الكذب والسّرقة من خلافة الكلمة إلى إمبراطورية العلامة

محمد خريف

الحوار المتمدن-العدد: 7819 - 2023 / 12 / 8 - 15:24
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    

تظل "مسألة الكذب والسّرقة" قيمة أخلاقيّة منبوذة في نطاق مايُعْرف بعلم الفقه اللغويّ الذي جعل كسائر العلوم الأخرى المساعدة لخدمة"مسالة الصّدق والأمانة" باعتبارها قيمة أخلاقيّة ربّانيّة يقوم نظام الخلافة في البلاد العربيّة الإسلامية بواجب حمايتها ونقلها من جيل إلى جيل ومن حقبة سياسية إلى أخرى تبدأ بفترة الخلافة الراشدة وتنتهي بالخلافة العثمانية مرورا بالخلافة العباسيّة.
ولعلّه من الوجيه الإشارة إلى أن شعار نبذ "الكذب والسرقة" كان يرفع على الدّوام وهما ،إذ لا صدق ولا أمانة لخليفة دون آخر ولا يخلو نظام خلافة من من كذب وسرقة تجسّدها أدبيّات التولية والخلع تزكّيها الأدْعية والخطب الدينيّة المناصرة لهذا الخليفة دون الآخر في ظل الاِعْتقاد الرّاسخ في وجود توافق منطقيّ بين مدلول الكلمة ودالها قبل الاستئناس بنظرية دي سوسير الخاصة باعتباطية العلامة الألسنيّة في العصر الحديث وما ترتّب عنها من علوم أهمها علم السّيمياء الحديث الذي أحدث ثورة قلبت المفاهيم فجعلت من "الكذب" ظاهرة جماليّة سيميائيّة مذهلة بشّرت بها كتب النقد و الفلسفة والأدب ،فكان بارط وفوكو ودرّيدا وصار للكذب أو الزّيف قوّة مع امبرتو أيكو.


أيكو وقوّة الزائف

تربّيت مثل غيري في مدرسة المثل تتبنّى "ثقافة البحث عن الحقّ ومناصرته في مقابل ثقافة التغاضي عن الزيف ونبذه" لكن قراءتي لفصل "قوّة الزائف " لأمبرتو أيكو" في كتابه في "الأدب " كانت حافزا لي على الذهاب في طريق مختلفة ألا وهي طريق من خانته ركبة اقتفاء اثر من ضحوا بأرواحهم واستشهدوا في سبيل رفع راية الحقّ فخاب أمله أمام سطوة الزّيف بما فيه الكذب والسرقة وقدرته الفائقة على التحكم في مصيرا لكون-فالزيف باعتباره كذبا أي تزويرا أو سرقة أي اختلاسا لجهود الغير المادّية والمعنويّة له قدرة على تغيير تاريخ العالم وهي قوّة لا تعدلها أية قوة ولو كانت قوة الحقيقة الالاهية وفي ذلك يقول ايكو :" لكن التجربة علمتنا أن الحقيقة تأخرت في فرض نفسها ،وأن الحصول عليها ثمنه دموع ودم "وهنا لعله من الشرعي الحديث عن قوة الزّائف(ص 360) .
هذا الفصل القيّم أغراني بقراءته لما فيه من تخريجات سيميائيّة جريئة دقيقة طريفة ترفع من شان الزّيف وتجعل له إمبراطورية يعيش فيها البشر منذ آلاف السنين.هذا و تستمد سيمائية الكذب مشروعيتها من دراسة المنظومات العلاماتيّة لمدوّنات زيف الأساطير الثقافية والمعتقدات الدينيّة التي صارت بقوّة الزّائف وألوان حبكته التمويهيّة حقائق أبديّة ربّانيّة ينضاف إليها دراسة سيميائيّة لمدوّنات زيف الساسة والمؤرخين والجغرافيين وحتى الفقهاء والمفسرين من شيوخ التحليل و التأويل، و زيف بطليموس لا يزال يلاحقنا مهيمنا على حياتنا، فنحن رغم أننا نقول بدوران الأرض حول الشمس فإننا لانزال نقول بشروق الشمس وغروبها وولا يزال بعض من العلماء يعتبر أن فكرة الكون زائفة وهي وهم وأن عالما آخر من خارج المادّة هو عالم الغيب الحق ترنواليه النفوس المؤمنه الطاهرة وتشتاق فيه تصدق ولا تكذب وفيه تؤمّن ولا تخون، ولعلّ مبحث أيكو السّيميائيّ يُغري بمواصلة البحث في ما شرع فيه تصريحا وتلميحا في نطاق ما صرف من عمر في دراسة سيميائية الكذب رواية ونقدا. وهو في هذا الفصل النقديّ الذي نجد له صدى فيما يستنبطه نقاد* من قراءة رواية اسم الوردة. ولعلّ الطريف أن يقول أيكو في خاتمة مقاله : "إنّ واجب الإنسان المثقف أن يظل في حالة طواريء ليكتب كل يوم الموسوعة الكونية."
هذا االفصل جدير في نظري بعناية المترجمين و والباحثين المفترضين لعلهم يعدلون مواقفهم فيقفون على مالم يكن في حسبانهم، ففي الوقت الذي كانت فيه قوة الزّيف من الأمور المسكوت عنها لأنها داخلة في حكم الميتافزيقيا وما تفرضه من واجب التسليم الاعتباطي للسيميا التقليديّة فإنّها صارت مع أيكو وغيره موضوعا للدراسة وهي الدراسة السّيميائية للكذب وما يدخل في حقول الإيهام بغير الواقع والكذب سبيله سبيل الوهم معقّد مُلتبس صارت له جماليّة، بعد أن كان سلوكا منبوذا من الناس من يعتبره قدرا ميتافيزيقيّا ربّانيّا منزّلا لاظاهرة سلوكيّة بشريّة أي فعلا فيزيائيّا سيميائيّا .
*(انظر في الأدب لامبرتو ايكومنشورات قرساي وفسكال 2003 بالنسبة لطبعةالفرنسية)ا
Umberto Eco :De la littérature ,éditions Grasset &Fasquelle .2003 pour la traduction française .

#محمد_خريف (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات