أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم رمزي - المحترَم، مقيما وغائبا















المزيد.....

المحترَم، مقيما وغائبا


إبراهيم رمزي

الحوار المتمدن-العدد: 8015 - 2024 / 6 / 21 - 08:03
المحور: الادب والفن
    


تعددت الأسماء التي ينادى بها عليه، فهو: "لَمْعَلَّم*"، و"فَكَّاك لَوْحَايَل*"، والفقيه، والأستاذ، والممثل، والكاتب، والقاضي، ‏والشريف،.. وقد "يخترع" أي واحد اسما يناديه به، فيجيبه .. دون تأفف أو غضب .. .. شرْطَ أن يكون اللقب منبِئا بالتوقير ‏والاحترام.‏
سألوه عن صورة يعلقها لشاب بالزي العسكري .. فضحك وهو يلمس صلعته .. وقال: ذاك أنا قبل عدة عقود عند أداء الخدمة ‏العسكرية .. وقبل أن أَجْلَح وأَجْلى .. ومنذ ذلك الحين أضيف اسم "العسكري" إلى باقي الأسماء التي ينادى بها عليه.‏

كان يحب الأطفال، وكان يكره الأطفال .. يحب وداعتهم وبراءتهم وفطرتهم .. ولذلك يدعمهم في دراستهم بحصص إضافية في ‏بعض المواد .. ويكره منهم شغبهم وضوضاءهم وخصوماتهم .. خاصة عندما يزعجونه وله رغبة في النوم حينما يريد نيل قسط ‏منه بعد سهر طويل ومتواصل في "العمل".‏
العمل؟ .. لا أحد يدري حقيقة ما يشتغل .. فعندما يتهندم بالكسوة السوداء والفراشة السوداء حول ياقة القميص الأبيض، والحذاء ‏اللامع .. تحسبه عضو هيئة ديبلوماسية .. أو مشرفا على جناح متحف، .. أو ممثلا قديرا سيسير الليلة فوق السجاد الأحمر، .. أو ‏عضو فرقة سمفونية، .. وقد تحسبه نادلا في إحدى دور الضيافة .. أو عامل استقبال في فندق مصنف،..‏
كان يعود من "العمل" في آخر الليل، أو في أوقات الصباح الباكر .. أحيانا يعود ومعه لفافة، فيها فواكه وطعام وحلويات .. فيهب ‏الكثير منها ولا يبقي إلا القليل لنفسه. يهب منها لبعض التلاميذ المتوجهين نحو مدارسهم، حاثا إياهم على الجد في التحصيل. ‏ويهب جاراته أيضا، فيدْعين له، ويمازحنه، فيلتمس منهن منع أولادهن من الضجيج، لأنه يريد الخلود للنوم.‏
قد تطمع إحدى جاراته في كتابة حِرز أو تميمة تعلقها، "علاجا" لِألم أصابها، أو حالة عصبية اجتاحتها .. فيواسيها، وينصحها، ‏وقد يمدها بقرص دواء لتخفيف صداع رأسها .. ويحذرها من عواقب تصديق "الغيبيات".‏
كان ـ في قرارة نفسه ـ يستغرب من بعض ما يلقن في المدارس، ويعتبره مجرد حشو. إلا أنه في نهاية الأسبوع، عند العشايا، ‏وأول المساء، يستقبل عددا من التلاميذ .. فيبَسّط ويشرَح .. ويوجّه وينبّه .. ويشجّع ويؤنّب .. ويعيد ويستعيد .. ثم ينهال عليه ‏الشكر عند التوديع .. ‏
وكان لا يمل من تنبيه الأطفال والجيران إلى أهمية النظافة للحفاظ على الصحة، ومجابهة عدوى الأمراض .. وأن الخطر يكمن ‏في التلوث .. وكان لتخويفه وتهويله أثرٌ كبير على صحتهم ـ بصفة عامة ـ، .. وانتشر بين الناس ـ بتلقائية ـ أتباع ينشرون نفس ‏النصائح والتوجيهات.‏

كان يستقبل في أوقات أخرى أصحاب الرسائل، لقراءتها لهم، أو الجواب عنها. ومن يرغب في تحرير شكاية .. وقد يتدخل ‏لإصلاح ذات البين بين بعض الأزواج، أو الجيران والأطفال المتشاحنين .. وقد يسدي نصائح لهم، ويذكرهم ببعض تعاليم الدين ‏في الموضوع ..‏
ما عرف عنه التزام بأداء الشعائر الدينية أو التعلق بمظاهرها وطقوسها .. ولكن الجميع يشهد له بالخصال الحميدة التي تُفتقد عند ‏كثير من "المريدين المخلصين" .. فلا أحد يجادل في استقامته، وأمانته، وصدقه، وصفاء طويته، وحبه للخير، وبذل المساعدة ‏قدر المستطاع، وإسباغ العطف على الصغار والمرضى والعجزة ...‏

لا يزوره أحد .. ولا تعرف له أسْرة .. يعيش بمفرده منذ سكن في هذا الحي، بعد الزلزال الذي عرفته إحدى المناطق .. يتكتم ولا ‏يفصح عن شيء من حياته الخاصة .. رماه سيّئو الظنون "بما شاؤوا من النعوت" فلم يغضب .. واكتفى بالابتسام الساخر كتعليق ‏‏.. ‏

