أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - هواجس في الثقاف مقتطفات 59















المزيد.....

هواجس في الثقاف مقتطفات 59


آرام كربيت

الحوار المتمدن-العدد: 7889 - 2024 / 2 / 16 - 16:48
المحور: الادب والفن
    


جاء ابو ليفون بعد أسبوع من جلوسنا في العراء دون أي تواصل مع العالم الخارجي.
بالرغم من قصر قامته، صلعته اللأمعة، بيد أن لحضوره نكهة غريبة. يشعرك هذا الرجل بالونس والثقة والقوة. رجل خبير في كل شيء. باستثناء النوازع الشخصية التي لها علاقة بتكوينه النفسي. قال:
ـ لماذا أنتم هنا، ماذا حدث لكم حتى لا تعملون، لماذا الحصادة واقفة، قال ابنه انترانيك:
ـ نحن على هذه الحالة منذ أسبوع. لقد تعطل المحرك.
ـ تعطل المحرك، كيف؟
لم يتكلم، لم يقل كلمة.
أضاف انترانيك:
ـ ليس ذنبنا أن نجلس دون عمل. ولم يكن هناك مواصلات تربطنا بالمدينة. ولم يكن هناك طرق معبدة تربط الرقة برأس العين. لم يكن هناك طريق معبد إلى مسافة عشرين كيلو متر.
جاء مع أحد الباشات، في سيارة كرايزلر طويلة خضراء وبيضاء. سيارة جميلة لها هيبة. وكنا نتمنى أن نركب مثل هذا النوع من السيارات السريعة، سرعتها أكثر من 240 كيلو متر في الساعة. وبصحبتهم سيروب ابن ابو ليفون الذي يكبرني بثلاثة أعوام.
صعد إلى أعلى سطح الحصادة نوع كلينير، وقال:
ـ اعطني مفتاح 14ـ 15. قال له انترانيك:
ـ حاولنا ان نصلحها بيد أننا لم نستطع.
لم يتكلم. لم يقل شيئًا. بعد نصف ساعة تحرك المحرك ودار. قال:
ـ القليل من الاوساخ العالقة في مصفاة الكاز. يمكنكم أن تعملوا. ثم ذهب بصحبة الذين جاء معهم.
في الربع الأخير من شهر آيار الشمس تبدأ في التصاعد وتفتت الحجر والصخر. الحرارة لافحة في النهار بعد الساعة التاسعة صباحًا. والمنطقة التي نعمل بها بعيدة عن الأنهار والينابيع. والأرض مفروشة باللون الأسود، لون شعر الشعير وحاجباه. دبت الحياة في اوصالنا، ومضت الحصادة تعمل دون كلل. وبدأت سعادتي تتأجج وروحي ترقص فرحًا. وتتدفق رغبة وهيجانًا في معرفة المزيد. إن اكتشف الأرض والسماء وجنيات هذا الآلة المجنونة التي تفرم السنابل، وتقصهم وتبلعهم في جوفها. اصعد إلى أعلى السطح، أجلس بجانب السائق، أمد نظري فأرى الأرض مائدة تحتي. ويرقص السراب في الأفق أمامي، بهول التعرجات التي تمدها خطوط السنابل الجافة. وتزداد المسافات بعدًا على بعد، إلى أن تصل إلى ما لا نهاية.
أريد أن التهم كل ما يقع تحت عيني. الفضاء المفتوح يغريني ويبهج خاطري، ويحررني من القيود والجدران المغلقة ويجعل روحي طليقة. رغم الجفاف والحرارة والبعد عن أهلي إلا أنني كنت سعيدًا، بله في غاية السعادة أن أعيش بعيدًا عن المدينة. إن اكتشف السماء العارية والأرض العارية والمكان العاري. إن أدق أبواب السماء والشمس لأعرف ماذا وراء هذا الكوكب الذي يحملنا بصحبة ناس لا علاقة لهم بالعلم والمعرفة.
تجري الأيام في تلك الأوقات هادئة وديعة بسيطة. المجتمع في وطننا متماسك. لا حوادث تذكر. في داخل عقل وقلب كل سوري أن نتحرر من الوجود الاسرائيلي على أرضنا وأن يستعيد الشعب الفلسطيني أرضه وحقوقه.
كنت أرى الحياة بعين الطفل، جميلة، مملوءة بالأمل. في داخلي تمرد ورغبة بالبحث والاكتشاف في بيئة منفتحة.
لم نكن في أيامنا نعرف الانغلاق والتطرف أو الانكماش النفسي أو العقلي. ولم أر ما يلوح في الأفق عن عداوة بين الناس. فالجار للجار, والمسلم أخ للمسيحي أو اليهودي, والعربي للكردي وكانت الديكتاتورية طازجة, لم تترسخ جذورها في قيعان المجتمع. وشعاراتها براقة, تستقطب الكثير من اصحاب الدخل المحدود. خاصة بعد أن استفاد الكثير من العمال والفلاحين بمكاسب التأميم والاصلاح الزراعي.
لقد رحلت عماتي إلى أرمينيا في العام 1965 وجميع أقرباء أبي. بقي جدي وأبي وبعض الأقرباء المتناثرين هنا وهناك. وصلتنا بأقرباء والدتي كانت قليلة بسبب البعد. ولم أكن أحب بيت خالي في الحسكة لأن زوجته مريضة, منحنية الظهر طوال الوقت ومزاجها سوداوي. وابنها الذي يقاربني بالعمر لم اكن احس بيننا تلك الحميمية. كنت احب كرة القدم بينما هو لا يطيقها. كان وحيد والديه, مدللا, بينما انا لم اكن أعرف للدلال أي معنى. أحب الخشونة في الحياة. وامارس لعبة كرة القدم بمنتهى الجدية. اركض طوال الوقت, واسدد الكرة في الزوايا القاتلة. اتفنن في خداع حارس المرمى. واستمتع بنظرات الناس المندهشة بما أقوم به.
الحصادة تعمل, عنين صوتها يصل إلى عنان السماء. جالس بجانب العم عزو:
ـ انتبه, الطبلية في الجهة اليسرى اصطدمت بالأرض, ستحمل الاتربة والبحص, ستكسر المسننات وتتعطل الحصادة.
بروح قلقة ويدين راجفتين يصرخ بينما احدى يديه تبحث عن النابض الذي يرفع الطبلية التي تحمل السنابل وتدسها في جوف الحصادة:
ـ أين؟
ـ إلى اليسار.
ـ آه, مزبوط. يرفع عزو الطبلية. ويشرد. لم يكن يحب العمل. وربما لم تكن قيادة الحصادة من اساسيات مهنته. كنت استغرب ان يكون هناك إنسان يكره العمل في المواسم, والحرية. الحصاد متعة وعمل ومكسب. كنت يقظًا, متلهفًا, في أعماقي رغبة أن يطول الوقت لأبقى في هذا المكان. أرى المساحات المزروعة قليلة رغم أنها كانت كثيرة وتملأ الفضاء والسماء.
انتقل إلى الجهة الأخرى, إلى جانب الخياط, أرى كيف تمتلأ الأكياس بالحبوب. يغني الخياط إبراهيم بحزن مرات ويخيط ويضحك مرات. وبعد أن تمتلئ يدفعها لتنزل عبر رمبة ملساء إلى حين أن تتجمع عدة أكياس, يفتح السدادة ويفرغهم. يتحرك مثل المكوك, يخيط, يفتح السدادت, يدفعهم.
يمتلئ المكان إلى حيث يرقد الفضاء برعاة الغنم. بحار من القطعان تجوب الأرض بحثًا عن العلف والطعام. يجزون ما يتبقى من القش والسنابل الجافة, الفارغة. والنساء الريفيات يركضن وراء الحصادة ليجمعن القش ليكون غذاءً لمواشيهن.
بعد ستة أيام من الحصاد ليلًا, نهارًا انتهى الشعير, أصبح حبات سوداء في الأكياس المملوءة. انتقلنا إلى منطقة أخرى لنحصد القمح. كل قطعة في الحصادة يهتز, والسماء جافة وحرارة الطبيعة تزداد سخونة والهواء حارق. والعرق يتصبب من عروق الرجال, وتنفتح الحياة على ثنائية قمح وشعير. وأرض صفراء ملونة.
كما قلت سابقًا, لم يكن لدينا خيمة. نخيم تحت صهريج الماء. نهرب من الحرارة ونلجأ إلى الظل.
عاد ابو ليفون بصحبة سيروب ومعه خيمة. فرشناها بالقرب من قرية تعود لأحد الباشات, لا أعرف اسمه ولا اعرف اسم الضيعة. وكما هو معروف أن القرى في الجزيرة السورية تتألف من بضعة بيوت وفي احسن الحالات تتألف من عشرين بيتًا.
وجوه الرجال شاحبة, امزجتهم متقلبة, لا يعرف المرء ردات فعلهم. وغربة عميقة في عيونهم, التأفف والارباك جزء من جدلية تكوينهم النفسي. ينفعل بعضهم دون سبب يذكر واحيانًا يصرخ. واحيانا كثيرة يكونون لطفاء, مرنون, طيبوا المعشر. في المحصلة لا يوجد انضباط في سلوكهم. اعزي ذلك لبعدهم عن عائلاتهم, عدم التصالح مع الواقع أو عدم الانجسام مع العمل او لا يحبون العمل من اساسه. ففي مجتمعاتنا يحب المرء الجلوس, والتحدث في كل شيء دون أن يكلف نفسه عناء البحث عن زبدة الكلام وأبعاده وإلى أين يأخذ المرء. ثقافة أغلبهم شعبية, مستندة إلى أرث ثقافي قديم, يتكلون عليه, يعتمدون عليه في تسيير حياتهم. القصص الخرافية, الذي نسجها خيال الواقع عبر قرون عديدة خلت, الارث الديني وما وصلنا من أحاديث الفقهاء ومروجي الأفكار التي تبقي المجتمع في حالة سبات وتدفع لتأبيد السلطات.
احيانًا كثيرة يضرب النعاس عيون العم عزو, يسترخي على المقود وينام, بينما الحصادة تخط طريقها. اصرخ به:
ـ انتبه.
ـ يستيقظ كالمسوع. ويعدل مكانه ويقول:
ـ لست نائمًا. أنني أقود الآلة بشكل جيد. أقول:
ـ هل لك ان تعطيني دورة واحدة. بتردد, يقول:
ـ عشر دقائق, لا غير.
أقود الحصادة وذهني منفتح. وعقلي يعمل بكل طاقته. بينما عينا العم عزو تجوب الأفق, مخافة أن يأتي انترانيك أو ابو ليفون ويرون المشهد.
السنابل قصيرة, نضطر ان ننزل الحوض, الطلبية أكثر إلى أن تصل إلى مسافة قريبة جدًا من الأرض. واحيانًا كثيرة تصطدم بالأرض لقصر قامة السنبلة, المحصلة لنتاج موسم رديء, وبسبب شح المطر وانحسار الماء.



