومرة أخرى، من خلال ألعاب الرؤية (الظهور) والاختفاء، و تنجو النساء في الشوارع - ولو مؤقتًا - من آثار هذه العقيدة.
**
*"اللا-أماكن"عامة:
لم يتم تقديم التناوب بين ظهور المرأة واختفاءها بشكل رائع ورصين كما هو الحال في فيلم "واندا" (1970) للمخرجة باربرا لودن التي توفيت و رحلت قبل الأوان!. يتكون المنزل الذي تتركه واندا خلفها من مساحات باردة وبائسة، والفقر المدقع للمنازل الصغيرة المتهالكة، و قوافل مقطورة سكنية والأكواخ الفوضوية، وكلها محاطة بمناظر طبيعية رمادية في بيئة منجمية أمريكية بامتياز. بعد قرار طردها من المحكمة بسبب عدم قدرتها على رعاية منزلها وأطفالها، تذهب واندا إلى "لا مكان"، ولا تملك سوى الحزن العميق الذي لا تملك لغة خاصة للتعبير عنه. إنه يعبرُ مناظرا طبيعية هائلة باتجاه غرب الولايات المتحدة، هذا المكان اللا-متناهي من الطرق والطرق السريعة، وسلسلة من الفنادق المتهالكة والحانات المجهولة. مناظر طبيعية مألوفة في ثيَم أفلام الطريق وحكايات الشباب الأميركي الذي يسعى إلى الثروة، والتي يمكن تلخيصها في العبارة الطقس المتداولة: Go West, young man, go West. اذهب غرباً، أيها الشاب، اذهب غرباً. إلا أن واندا تجدُ نفسها تبيع جسدها، أو بالأحرى تتركه و تتخلّى عن حمايته و صونه مقابل سرير، أو القليل من الطعام، أو القليل من الشركة أو الرفقة لكسر وحدتها. في مشهد البار حيث يتحادث الرجال، لا يمكن رؤيتها إلا بسبب استثنائيتها: (إنها المرأة الوحيدة، كانت صامتة تقريبًا) وبسبب ما أتاحهُ لنا المخرج بتخيله عما سيحدث لها. شيئا فشيئا، يبدأ المشاهد بالتعرف على تجربتها الحزينة مع المناظر الطبيعية في لقطة التتبع التي لا نهاية لها، وهي مناظر طبيعية هائلة، كالمنطقة المنجمية التي غادرتها، أصبحت بشكل متناقض أكثر فأكثر خانقة تمتصّ الأمل كما تتغذّى النار من الأكسيجين. في هذا الفيلم يشعر المشاهد بالمعاني القوية العميقة للتعبير الإنجليزي homesickness ك"أسقام الوطن" ..هَلَكة الاغتراب الشاسع اللامتناهي، الشعور أننا مرضى بأنفسنا، مرضى بأُسرنا، مرضى بمنازلنا، مرضى بفضائها الخاص الحميم .
-إذا كان هذا المثال يوضح إمكانيات تحديد عقائد أو إيديولوجيات الجنسين في الدلالات الأيقونية، فإنه يسمح لنا بفهم مدى الخصائص التي نسبناها أعلاه إلى الفضاء العام. إن المناظر الطبيعية التي تعبرها "واندا" لم تعد حضرية، بل هي تلك المُجرّدة أو التي يمكننا أن نصنفها على أنها "أماكن غير موجودة "، لا وجودية مكانية أو لا مكان وجودي؛ هذه المساحات الحديثة، وحتى الحديثة للغاية، حيث -يكون الوقت محددًا بشكل مفرط والرابط مع الآخر غير محدد بشكل كافٍ-، حيث تذيب الحركة الإقليمية مساحاتاً من المفترض أنها بلا ذاكرة. تتميز هذه المساحات الشاسعة من الأماكن غير التقليدية للحداثة بالغموض، والمفاجأة، والعبور المستمر للغرباء. ولكن بهذا المعنى فإنها تشبه الأماكن العامة في المدينة. إنها تتطلب من كلا الطرفين نيّة إدارة التواجد المشترك المستمر، دون الوقوع في أي اختلاط أو الحفاظ على مسافة بينهما ("العلاقات غير الشرعية"). ويتم ذلك من خلال الحد من إمكانية "الاقتراب" المباشر للغاية، أو الرغبات المطلبية، أو التعدي على "المنطقة المتغيرة" للآخر. ومن هنا تأتي مفارقة التناقض الاجتماعي في الأماكن العامة.
و لهذا فإنّ حتى تجنب التفاعل هو تفاعل في حدّ ذاته، لأنه يفترض الاهتمام بالآخر، والاهتمام بالآخر، والاعتبار المنهجي لإيماءاتنا، ومواقفنا، وما إلى ذلك.
***
يقول الباحث الاجتماعي :إن "الوانْدَوات" اللائي التقيتهن خلال بحثي في نيويورك تسكن مناطق الراحة المنتشرة على طول الطرق السريعة، وعربات المترو، والحافلات التي تعبر القارة، وممرات المطار... ومع ذلك، فإن "حرية" اللامكان لا تكون أبدًا حرية الأفراد الذين تُركوا لأجهزتهم الخاصة تمامًا، دون التزامات، حتى لو وضعتنا هذه المساحة في حضور الغرباء بمجرد أن تصبح مرئية و غير منظورة!، لهذا لا تتحرر واندا أبدًا من دورها كهدف للتفاعلات وموضوع للتمثيلات التي تقدمها للآخرين. إن الأماكن غير العامة والأماكن العامة هي مسرح "المشاركة المشتركة في مشاريع فاقدة للصوت، صامتة"، والتي لا تنطوي بالضرورة على الكلام (المرور في الشارع، أو توزيع الذات في مساحة مصعد كبير أو العثور على الذات جالسًا جنبًا إلى جنب في غرفة انتظار مزدحمة في مطار، وما إلى ذلك). وعلى الرغم من دخول المرأة سوق العمل، ومشاركتها في الحركات و الإيديولوجيات العابرة للحدود الوطنية، وعلى الرغم من تهميش السفر، فإن المرأة لا تزال مرتبطة رمزيا، بشكل خفي أو غير خفي، بشكل صريح أو باطني، بعبادة الحياة المنزلية. من الناحية الرمزية، لهذا من منظور خاص فإنّ البيت، بمعنى (الدّاخل/المُدخل، المُدخَلْ فيه) الخاص، أو المنزل، يتعلق بالسيطرة على الأنثى كعنصر من عناصر -الفوضى المحتملة-. بهذه الطريقة يمكننا توسيع نظرية ماري دوغلاس وفهم آلية السهولة التي ترتبط بها مرأة (الخارج)؛أيّ المشردة والمرأة النازحة مؤقتًا و علاقتهن ب "التدنيس" أو "السقوط".
نازحات/ مُبعدات لأنهن خارج مكانهن، و عليه فإنّهنّ يخلقنَ أو يتسبّبنَ بالضرورة في الفوضى. إن مخاطر المرأة في الشارع، على الرغم من معرفتها بكيفية وصولها إلى هناك، لا حدود لها، مثل الأماكن غير الموجودة تماماً.
-و لأننا نغوص في مسألة (التجنيس و الجندر) فإنّ نلاحظ أغلبية مثقفينا و مثقفاتنا(الأبواق أو بغبغاوات) الثقافة الوافدة من وراء البحار الغربية تحديدا لا تتوفّر لديهم مَلَكةالبحث و الاختراع و الإبداع في الطرح و التنظير الفكري المُحايد و الوفي لهويتهم الجغرافية الإقليمية في قراءة محيطاتها و أنسجتها الاجتماعية يقلدون و بغباء إيديولوجيا كل ما كُتبَ و أنجز عن "ظاهرة الجندر" و الصراع الآخَري و قضايا مغلوطة حول وجود و حضور العنصر النسوي و علاقتهن بفوضى و صراعات الأماكن و الفضاءات العامة و "الأماكن الحَرام" تحضرني أسماء نسوية كثيرة ، كاتبات من لبنان و الجزائر و مصر و سوريا و تونس و السعودية حتّى اللائي تطرقنا إلى هكذا ثيمة و جعلنها من خلال كتاباتهن -الجريئة- و الملوّثة الصادمة، بإسقاطها ككتابة رذائلية تلوِيثية و كطرح جدلي على واقعنا أو على الصّعيد العربي على سبيل المثال (ل.بعلبكي، ع.صبح، س.النعيمي، ف.الفاروق، ر.جلطي، ر.مقدم، ن.البدير، ص.ه.عواد...) و يمجّدنَ للمرأة التي تتحوّل من خلال انفتاحها على كلّ الفضاءات خاصة منها و عامة لتصبح بإرادتها "مَنْطَفة" الذكور أو "زيرة رجال".
و تحضرني تحديدا هذه الجملة لأحدهنّ التي تُبشّر بشكل صريح للدعارة و البغاء :(المومسات يقدّمن خدمة جليلة للمجتمع ؛ اللواتي يؤَنّثنَ المكان.!). و يرى بعضهنّ تأثرا بهذا الطرح أن(المومسات ألطف مخلوقات الله؛ على الأقل أنّهنّ يقلّلنَ من انتشارالمثليين..فالقحبة تقدم خدمة جليلة للمجتمع).. هذا الفكر الذي يضع المجتمع أمام خيارين للحفاظ على توازن المجتمع الطبيعي : إمّا أن يفضّل أو يرضى المحافظون/الفضائليون/المُطهّرون باجتياح المومسات (القحاب) فضاءات مدننا العربية المسلمة أو يستسلموا أمام ظاهرة تفشّي و انتشار ظاهرة -تخنيث- و تأنيث الذكور أو الرضا بالمثلية الذكورية!
*ماي 2025
—-
*)"جندر الأماكن من خلال تواجد النساء في الشارع": بحث دراسات كتبته: آن ماري لوفيل ، منشور في مجلة إمبان (قِسْ معيار الإنسان)، العدد 54، يونيو/حزيران 2004، ص 27-31