ويوما ما غزت ساحة الحي بضع سيارات "رسمية"، و"استعمر" أفراد منها الزوايا والمداخل والمخارج .. وغاب آخرون لحظات ‏‏.. ثم عادوا وبينهم "المحترم"،... أركبوه .. انطلقت السيارات مطلقة "عواء" صفاراتها ..‏
كان الأطفال أكثر الناس إشفاقا على "اعتقال أستاذهم"، واستغرابا من مشيته "منتصب القامة" دون خوف أو هلع ممن يدفعونه ‏أمامهم .. جرت الأحداث بسرعة، وخلفت شبه صدمة بين سكانٍ لم يروا منذ زمان بعيد "سيارة رسمية" في ساحتهم. حتى سيارات ‏الإسعاف نادرا ما تصل إليها. ‏

عقدت المفاجأة الألسنة إلى حين، ثم بدأت التخمينات والتحليلات تتناسل. كانت في البداية تقال مشفوعة بجملة "والله أعلم". ثم ‏اكتسبتْ ـ بتعدد مصادر التكرارـ "الوثوقية والمصداقية واليقين". وكلما تنوعت منابع الإعادة، أضيفت تلوينات وتوابل .. فهو ‏‏"مختبيء بينهم" لأنه هارب من العدالة بسبب: "ملفات قديمة".. القتل .. المخدرات .. السرقة .. "الاشتغال بالسياسة" .. خلط ‏إداري في "تحديد" المبحوث عنه .. ‏
قال جار له: عندما لازَمَ الفراشَ طويلا ـ في إحدى المرات ـ كنت أدخل إليه أمرّضه وأنظفه، فرأيت على جسده آثار ندوب ‏وجراح مهولة، قد تعزى لمصدر لا يخفى.‏

ولجميع الجيران ـ المتحلقين في مجموعات ـ ما يحكون وما يقولون .. تبدأ بجملة: "بالنسبة لي ـ وفي إحدى المرات ـ قال لي .... ‏وقع لي معه ... "‏
وقف أحد الشبان وسط الجموع المتسائلة اللاغطة الكاظمة لمشاعرها ـ كان يلوّح بجريدة في يده ـ ويصيح بأعلى صوته ليسمع ‏أكبر عدد ممكن من الناس:‏
نَشَر في هذه الجريدة مقالا عن حيّنا، ينعى الفساد، ويقترح إصلاحات مستعجلة لتوفير حاجيات اجتماعية، لازمةٍ للحد الأدنى من ‏الحياة الكريمة، .. الرجل لا ينتظره "مصير مجهول" وسيعود عما قريب، بعد التحقيق معه، و"كشْف" رموز الفساد.‏
نزل صمتُ تخاذلٍ رهيب على الجموع كأن على رأسهم سيف ديموقليس*، حينما اقترح الشاب رفع عريضة ـ يوقّعها السكان ـ ‏إلى المسؤولين، للمطالبة بإطلاق سراحه.‏

أخذت "واقعة المحترم" تحتضر وتتقادم بتوالي الأسابيع والشهور .. وقلةُ الاهتمام بدأتْ تزحف عليها .. وغرق الناس كالمعتاد في ‏كفاحهم اليومي المعيشي .. والأسئلة التي أثيرت ـ في البداية ـ صارت حدّتُها تخفّ: ما حقيقة "تهمته" إن كان مذنبا؟ هل التعبير ‏عن رأي، له "صبغة جرمية"؟ أما زال معتقلا؟ هل أطلق سراحه وفضل الاستقرار بمكان آخر غير حيّنا؟ .. أين يكون الآن: على ‏وجه الأرض أم تحته؟ ‏
غير أن كل من ذكره يقول: كان شخصا فذًّا،عاش محترما: مقيما، وغائبا.‏


‏* لَمْعَلَّم: الذي يحذق إنجاز عمل، غالبا ما يكون يدويا.‏
‏* فَكَّاك لَوْحَايَل: حلال المشاكل. (المُعانِي من مشكلة، يشبه الغائص في الوَحل) ‏
‏* رمز لرهاب دائم.‏



#إبراهيم_رمزي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جذور
- مزج -المقدس- -بالمدنس-‏
- ذباب ابن حُريْرة
- رباعيات (10/10)‏
- رباعيات (9/10)‏
- رباعيات (8/10)‏
- رباعيات (7/10)‏
- رباعيات (6/10)‏
- رباعيات (5/10)‏
- رباعيات (4/10)‏
- رباعيات (3/10)‏
- رباعيات (‏‎2‎‏/10)‏
- رباعيات
- السيد صَهْ صَهْ
- اعتقال الموتى
- باب البغاء
- تعليل
- تلقين تاريخي
- التهاني بين الأمس واليوم
- كبرياء أنثى ‏


المزيد.....




- افتتاح الدورة 28 لمهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة
- حين تصفق السينما للنجم.. -فرسان ألتو- تكريم لروبرت دي نيرو ...
- وفاة مغني الراب الفرنسي من أصل كاميروني ويرنوا عن 31 عاما
- مصر تحقق إنجازا غير مسبوق وتتفوق على 150 دولة في مهرجان كان ...
- ذكرى -السترونية-.. كيف يطارد شبح ديكتاتور وحشي باراغواي ومزا ...
- بعد وثائقي الجزيرة.. كوثر بن هنية تحوّل مأساة هند رجب إلى في ...
- «هتتذاع امتى؟» رسميًا موعد عرض الحلقة 192 من مسلسل المؤسس عث ...
- مهرجان كان: الفلسطينية ليلى عباس تتوج بجائزة أفضل مخرجة في ج ...
- مهرجان كان: الفلسطينية ليلى عباس تتوج بجائزة أفضل مخرج في جو ...
- مستوطنون إسرائيليون يستهدفون ناشطًا فلسطينيًا بعد ظهوره في ف ...


المزيد.....

- اقنعة / خيرالله قاسم المالكي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - إبراهيم رمزي - المحترَم، مقيما وغائبا