رماز هاني كوسه
الحوار المتمدن-العدد: 8348 - 2025 / 5 / 20 - 19:29
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
دمشق1860
”مجموعة من الأطفال رسموا صلبان على الجدران والأرض ،انزعج السكان المسيحيون و اشتكوا للمسلمين فأرسلوا الأطفال لمسح الصلبان . فصرخ رجل مسلم اسمه ابراهيم الشعال (يا غيرة الله يا غيرة الدين .المسلمين عم يكنسوا حارة النصارى .) فهجم الناس معه على الحي المسيحي و هكذا بدأت أحداث1860 الطائفية في دمشق وفق رواية محمد سعيد الاسطواني في مذكراته و هو كان معاصرا للأحداث .
يبدو للقارئ أن السبب سخيف لاندلاع حوادث قتل بحجم ما جرى بدمشق حينها و تشير الاحصائيات لمقتل الآلاف من المسيحيين فيها . و فعلا هو سب سخيف و لكنه كما يقال كان النقطة التي أفاضت الكأس و أدت لما جرى لاحقا . و لمعرفة السبب الحقيقي فلنعد إلى عقدين سابقين من الزمن و هي فترة خروج جيش ابراهيم باشا من سوريا نتيجة دعم الأوروبيين للسلطنة العثمانية في صراعها مع محمد علي باشا حاكم مصر . طبعا هذا الدعم لم يكن مجانيا و حصلت بموجبه دول أوروبا على امتيازات تجارية في منطقة بلاد الشام . هنا ظهر العامل الديني بالتعامل من الجانب الأوروبي حيث عمد الأوروبيين الى اختيار القناصل من السكان المسيحيين و منح الامتيازات التجارية في استيراد البضائع الأوروبية لهم و للتجار المسيحيين . النتيجة كانت إغراق السوق السورية بالقماش الأوروبي و كساد صناعة النسيج السورية و ترافق ذلك بانخفاض أعداد آلات النول في دمشق من الآلاف إلى بضع مئات . هذه التغييرات أدت الى حدوث اضطراب في ميزان القوى الاقتصادية في المجتمع السوري و تراجع دور تجار دمشق المسلمين و اغلاق الورش التي يعمل بها الكثير من المسلمين و هو ما خلق حالة احتقان لدى العامة ضد السكان المسيحيين و اعتبروهم المسؤولين عن خسائرهم . و المسيحيين ببساطة لا ذنب فعلي لهم فهم اغتنموا فرصة أتيحت لهم و تصرفوا كما كان يتصرف المسلمين سابقا مستفيدين من كون الدولة مسلمة و تمنحهم امتيازات أكثر من غيرهم . تصاعد الاحتقان بمرور الأشهر و السنوات إلى أن وصل لنقطة الانفجار السابقة و نتج عنها الكارثة التي حدثت . و نضيف لها الإجراءات الإدارية التي اتخذتها السلطات العثمانية بضغط أوروبي و تم بموجبها اعتبار المسيحيين مواطنين عثمانيين مثل المسلمين بعد أن كانوا رعايا للدولة . مثل هكذا اجراء مع التأثير الاقتصادي الذي تحدثت عنه دفع الأمور للتصاعد من طرف المسلمين بعد أن شعروا أنهم مستهدفين مباشرة . جرت عمليات قتل و نهب في الأحياء المسيحية و لم تفعل سلطات دمشق شيئا لإيقافها (و طبعا لعب قسم من مسلمي دمشق دورا مهما في التقليل من النتائج و حماية المسيحيين و على رأسهم الأمير عبد القادر الجزائري ) . بالتأكيد كان لأحداث جبل لبنان و الصدامات الطائفية أثرها بتجييش النفوس و تصاعد حدة الازمة و لكن يبقى العامل الاقتصادي والتغيير المفاجئ بميزان القوى و خسارة التجار المسلمين لميزاتهم التجارية هو المحرك الرئيسي لما جرى بدمشق حينها و الذي وصل تأثيره لكافة أرجاء سوريا و من ضمنها الساحل السوري و أدت لتغييرات كبيرة بتركيبته .
حماة ..... نيسان 1964
صدام بين شبان من الاخوان المسلمين مع عناصر من الحرس القومي البعثيين بسبب اعتراض شبان الاخوان على شعارات بعثية مدونة على الجدران . تطور الى مقتل احد عناصر البعث . ازدادت حدة الأمور مع قدوم الجيش للمدينة و قرار الشيخ مروان حديد الاعتصام مع مؤيديه في مسجد السلطان . انتهت الأمور بمقتل العشرات و دمار كبير في مسجد السلطان .
البعث و الاخوان المسلمين متواجدين كحركة سياسية في المجتمع السوري منذ الأربعينيات و ان كان قد حصل مناوشات بينهم لكن التصعيد بدأ يظهر مع وصول البعث الى سدة الحكم عام 1963 و بدأ يأخذ طابعا دمويا . لمحاولة تحليل السبب نعود الى الجذور الاجتماعية لكلا الطرفين . البعث كان يمثل الريف السوري و و الطبقة الفقيرة من العمال و كان يتوجه بخطابهم اليه . أما الاخوان فقد مثلو المجتمع المدني السوري بتجاره و صناعييه التقليديين المسيطرين على الحياة الاقتصادية السورية منذ عقود . و مع وصول البعث للحكم بدأت طبقة جديدة من التجار و المستثمرين تظهر من ضمن البيئة الريفية بدعم من البعث و سياساته الراديكالية بموضوع التأميم و الإصلاح الزراعي و غير ذلك من القوانين التي كانت موجهة فقط تجاه فئة الملاك و العائلات الثرية التقليدية . و بدأت الفئة الجديدة المدعومة بعثيا تنافس النخبة الاقتصادية المدنية التقليدية و تأثر بهذه الإجراءات مباشرة فئة الصناعيين و التجار المدنيين و خسرو الكثير من قوتهم الاقتصادية و مكانتهم الاجتماعية . ظهور المنافس التجاري و محاولة سحب البساط من يد المجتمع الصناعي و التجاري دفع هذا الطرف إلى الدفاع عن وجوده و مكاسبه التي بدأ يشعر بفقدانها تدريجيا. و كانت الذراع التي دافعت هي ذراع الاخوان المسلمين . هنا بدأ الصدام يتحول من مجرد اختلاف فكري الى صدام عنفي بدأ في الستينات و تصاعد طيلة عقدين من الزمن . شهد الصراع خمولا ببداية السبعينات و يعود ذلك لإزاحة صلاح جديد ذو التوجهات الاقتصادية المتشددة من قبل حافظ الأسد الذي اعتمد نهجا اقتصاديا أكثر محاباة للنخبة الاقتصادية في المدن مما دفعهم لأخذ موقف إيجابي منه ببداية حكمه و رفعهم هتاف ( طلبنا من الله المدد فأرسل لنا حافظ الأسد ) . لكن ما لبثت أن عادت الأمور للتصاعد مع تصاعد نفوذ عائلة الأسد و أقاربه و محاولة سيطرتهم على كافة مفاصل الاقتصاد السوري و هو ما أدى مباشرة لعودة الصدام مع الاخوان المسلمين إلى الواجهة مجددا بعد منتصف السبعينات و حتى بداية الثمانينات لتنتهي هذه الجولة بمذبحة حماة عام 1982 و التي هزم بها الاخوان و تراجعوا ولو مؤقتا عن المواجهة . هنا أيضا نحن نقف أمام تغييرات اقتصادية جذرية و مفاجئة اصابت المجتمع السوري و أدت لصعود فئة اقتصادية جديدة لتزيح القوى الاقتصادية التقليدية القديمة و تحل مكانها اقتصاديا و اجتماعيا .
عندما أتحدث هنا عن ريف و مدينة فليس المقصود انتماء طائفي بل تقسيم اجتماعي للمجتمع السوري . فالمستفيدين و الداعمين للبعث و الأسد الاب من جميع المكونات .
درعا .... آذار 2011
خروج مظاهرات في درعا احتجاجا على اعتقال أطفال و تعذيبهم و قلع أظافرهم من قبل أحد الافرع الأمنية كما نقلت وسائل الاعلام .. تصاعدت الأمور متأثرة بموجة الاحتجاجات التي بدأت بتونس قبل شهرين بما يعرف الربيع العربي . توسعت المظاهرات و شملت مختلف مدن سوريا من درعا إلى اللاذقية و حماة و حمص و ادلب ... الخ مطالبة باسقاط النظام و قابلها النظام بعنف شديد و البقية تعرفونها .... عام 2025 بعد سقوط النظام خرج احد الأطفال ( و أصبح شابا حينها ) ممن تم اعتقالهم بدرعا و نفى تعرضه للتعذيب أو قلع الأظافر في مقابلة علة تلفزيون سوريا .
كان الانفجار ضخما . و الجميع فوجئ به . عايشنا الاحداث جميعا و لن أتحدث عن توصيفها بل سأحاول نقاش الأسباب التي أوصلت المجتمع السوري إلى هذا الانفجار ,
مع توريث بشار الأسد الحكم خلفا لأبيه بدأت سياسة جديدة تظهر في طريقة إدارة البلاد خلال السنوات العشر الأولى من حكمه . بدأ نظام الابن بالتخلي عن السياسة التي اتبعها أبيه خلال ثلاثة عقود من الحكم و التي تمثلت بعقد اجتماعي بسيط . الدولة تؤمن الحاجات الأساسية للمجتمع من خبز و ماء و كهرباء و محروقات و تعليم و طبابة بأسعار رخيصة و شبه مجانية مقارنة بالسوق العالمية ومقابل ذلك تخلي المجتمع عن المشاركة بالحياة السياسية بشكل كامل . و هو ما جرى خلال حكم الأسد الأب المطلق من خلال واجهة البعث . خلال فترة حكم الأب ظهرت طبقة من الأثرياء غالبيتهم من المقربين لدائرة الحكم إن لم يكونوا من أفرادها بينما باقي فئات المجتمع توزعت ما بين طبقة المهن الخاصة ذات الدخل المرتفع و مستوى المعيشة الجيد و بين طبقة الموظفين ذات المستوى المعيشي المقبول نسبيا فحاجاتها الأساسية الدولة متكفلة بها . جاء بشار الأسد و تحت شعار التطوير و الانفتاح الاقتصادي بدأ بالتخلي عن العقد الاجتماعي و الأسس التي نظم بها والده المجتمع السوري . بدأ الاقتصاد السوري يتحول لاقتصاد استهلاكي مع تشجيع النظام السوري للاستيراد (بدلا من الإنتاج) كوسيلة للربح السريع بالنسبة للنخبة الاقتصادية المرتبطة به . أدى ذلك لخروج كثير من الورش و المعامل الصغيرة من سوق العمل و تسريح موظفيها لعدم قدرتها على منافسة المنتج المستورد . بدأ نظام الأسد الابن بالتخلي عن الدعم و بدايته كانت مع رفع أسعار المازوت عام 2008 من 12 سنت إلى ما يقارب 50 سنت و هو ما سبب ارتفاع كبير بتكاليف المعيشة حينها . تمدد رامي مخلوف ابن خال بشار الأسد و سيطرته على الاقتصاد السوري باعتباره واجهة النظام الاقتصادية ( استبدل لاحقا بآل الأخرس عائلة أسماء زوجة بشار الأسد ). الأمثلة السابقة و هي نتيجة مباشرة للسياسات الاقتصادية التي انتهجها الأسد الابن أدت لخلل مباشر بالتركيبة الاقتصادية و الاجتماعية .طبقة المهن الخاصة تراجعت اقتصاديا و خسرت الكثير نتيجة السياسات الاقتصادية المتمثلة بتشجيع الاستيراد . بالمقابل تحسن وضع طبقة الموظفين التي ارتفع دخلها من 80 دولار شهري بعهد الأب إلى ما يقارب 200 دولار بعهد الابن و هي سياسة مقصودة من الأسد الابن بهدف حماية قاعدته الاجتماعية و التي اعتبر قوامها الرئيسي موظفي الدولة مهملا باقي فئات المجتمع و هذا كان خطا قاتل بإدارته للبلاد . فالكثير من أفراد طبقة المهن الخاصة هم ممن استفاد من السياسة الاقتصادية خلال فترة حكم البعث و الأسد الاب و حجزوا مكانهم في السلم الاجتماعي من خلالها و يشمل ذلك المزارعين الذين استفادوا من القروض و دعم الزراعة خلال تلك الفترة . أطباء مهندسين محامين استفادوا من مجانية التعليم الجامعي و توسع بناء الجامعات و انتشارها . و مع التغييرات الاقتصادية التي انتهجها بشار الأسد شعرت هذه الفئة الواسعة بتخلي الدولة عنها . فالطبقة الوسطى من أصحاب المهن الخاصة الزراعية أو الصناعية و التجارية (وهي تشكل غالبية المجتمع) خسرت الكثير و انضمت لطبقة الموظفين خلال فترة ال10 سنوات الأولى من حكم الأسد . نضيف لذلك موجة الجفاف التي ضربت الجزيرة السورية بين عامي 2006 و 2007 وأدت لخسارة المزارعين ثروتهم و مصدر رزقهم و نزوح الكثير منهم باتجاه المدن و سكنهم حولها و هو ما نتج عنه اتساع أحزمة الفقر و العشوائيات خصوصا في العاصمة دمشق .
التغييرات الاقتصادية العنيفة و السيئة من قبل إدارة الأسد الابن و تأثيرها المباشر على التركيبة الاجتماعية خلق رفضا لحكمه من قبل فئة اجتماعية واسعة . و هو ما مهد للانفجار الكبير عام 2011 و التي فشل أيضا نظام الأسد الابن بالتعامل معها بلجوئه للعنف و القتل لإسكات الجميع .
ثلاثة أمثلة من فترات زمنية مختلفة بنفس البلد و نفس المجتمع تظهر لنا أن التوترات الاجتماعية العنيفة كان محركها الرئيسي التغييرات الاقتصادية العنيفة و الغير مدروسة و التي سحبت المكاسب الاقتصادية من طرف و منحتها لطرف آخر بناء على الولاء و ليس الكفاءة . و هو كانت نتيجته الوحيدة موجات متتالية من العنف الأهلي .
دمشق 2025
هروب بشار الأسد و وصول هيئة تحرير الشام و حلفائها إلى السلطة في دمشق . بلد منهارة خدميا اقتصاديا اجتماعيا . تحديات و مشاكل تواجه السلطة الجديدة و أهمها التحدي الاقتصادي . التغيير السياسي و الاقتصادي سيتبعه تغيير اجتماعي بالطبع و التحدي يكمن في تجنب التحولات الاقتصادية العنيفة و السريعة بصعود طبقة اجتماعية و نزول طبقة اجتماعية كما في الأمثلة السابقة لتجنب أي رد فعل عنيف ممن خسر مكاسبه الاقتصادية و هم كثر على امتداد البلاد .
#رماز_هاني_كوسه (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