#آرام_كربيت (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 58 ـ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 57
- هواجس في الثقافة مقتطفات 56
- هواجس في الثقافة مقتطفات 55
- هواجس في الثقافة مقتطفات 54
- هواجس في الثقافة مقتطفات 53
- هواجس في الثقافة مقتطفات ـ 52 ـ
- هواجس في الثقافة مقتطفات 51
- هواجس في الثقافية مقتطفات 50
- هواجس في الثقافة مقتطفات 49
- هواجس ثقافية مقتطفات ـ 48 ـ
- هواجس ثقافية مقتطفات 47
- هواجس ثقافية مقتطفات 46
- هواجس في الثقافة مقتطفات 45
- هواجس في الثقافة مقتطفات 44
- هواجس في الثقافة مقتطفات 43
- هواجس في الثقافية مقتطفات 42
- هواجس في الثقافة مقتطفات 41
- هواجس في الثقافة ـ مقتطفات ـ 40 ـ
- هواجس في الثقافة مقنطفات 39


المزيد.....




- “مش هتقدر تغمض عينيك” .. تردد قناة روتانا سينما الجديد 1445 ...
- قناة أطفال مضمونة.. تردد قناة نيمو كيدز الجديد Nemo kids 202 ...
- تضارب الروايات حول إعادة فتح معبر كرم أبو سالم أمام دخول الش ...
- فرح الأولاد وثبتها.. تردد قناة توم وجيري 2024 أفضل أفلام الك ...
- “استقبلها الان” تردد قناة الفجر الجزائرية لمتابعة مسلسل قيام ...
- مونيا بن فغول: لماذا تراجعت الممثلة الجزائرية عن دفاعها عن ت ...
- المؤسس عثمان 159 مترجمة.. قيامة عثمان الحلقة 159 الموسم الخا ...
- آل الشيخ يكشف عن اتفاقية بين -موسم الرياض- واتحاد -UFC- للفن ...
- -طقوس شيطانية وسحر وتعري- في مسابقة -يوروفيجن- تثير غضب المت ...
- الحرب على غزة تلقي بظلالها على انطلاق مسابقة يوروفجين للأغني ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - آرام كربيت - هواجس في الثقاف مقتطفات 59