#لخضر_خلفاوي (هاشتاغ)       Lakhdar_Khelfaoui#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بعيون غربية ناقدة:Décadentisme littéraire تيار -الانحطاط الر ...
- *مَنْكَحة العَصر: المِسْتَرْ -دودو- و حيوانات أمريكا الأليفة
- *أولاد الزنا و -يشعوبَ و مَشعوبَ-!
- *أفكار فلسفية فكرية:شرّ المخلوقات !
- *حول تجربة الكتابة:محطات من الغرب عن نشأة النزعة الجندرية في ...
- *عُلوّ عِلّيتِي
- *الكائن..
- *أفكار فلسفية/فكرية وجودية: اغتراب ميتافيزيقي
- قابيل يُحاكم القاتلة*!
- *أفكار فلسفية فكرية:موت المرأة الفاضلة و استبدالها ب القَحْش ...
- *أفكار مُعاصرة من فلسفة علم الاجتماع و تنمية الذات: عن الكائ ...
- *-مَصَالح مُحمَّدية- سردية من الواقع
- *أفكار فلسفية فكرية حول الفقه : طبّاخو الحديث !
- -حول تجربة النشر و الكتابة / ***إعلان هام جدا للمهتمين: فرصة ...
- *إطلالة من الزمن الجميل
- *أفكار وجدانية تنموية معاصرة : لا شيء يفيد مع البُغاة و الجا ...
- *سردية واقعية: صاحب كليوباترا و قفازاتي ..
- *حول تجربة الكتابة في الوعي و الثقافة: أبواق مجّانية عربية ل ...
- *سردية انطباعية حول الكتابة المزخرفة للرذائل: لا مديح في -أن ...
- *سردية: عشاء “البجع السّينوي الأخير “.


المزيد.....




- احتفاء بالظهور الأحدث للـ -زعيم- وألبوم عمرو دياب الجديد.. ا ...
- تداول فيديو للحظة -احتراق سفينة إسرائيلية- هاجمها الحوثيون.. ...
- البيت الأبيض: إنهاء الحرب في غزة أولوية قصوى لترامب
- مصرع مسلح بعد استهدافه مبنى لحرس الحدود الأمريكي في تكساس
- رواتب مغرية لجذب مجندين ومجندات للجيش الألماني
- فرنسا - الجزائر: دعوات لـ-تدابير حازمة- وتحذيرات من -تشديد ا ...
- البلجيكي تيم ميرلييه يفوز بالمرحلة الثالثة لسباق فرنسا للدرا ...
- -قفز من الطابق العلوي-: وفاة ناشط مدني ليبي بعد أيام من توقي ...
- شاهد.. المقاومة تفكك أجهزة تجسس زرعها الاحتلال وعملاؤه بغزة ...
- محامي رئيس بلدية إسطنبول: أواجه اتهامات ملفقة بالكامل


المزيد.....

- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - لخضر خلفاوي - -الدُّوكسا- Doxa الجنسية: عندما تنزل النساء إلى الشوارع؛لعبة التخفّي و الظهور في مُعطى الجندر